صلابة حجر .. ورقّة بشر: أكراد العراق إلى أين؟

  صلابة حجر .. ورقّة بشر: أكراد العراق إلى أين؟
        

عدسة: طالب الحسيني

فوق سفح جبل "الجودي" كان مهد البشرية الثاني بعد الطوفان. انطلقت من هناك لتعمر شتى بقاع الأرض وعلى سلاسل كردستان الصخرية الصارمة سال الدم بحوراً ليروي أرضها بملاحم عن رابع أكبر قومية في الشرق الأوسط، ذات حضارة عريقة، ودون كيان. إنه الواقع العجيب. واقع شعب طال شموخه قمم جباله، وبقيت أحلامه تلامس قيعان أوديته السحيقة!!

         أمجنونان أنتما؟ صرخ أحد الأصدقاء فينا عندما أخبرته وزميلي بتأهبنا للسفر إلى كردستان العراق, قبل أن يصمت برهة ثم يسألنا بأسى إن كنا كتبنا (وصايانا) أم لا؟

         كان السؤال كفيلا بأن يعيد تجديد مخاوف ظلت ملازمة لنا منذ اقترح رئيس التحرير إجراء استطلاع عن ذلك الجزء الغامض من الوطن العربي, والذي كانت ملامحه الكامنة في مخيلتنا, لا تبتعد كثيرا عن صورة رجال يعيشون في الجبال, ليست لهم حضارة, يلبسون زياً معيناً ويتأبطون سلاحاً يطلقونه باتجاه الآخرين ونحو بعضهم أيضا, وأحسب أن هذه الصورة التي لازمتنا طويلا هي ذاتها التي مازالت راسخة في أذهان غالبية كبيرة في منطقتنا وربما في معظم أرجاء العالم.

         كنت وزميلي من هؤلاء الذين يتقدمون خطوة تجاه هذه المغامرة, ويتراجعون عشرات الخطوات, فقد كان الرعب يجتاحنا ونحن نقرأ عن هؤلاء الذين يسكنون تلك البقعة ولا تصلنا عنهم إلا أخبار القتال والاقتتال والمعارك التي لا تنتهي والجبال التي ارتوت دما, وحقول الألغام وصور الدمار والكوارث.

         ولكن شيئا ما, كان يدفعني وزميلي لارتكاب تلك المجازفة, ربما لأن للغامض دائما سحره. تماما كما أن للمرء قدرة, انطلقنا وفي الطائرة التي حملتنا كانت ملامحنا تدعو للرثاء, كل منا يتمتم بكل ما يحفظه من آيات قرآنية, لعدة مرات, ودون اتفاق, وظل الحال هكذا لوقت طويل.

في حضرة المحرقة

         هبطت سيارة اللاندروفر في منحدر جبلي أفضى بنا إلى ساحة النهر, حيث (دجلة) الذي تغنى به الشعراء رائقاً كعادته, يبدو أمامنا مباشرة, استغرق القارب الصغير دقائق معدودة في انطلاقته شبه الملتفة كي يصل بنا إلى الطرف الآخر من نهر بدا منكسرا يكسوه حزن ووجل, لنبدأ أولى خطواتنا في أرض إقليم كردستان العراق.

         جاءت اللافتة المنتصبة أعلى تل مرتفع يطل على دجلة (مرحبا بكم في كردستان) لتكون كماء مثلج أطفأ رهبة الانتقال إلى مجهول, فيما صبت حرارة الود الذي لمسناه لدى الشعب الكردي منذ بداية الطريق, شعوراً بالسكينة كنا في تلك اللحظة أحوج ما نكون إليه, مما جعلني أتذكر قول المسعودي في كتابه الشهير (مروج الذهب) عن أصل هذا الشعب: (انهم طائفة من الجن كشف الله عنهم الغطاء)!! فأي جن في قسمات وجوه ناضحة بالبؤس وبالطيبة معا؟

         ظلت الجبال هي القاسم المشترك في رحلتنا, فهي أول ما صافحته أعيننا, ملازمة لنا طوال الطريق, وفي أطراف المدن وداخلها, كانت الأحزمة الجبلية تبدو شديدة الجهامة في هذا التوقيت الذي وصلنا فيه إلى هذه المنطقة وهي تعاني من جفاف قاس امتد للعام الثاني, وأحال الجبال إلى بقع هائلة من اللون الداكن, والاشجار إلى أنصبة خشبية منزوعة الأوراق, غير أنه من بين تلك السلاسل الجبلية التي ظهر بعضها من بعيد, أشبه بخناجر حجرية متجهة إلى السماء كانت السحب البيضاء تبدو وكأنها قطع منثورة من القطن, تستريح لبرهة عند السفح الشاهق قبل أن تستأنف المسير.

         قبل أن يتوارى قرص الشمس, توقفنا عند حالة أبهجتنا, كانت حلقة من نساء يرتدين ألوانا زاهية, ورجال بالزي الوطني التقليدي والملابس الأوربية أيضا, تتشابك أياديهم في رقصة (الراستية) الأشبه بالدبكة الشامية, يدورون لجهة اليمين, فيما كانت المزامير تنطلق مصحوبة بدقات عالية لطبلة ضخمة, كانت زفة العرس الكردية, تدور في ساحة مفتوحة جوار الطريق السريع, وكان العريس ببذلته الأنيقة ورباط عنقه إلى جوار عروسه بملابس الزفاف البيضاء, يحيطهما الأصدقاء قبل أن يوجهوهما إلى ساحة الرقص لترتفع الأيدي المتشابكة ثم تهبط مع حركة الأرجل والجسد في اتجاه التفافة الحلقة الدائرية.

نفط ولا ضوء

         في دهوك التي استضافت ليلتنا الأولى في اقليم كردستان, كان الضوء خافتا, فتلك المحافظة كباقي المناطق الكردية تعاني من شح في الطاقة الكهربائية وفي البترول الذي يأتي ـ وفقا لتعبير أحد المسنين المحليين (بالقطارة) من محافظة الموصل الواقعة تحت ادارة نظام الحكم في بغداد, ويعتمد الأهالي في تلك المنطقة العائمة فوق بحر من النفط, على مولدات أهلية للطاقة الكهربائية وعلى صفائح البنزين المهربة التي تباع على الطرقات في كل مكان بكردستان لأصحاب السيارات والمولدات.

         في اللحظة الأولى لوصولنا إلى أحد الفنادق الأهلية التي بنيت حديثا في دهوك, ادهشنا أن نشاهد العديد من القنوات التليفزيونية باللغة الكردية, إلى جانب القنوات الفضائية العالمية, ولما سألنا عن ذلك, فوجئنا أن في دهوك وحدها أربع قنوات تلفزيونية محلية واحدة للحكومة المحلية والآخريات للأحزاب, إلى جانب العديد من المحطات الأذاعية, في الوقت الذي تحفل فيه أربيل العاصمة التاريخية بقناة كردستان الفضائية, وبعشرات القنوات التلفزيونية الحكومية والحزبية, وتحفل السليمانية التي يطلق عليها العاصمة الثقافية بقناة فضائية حديثة (كردسات) وعشرات أخرى من القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية.

         بعد ساعة واحدة من وصولنا إلى دهوك, استقبلنا المحافظ الذي قطع جولته وعاد ليستقبلنا تقديرا منه لمجلة (العربي) وهو تقدير لمسناه في كل مكان زرناه في مدن ومحافظات الاقليم الكردي في اجهزة الإدارة المدنية, ودور العلم والفنون والثقافة ووسائل الإعلام, كما في بيوت العائلات الكردية التي لا تخلو مكتبة فيها من مجلدات تضم معظم اعداد مجلة (العربي) فيما حدثنا عشرات من الذين قابلناهم خصوصا الأكبر سنا عن دور مجلة (العربي) في تكوينهم الثقافي والمعرفي.

موقع ممتاز

         التقينا محافظ دهوك عبدالعزيز طيب (أصبح الآن وزيرا للتربية في التشكيلة الرابعة للحكومة التي أعلن عنها بعد مغادرتنا لأربيل بيوم واحد) حدثنا بحماسة شديدة عن مستقبل تلك المحافظة التي تقع في منطقة المثلث السوري التركي العراقي, الأمر الذي ساهم في تنشيط الحركة التجارية فيها, مشيراً إلى أن أنبوب النفط الذي يصب في ميناء جيهان يمر منه نحو 12 كيلومترا في اراضي المحافظة, فيما يمر الخط البري الذي يربط تركيا بالعراق في دهوك, مؤكدا أن الموقع الجغرافي الممتاز ساهم في رفع مستوى المعيشة لسكانها بشكل أفضل من المحافظات الأخرى.

         في صباح دهوك الباكر كان مشهد المدينة أشد بهاء, فمن الطابق الرابع لفندق (سولاف) كان الميدان الرئيسي يعج بالحركة تتوسطه اشارتا مرور كان احترامهما بادياً من سائقي سيارات التاكسي الصغيرة الحجم بيضاء اللون من المنتصف والبرتقالية من جانبيها الأماميين والخلفيين, ومن السيارات الخاصة والباصات متوسطة الحجم, وكانت اطباق الفضائيات تتوزع فوق البيوت ذات الطابق الواحد في غالبيتها, فيما لافتات المحلات تتقاسمها اللغتان الكردية والعربية, ويلوح من بعيد فندق شيراتون حديث البناء, اضافة إلى سوق MAZI المركزي هائل المساحة والذي بني برأسمال أهلي وحزبي ـ وحين زرناه فيما بعد ادهشنا تنظيمه البديع ـ وكانت المدينة مرتمية في حضن سلسلة جبلية ملتفة, فيما البيوت تتدرج من مساحة الأرض المنبسطة الضئيلة صعوداً إلى ما تستطيع الوصول إليه من الارتفاع الجبلي.

         تجولنا في تلك المدينة التي يعود عمرها إلى ما قبل ألف عام, والتي توسعت خلال الـ 04 سنة الماضية, وازداد توسعها بعد الانتفاضة, دخلنا أسواقها المتلاصقة, التي تعج أزقتها وشوارعها المتسعة بالبشر, كان المنظر يبدو كيوم الحشر, فلا مكان لقدم إضافية.

         ومن سوق دهوك  انطلقنا إلى المتحف الفولكلوري الذي انشىء في العام 1998,قبل ان نعرج على (جاليري دهوك) الذي يضم في قاعاته الأربع نحو 90 لوحة للفنانين التشكيليين في المحافظات الكردية الثلاث.

         في معهد الفنون, كانت الطالبات يجلسن في الباحة ويعزفن على آلاتهن الموسيقية, وسط خيوط ساطعة لشمس بدايات ديسمبر بعد أن اختفت أمطاره من دهوك, فيما ألقت بعض السحب زخاتها على أربيل والسليمانية.

         أخبرنا مدير المعهد رشيد فندي ان انشاءه تم عام 1993 ليكون أول معهد من نوعه في تلك المحافظة, التي لم تشهد أي مقر للفنون في الفترة التي سبقت الانتفاضة.

صرح علمي حديث

         لا أحد في دهوك يدع الفرصة تمر دون الحديث عن الجامعة, فهذا الصرح الذي بني بسواعد وعقول ابناء ذلك الإقليم, يدفع المواطن الكردي إلى شعور بالزهو ليس له حدود.

         في مقر رئاسة جامعة دهوك قال لنا الدكتور عصمت محمد خالد مدير الجامعة ان انشاءها تم في ظروف صعبة للغاية, ففي الوقت الذي يعيش فيه الشعب الكردي تحت حصارين, وبعد أن عانى من تدمير بنيته التحتية في عمليات (الأنفال) صدر فجأة عقب الانتفاضة قرار بمنع الأكراد من الالتحاق بالجامعات العراقية الأخرى, تماما كما حدث في جميع المؤسسات المهمة, ولم يكن في كردستان العراق سوى جامعة واحدة في اربيل تستوعب ثلث الطلبة الذين يتخرجون من الثانوية, فأصدرت حكومة الإقليم قرارا بتأسيس جامعة دهوك, واعادة فتح جامعة السليمانية التي كانت قد أغلقت قبل عدة سنوات.

         على الطريق من دهوك إلى نقطة فيش خابور الحدودية, يقع مبنى كلية الآداب, التي تأسست عام 1994.

         ويقول عميد الكلية الدكتور عبدالفتاح بوتاني ان الاهتمام حاليا ينصب على اللغة الكردية في التدريس (لأن شعبنا حرم من لغته).

الطريق إلى أربيل

         صباحاً انطلقت بنا السيارة متجهة إلى أربيل والعاصمة التاريخية لإقليم كردستان العراق, كانت جالونات البنزين البلاستيكية متراصة على جانبي الطريق الذي سلكناه داخل دهوك, قبل أن ينحرف السائق إلى جهة اليسار ليقابلنا تمثال ضخم للزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني أحد القادة التاريخيين ذي المكانة العالية لدى ابناء شعبه. على الجانبين أحياء متناثرة, وبيوت واطئة تبدو كأنها اشجار منبثقة من بطن جبال عملاقة, ومساجد ذات قباب صغيرة ومآذن رفيعة للغاية وخضراء وسط بياض البناء.

         جبال يتبدل لونها من مكان إلى آخر, من جبل عال إلى سلسلة صخرية شاهقة, لا يفصل بين الجبل والآخر سوى جبل أيضا, ولا طريق هناك الا بين الجبال أو في موازاتها, ما يدفع إلى الذاكرة ذلك المثل الكردي (لا أصدقاء للكرد سوى الجبال), وهو واحد من مئات الأمثال والحكم التي يتداولها الأكراد والتي تدور بشكل أو آخر حول الجبال أو فترات القتال عن الهزائم والانكسارات والتحدي والصمود والانتصارات.

         حياة حافلة تلك التي عاشها سكان تلك المنطقة, وشهدت فيها كل صخرة في جبل من تلك السلاسل حدثاً أو معركة ترتبط معها في ذاكرة الأكراد, الآن ذهب وقت القتال, وانتهت الأحداث أكثرها مرارة وأسعدها وبقيت الجبال وصخورها بأشكالها القاسية.

الأصل والأساطير

         بيئة الجبال المنيعة والهضاب المتداخلة لم تترك تأثيراتها على الأكراد فقط, بعد أن جعلت الشخصية الكردية أشبه بقطعة جبلية شديدة العناد والاصرار, وصنعت منها شخصية مقاتلة بالفطرة, بل جعلت كل الروايات عن أصول الأكراد تدور حول الجبال وان بتنويعات مختلفة, لعل من أشهرها ما أورده الرحالة العربي المعروف على بن الحسين المسعودي (مولود في بغداد من عائلة تنتسب إلى الصحابي الجليل ابن مسعود) في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر) الذي ألفه قبل 1087 عاما ويقع في خمسة أجزاء, والذي يقول فيه ان أجناس الأكراد وأنواعهم تعود إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان, من بكر بن وائل, (انفردوا في قديم الزمان وانضافوا إلى الجبال والأودية لأحوال دعتهم إلى ذلك).

         يستطرد المسعودي أيضا قائلا: (ومن الناس من رأى أن الضحاك ذا الأفواه.. خرج بكتفيه حيتان فكانتا لا تغذيان إلا بأدمغة الناس, فأفنى خلقاً من فارس واجتمعت إلى حربه جماعة كثيرة.

         وقد كان وزير الضحاك كل يوم يذبح كبشاً ورجلاً ويخلط أدمغتهما ويطعم تينك الحيتين اللتين كانتا في كتفى الضحاك ويطرد من تخلص إلى الجبال, فتوحشوا وتناسلوا في تلك الجبال, فهم بدء الأكراد وهؤلاء من نسلهم وتشعبوا أفخاذاً).

         لكن أصل الأكراد ليس محصورا في روايات المسعودي, وأساطيره الغريبة, فالبحوث والدراسات الانثربولوجية التي قام بها في الغالب باحثون غربيون نسبت في معظمها الأكراد إلى جنس آري من قبائل هندو ـ أوروبية).

         واصلنا السير في طريقنا إلى مدينة أربيل التي يفصل بينها وبين دهوك نحو 300 كيلومتر لكن قطع الطريق يحتاج إلى ما بين 4 إلى 5 ساعات في طرق جبلية ليس بها خط مستقيم فالصعود المتكرر للجبال والالتفافات والانحناءات الكثيرة تأخذ الوقت وأحيانا الاحساس بالسكينة, بدت بعض القمم الثلجية كأغطية رأس بيضاء فوق عدد من الجبال, قبل أن يلفت انتباهنا السائق إلى سلسلة جبال (متين) العملاقة التي كنا اقتربنا منها واتضح لنا فيما بعد أنها من أكثر الجبال شهرة, وأن اسمها يطلق على عدد من المحلات في الاسواق, وعلى مجلة ثقافية أدبية قيمة تصدر في دهوك شهرياً.

         مازالت السماء قريبة جدا من فوقنا حتى ليخال المرء أن السيارة التي تنطلق بنا أعلى احدى السلاسل الجبلية, تحمل السحب على رأسها.

         عند الهبوط من أعلى تتوزع محلات صغيرة لبيع المشروبات الباردة, واللحوم كلما اقتربت البيوت ذات الطابق الواحد المبنية من الأحجار حيناً ومن (الطين) أحيانا كثيرة, فيما كانت اللافتات الخشبية تشير إلى أسماء القرى والمشاريع الخدمية باللغة الكردية التي تكتب بالحروف العربية, هذه اللغة الكردية التي تتكون من أربع لهجات هي الكرمانجية والصورانية والزازية والهورامية, وتكتب تلك اللغة بثلاث أبجديات: بالحروف العربية في العراق وإيران, وبالحروف اللاتينية التي تتكون من 33 حرفاً في تركيا وسوريا وبالسريانية في أرمينيا وجمهورية اذربيجان.

مداهمة الظلام

         يمضي الطريق بنا, وتتزايد أعداد القرى, التي تم اعادة بنائها فوق قرى أخرى كانت قد هدمت في حملة الانفال الشهيرة التي نفذها صدام حسين ضد 4500 قرية كردية وقام بمسحها تماما من فوق الأرض, كانت تفصل بين القرى الجديدة وبعضها مرتفعات جبلية وهضاب متباعدة, ولكن على الرغم من أن كل مجموعة من القرى كانت تشترك في مدرسة واحدة ومركز صحي, فإن يومها كان ينتهي في الساعة الخامسة مساء عندما كانت الشمس تغرب مختفية خلف الجبال الشاهقة, ويحل الظلام دامساً, فيما كانت الحركة تتوقف على الطريق الذي يمنع فيه سير السيارات اعتبارا من تلك الساعة, هذه القرى لا تسبب ازعاجا للأجهزة الإدارية إذ إنها تعتمد على نفسها مكتفية ذاتيا, وسكانها الذين يقومون بتربية الماشية ويعملون على رعيها, يبيعونها في الأسواق القريبة معتمدين عليها في حال تأخر هطول الأمطار, مستبدلين بالزراعة الرعي.

         وفي القرى يرتفع عدد أفراد العائلة الكردية ليصل في المتوسط إلى عشرة أفراد, متخطيا المتوسط الموجود في المدينة والبالغ سبعة أفراد, فيما يكون الزواج بامرأة واحدة هو السمة الغالبة ويقتصر تعدد الزوجات على الأغنياء وزعماء العشائر.

غذاء وجفاف

         بعد أن قطعنا مسافة طويلة وصلت بنا السيارة إلى منطقة (بيخمة)لنرى نهر (الزاب الأعلى) يطل رائعا من بعيد, محاذياً لسلسلة جبال (قنديل). والزاب الأعلى هو واحد من خمسة روافد لنهر دجلة تمر داخل اقليم كردستان وتشمل أيضاً: الخابور والزاب الأدنى وديالي والهيزل وتشكل هذه الروافد التي تضم نحو 27 بليون متر مكعب من المياه واحدة من ثلاثة موارد مائية ذات أهمية بالغة للمحاصيل الزراعية في ذلك الإقليم وأهمها جميعا الأمطار والثلوج التي تشكل المورد الأساسي فالأمطار تسقط ـ في غير مواسم الجفاف ـ تسعة أشهر في السنة على مدار ثلاثة فصول, أما الثلوج فتسقط على مناطق الإقليم الجبلية سنويا وفي شهر يناير تحديدا, ثم تبدأ بالذوبان في شهري أبريل ومايو.

         وفي رأي نائب رئيس جامعة السليمانية للشئون العلمية والدراسات العليا الدكتور أوميد أمين الذي التقيناه خلال جولتنا, أنه لو استطاعت كردستان العراق تحويل المناطق التي تعتمد الزراعة الديمية (الأمطار) إلى مناطق إروائية (تعتمد على الأنهار والآبار) فإن باستطاعتها انتاج غذاء يكفي 24 مليون إنسان, وهو لذلك يشير إلى أن البطالة المقنعة التي تعاني منها المنطقة يمكن توظيف طاقاتها إذا تم التعامل مع الزراعة بشكل علمي.

         وإلى جانب أراضيها الزراعية وثروتها الحيوانية ومياهها فإن أرضها تختزن كميات كبيرة من المعادن (ذهب وفضة ونحاس وصلب وفولاذ ورصاص وفحم حجري), إضافة إلى ثروة نفطية هائلة توجد في مختلف أجزاء كردستان ويعتقد معظم الأكراد أنها كانت بمنزلة اللعنة على سكانها الذين توزعوا بين عدد من الدول والذين يتراوح عددهم وفقا لبعض المصادر ما بين 30 إلى 38 مليون نسمة, منهم من 12 ـ 16 مليونا في تركيا, ومن 6 ـ 8 في إيران, ومن 4 إلى 5 ملايين في العراق, ونحو 5,1 مليون في سوريا, إلى جانب 10 ملايين يعيشون في عواصم هذه الدول والمدن الكبرى فيها (فعلى سبيل المثال هناك 3 ملايين في اسطنبول ومليون في طهران ونصف مليون في دمشق وحلب), إضافة إلى الأكراد الذين يعيشون في أرمينيا وجورجيا واذربيجان, وكذلك في لبنان والمهاجرين في دول أوربا, وأيضا الذين يتواجدون منذ القدم في باكستان والهند وافغانستان.

         وتشير تلك المصادر إلى أن مساحة اقليم كردستان العراق تصل إلى 79000 كم2 وتمثل نحو 18% من مجموع مساحة العراق وتضم محافظات دهوك وأربيل والسليمانية وكركوك (التأميم), إضافة إلى جميع نواحي وأقضية محافظة نينوي عدا أقضية الموصل والبعاج والحضر, وتضم أيضا أقضية خانقين وكفري ومندلي عدا ناحية بلدروز في محافظة ديالي, فإن مساحة كردستان العراق تمثل نحو 15% من مساحة كردستان التي تذكر الأدبيات الكردية أن مساحتها الكلية تصل إلى 500 ألف كم2, منها 230000 كم2 في تركيا تشكل 30% من مساحة البلد و46% من مساحة كردستان, ومنها 125000 كم2 في إيران تمثل 7% من مساحة البلد و25% من مساحة كردستان (مع التحفظ على مدى دقة هذه الأرقام).

أشجار نائية

         بعد وقت طويل في سفر مجهد وصلنا إلى سلسلة جبال ارتمت في أحضانها (شقلاوة) المدينة السياحية الجميلة, التي انتشر في مداخلها عدد من المطاعم والفنادق, فيما شاهدنا أشجار صغيرة نابتة وسط جبالها بشكل يكسر خشونة صخور قابلتنا واشجار سوداء داكنة.

         كان مصيف صلاح الدين متراميا فوق هضبة جبلية, لا محاطا ببحار ولا أنهر ومع ذلك بدا مدخله رائعا, منذ أن صعدت بنا السيارة في الطريق الجبلي لتصل إلى المصيف الذي انتشرت فيه (الشاليهات) بعد عبور المدخل كانت الفنادق الحديثة ومحطات البنزين ومركز الشرطة ومطاعم الكباب بأجنحة خاصة للعائلات, إلى جانب الشوارع النظيفة المتسعة والميادين الفسيحة والأشجار التي تكسو الطريق منظرا جميلاً, وتخفف بعض العناء عن النفس.

         دخلنا بعد ذلك في طريق يقترب من سلسلة جبال, قبل أن يهبط بنا دائراً في منطقة الـ (14 لفة) الجبلية الشهيرة في المنطقة, حتى يصل إلى الطريق المتجه إلى أربيل الذي يبدأ مزدوجا ثم يتفرع إلى طريقين متسعين للذاهبين والقادمين, اقتربنا من مدينة التاريخ العريق لتبدأ الاعلانات عن الفنادق ومحلات الأثاث ومحطات غسيل السيارات, ندخل إلى المدينة حيث يتسع الطريق وينتظم السير.

عبق الحضارة

         نحن الآن في حضرة أقدم مدينة مأهولة في التاريخ, إذ سكنها البشر لأول مرة في شكل قرى زراعية منذ ستة آلاف سنة قبل الميلاد, عندما بدأ تكوين الحياة الاجتماعية البسيطة, ورغم الغزوات الكثيرة التي تعرضت لها, فإن الحياة لم تنقطع فيها أبداً وظلت عامرة بالحياة منذ نشأتها وحتى الآن.

         في كل مكان في أربيل يبدو عبق التاريخ واضحا, متجسداً في تلك القلعة الهائلة البناء والمرتفعة لأكثر من 42 مترا عن الأرض, والتي تتخذ المدينة شكل الدائرة حولها حتى أنها تبدو كالقلب منها.

         من شارع الستين الذي يسمى بهذا الاسم نسبة إلى عرضه, انطلقنا إلى قلعة أربيل. من بعيد يقبع في مدخلها تمثال ضخم لابن المستوفي المؤرخ والوزير في عهد الملك مظفر الدين كوكبري والذي ألف العديد من الكتب اهمها (تاريخ أربيل) الذي أصدره في أربعة مجلدات.

         أفضى بنا الطريق الصاعد إلى القلعة نحو الباب الرئيسي, الذي يرتفع بدوره عبر سلالم أسمنتية, ليصل إلى احياء أخرى في ساحة القلعة بها العديد من المنازل الأثرية المسكونة, وشوارع يقف فيها البائعون الجائلون بعرباتهم الخشبية, ندخل مباشرة إلى القلعة التي تخبرنا لوحة ضخمة مكتوبة باللغة العربية أن سبع حضارات مرت هنا, ففي المكان الذي وقفنا فيه والذي تحاول مديرية الآثار في كردستان بإمكانات متواضعة للغاية الحفاظ على عبق القيمة التاريخية والحضارية فيه, انطبعت آثار الغزاة والفاتحين, ترك بعضهم بصماته القوية, وفضل آخرون ايداع الدمار في ذاكرة التاريخ.

         مدير الآثار كنعان المفتي الذي حضرنا في ديوانيته احياء لإحدى ليالي شهر رمضان المعظم, احتشد فيها العشرات من عاشقي المدائح النبوية باللغتين العربية والكردية, والذي ورث عن والده مكتبة ضخمة قيمة, أخبرنا أن أربيل هي أول مدينة في العالم الإسلامي قامت باحياء المولد النبوي في عصر السلطان كوكبري حيث كانت الاحتفالات تمر في شوارع المدينة يتقدمها 700 من حملة الشموع اضافة إلى حاملي (الصواني), لدرجة أن احياء كل ليلة من ليالي الشهر الفضيل أصبح يطلق عليه (المولد النبوي).

         من معالم أربيل المهمة التي رأيناها ايضا, المنارة المظفرية التي بنيت في زمن الملك مظفر الدين كوكبري الذي حكم أربيل بين 586 ـ 630 هـ وكانت في الأصل تعلو جامعاً زالت معالمه حاليا. كانت المنارة ترتفع إلى 45 متراً قبل أن تضرب الجزء العلوي منها صاعقة اقتصت من طولها ثمانية امتار, أما محيط قطرها فيصل إلى 21 قدما, وفي داخل القطر هذا درجان لولبيان (132 درجة من كل جانب) لا التقاء بينهما إلا في نهاية المنارة بحيث يمكن لشخصين أن يصعدا دون أن يرى أحدهما الآخر إلا عند الوصول للنهاية.ويشير كنعان المفتي إلى أن كردستان العراق تضم نحو 3500 موقع أثرى مما دفع الأمم المتحدة إلى وضعها على خطة صندوق اليونسكو للآثار.

شعب مسيس

         ويشكل التاريخ الحديث المفضل لدى معظم أبناء كردستان العراق, فلم نتقابل مع أي شخص من الطبقة المثقفة أو البائعين في المحلات وسائقي السيارات وعاملي الفنادق أو أفراد الحراسة, إلا وكان يحفظ تاريخ بلاده عن ظهر قلب, متطوعا وبحماسة شديدة ليدلنا على الأماكن الأثرية, وسارداً لنا أسماء الجبال والمناطق والسهول التي شهدت معارك أثناء الثورات الكردية المتعددة, حافظا للأغاني والقصائد والملاحم التي تتناول تلك الفترة, في الوقت الذي أدهشتنا متابعة الجميع للأحداث السياسية في العالم أولاً بأول, سواء عن طريق القنوات الفضائية التي تصل جميعها إلى الاقليم, أو الصحف التي يمكنها الوصول إلى هناك, والتي لا توجد أي رقابة عليها أصلا, وقد شاهدنا في أسواق المدن الكبيرة صحفا منها تصدر في بغداد وتهاجم دائما الأكراد ومع ذلك تباع في المكتبات إلى جوار الصحف الأخرى الصادرة في الدول العربية وأوربا, إضافة إلى أكثر من 150 صحيفة يومية واسبوعية ومجلة بين اسبوعية وشهرية تصدر في أربيل ودهوك والسليمانية, وتشكل إلى جانب القنوات التلفزيونية المتعددة المحلية, ثورة اعلامية حقيقية سألنا عن أسبابها فجاءت الإجابة (انه التعطش بعد طول حرمان).

         الظاهرة المثيرة للاعجاب حقا كانت في هذا التقدير العالي جدا الذي يكنه الشعب الكردي لأدبائه وشعرائه ومبدعيه بشكل عام, ففي معظم الميادين الرئيسية وفي مداخل عدد كبير من الجهات الحكومية تماثيل طولية نصفية ولوحات مرسومة لهؤلاء المبدعين الذين يحفظ الاكراد أشعارهم وحتى الشاعر العربي المرحوم محمد مهدي الجواهري كان له نصيب كبير من التكريم اذ يتوسط تمثاله أحد الميادين المهمة في مدينة السليمانية في الوقت الذي تخلو ميادين المدن العربية على اتساعها من أي تكريم للمبدع الكبير.

         والاهتمام الشديد بالفنون والآداب في مدن كردستان العراق أمر مدهش حقاً, فإلى جانب معاهد الفنون الجميلة المنتشرة في المدن الثلاث, وكذلك المشروع الطموح (قصر الفن) الذي يتواصل العمل الإنشائي فيه ويتوقع ان ينتهي العام المقبل, ليكون الأكبر من نوعه فمساحته تصل إلى 9600 متر مربع ويتكون من ثلاثة طوابق بمساحة بناء تصل إلى 2500 م2, هناك تشجيع كبير للفن التشكيلي الذي شاهدنا معارضه الدائمة في كل مكان ولفرقة الاوركسترا الوطنية والمسرح الذي يقدم من خلاله الدعم المادي والمعنوي للفرق المسرحية التي تبلغ في أربيل 3 فرق وفي السليمانية 18 وفي دهوك 3 إلى جانب الفرق التابعة للتنظيمات الطلابية والشبابية, وتنتشر قاعات المسرح ليكون أكبرها في أربيل (تستوعب 1000 مشاهد) وأصغرها قاعة الشعب 400 مقعد وقد حضرنا فيها عرضا لفرقة الفنون الشعبية التي قدمت لوحات جميلة, شارك فيها 12 فنانا و6 فنانات بملابس كردية زاهية الألوان, وبدأت بموال (حيران) الذي يمثل أحد أهم انواع الموال الكردي.

         بعد انتهاء الفرقة من لوحاتها, شاهدنا عرضا مسرحيا للفرقة التابعة لوزارة الثقافة, كان العرض مقتبسا من ملحمة (مم وزين) التي ألفها الشاعر الكردي المعروف أحمدي خاني وهي واحدة من ثلاث ملاحم كتبت باللهجة الكرمانجية منها (الشرفنامة )التي كتبها الأمير شرف الدين أمير مدينة بدليس وتعد أول كتاب شامل للأكراد, وكذلك ملحمة (دم دم).

         ويقول مدير عام الثقافة كريم فندي إنه إلى جانب اصدار وزارة الثقافة لمجلة (السينما والمسرح) الفصلية, يتم في أربيل انتاج أفلام فيديو, في الوقت الذي توجد فيه إلى جانب فرقة الفنون الشعبية والفرق المسرحية التي تقدم 15 عرضا في العام, فإن هناك في أربيل 4 دور للسينما تقدم فيها أفلام عربية وأجنبية.

         وتنتشر في كردستان العراق العديد من دور النشر الأهلية والحكومية والحزبية ففي أربيل توجد مؤسسة (كولان) ولديها قناة تلفزيونية إلى جانب اصدار الصحف والمجلات ونشر الكتب وفي السليمانية التي تشتهر بحركتها الأدبية والثقافية النشطة والتي تشهد هذه الأيام وفقا لما أخبرنا به وزير الثقافة في حكومة السليمانية محمد شاكلي حركة ترجمة من مختلف الثقافات خاصة من العربية والفارسية فإن مؤسسة (سردم) ومعناها (العصر) باللغة العربية, تعد من أهم دور النشر ذات المكانة المرموقة, انطلقنا إلى موقعها الكائن في ميدان الاتحاد, يحدونا الأمل في مقابلة رئيسها الشاعر الكردي الشهير شيركوبيكس (نشرت (العربي) حوارا معه في باب وجهاً لوجه بالعدد (418) سبتمبر 1993) لكنه كان خارج الإقليم وقت زيارتنا.استقبلنا نائبه الشاعر دلشاد عبدالله الذي أخبرنا أن هدف تلك المؤسسة ترجمة ونشر الأدب العالمي باللغة الكردية أضاف  (أصدرنا خلال سنة واحدة 46 كتابا عن قضايا الفكر الإنساني والآداب العالمية).

         في السليمانية أيضا عند توجهنا إلى مركز الدراسات الاستراتيجية, شاهدنا في الشارع الرئيسي قبل أن نتجه يسارا لندخل في الشارع الجانبي, مبنى كبيرا نال الدمار من بعض اجزائه فيما ظلت اثار طلقات الرصاص على الأجزاء الباقية, إنه مبنى أمن السليمانية الذي يتذكر أهالي تلك المدينة مدى الوحشية التي كان يمثلها لهم قبل انتفاضة عام 1991 ولا نعرف ان كان وجود مركز للدراسات الاستراتيجية على بعد خطوات من مقر القمع الدموي الرهيب, تم بمحض الصدفة أم لا؟ لكن ذلك اعاد إلى الذاكرة ما رأيناه في دهوك من تحويل مبنى الأمن القمعي إلى مقر لرئاسة الجامعة.

         على أي حال فإن مدير المركز فريد أساسارد فضل الحديث عن المستقبل لا عن جراح الماضي التي يعاني منها كل كردي والتي يتذكرها الجميع بمرارة؟ قائلاً  إن هدف المركز الذي بدأ عام 1992 كمركز خاص, هو الاهتمام بقضايا الأمن الوطني والتنمية الاقتصادية, مشيرا إلى أنه يصدر حاليا خمسة إصدارات ومجلة فصلية, اضافة إلى دوريات باللغة العربية وتهتم بالعالم الإسلامي.

اعمل صالحا

         في مكتبه الذي تزينه عبارات بالخط الكردي العريض (بيري رووناك) ومعناها فكر جيدا و(كرداري جاك) ومعناها (اعمل صالحا), ثم (قه لي مي باك) ومعناها (اكتب ماله هدف) التي تمثل حكمة كردية شهيرة, قابلنا وزير الثقافة في الحكومة المحلية لكردستان العراق ـ اربيل الأستاذ فلك الدين كاكائي.

         عندما توجهنا إلى مبنى الوزارة كنت أعرف انه أصدر رواية عنوانها (بطاقة يانصيب) باللغة العربية.

         وزير الثقافة في حكومة أربيل الذي رأيناه أيضا فيما بعد وهو يعمل في صحيفة (خه بات) التي تصدر باللغة العربية أسبوعيا, حيث يشغل رئيس تحريرها, أكد لنا على عوامل الالتقاء في الثقافتين العربية والكردية, واصفا هذه العوامل المشتركة بجملة واحدة (ثقافة واحدة بلغـات متعددة) أضاف أيضا (نهـتم بتاريخـنا لأنه شوه, ونحاول كتـابته حاليا بشكل واقعي).

         وهو ما أعاد تأكـيده أيـضا وكيل وزارة الثقافة في أربيل بارزان ملا خالد الذي قضى 30 عاما كأحد مقاتلي (البشـمركة) ومعناها (الذين يضعون أرواحهم على أكفهم) عندما قال لنا (ان هدفنا هو التكامل مع العرب) مشدداً على أن الدعاية ضد الأكراد غير حقيقية ومبالغ فيها جداً).

توزير النساء

         أدهشنا أن نتعرف على الدور الكبير والفعال الذي تمارسه المرأة في الاقليم في مختلف جوانب الحياة, لقد جاءت الدهشة أولاً عندما علمنا أنه في عام 1923 عندما تمرد أول ملك كردي وهو الشيخ محمود الحفيد على الإنجليز وشكل حكومة وطنية اختار السيدة حابسة خان لتكون وزيرا للعدل, وعندما وصلنا إلى أربيل أخبرنا السيد جوهر نامق سالم رئيس البرلمان أن خمس نائبات يشاركن في اجتماعات البرلمان بعدأن خضن الانتخابات البرلمانية ضمن القوائم الحزبية في عام 1992 وفزن بثقة الناخبين.

         ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد, ففي التشكيلة الرابعة للحكومة في أربيل التي أعلنها رئيس الحكومة نيجرفان البارزاني في منتصف شهر ديسمبر 1999 شغلت سيدتان منصبي وزارة الاشغال والإسكان ووزارة الاعمار والتنمية فيما توجد من بين شاغلي مناصب وكلاء الوزارات ثلاث سيدات, في الوقت الذي شغلت فيه سيدة منصبا وزاريا في أول حكومة شكلت في كردستان بعد عام 1991 والتي كانت برئاسة السيد فؤاد معصوم.

         عندما ذهبنا إلى وزارة الاعمار والتنمية كانت الوزيرة نازنين محمد وسو هي التي تتولى تلك الحقيبة قبل أن تنتقل بعد ذلك بأيام قليلة لتولي حقيبة وزارة الاشغال والاسكان, قالت السيدة نازنين التي تولت قبل ذلك مناصب عدة قبل أن تصبح وكيلا لوزارة الإعمار ومنها إلى حقيبة الوزارة (إنه عند تولي الإدارة الكردية مسئولية الاعمار بعد عام 1992 كان الدمار شاملاً في كل انحاء الإقليم, في الوقت الذي كانت فيه عملية الإعمار شديدة الصعوبة نظرا للامكانات البسيطة التي كانت متوفرة).

         اضافت: كان (هناك ما يزيد عن 4500 قرية مدمرة بالكامل, وكان لابد من إعادة الإعمار بأسرع وقت ممكن, لم يكن هناك مفر من انشاء المدارس والمراكز الصحية اضافة إلى توفير الماء الصالح للشرب لأهالي تلك القرى الذين اردنا اعادتهم. وبالامكانات الذاتية استطعنا انشاء مئات المدارس وعادت الحياة بشكل جيد إلى عدد كبير من القرى, واستفدنا من جزء بسيط مما يوفره القرار 986 (النفط مقابل الغذاء).

الطريق إلى السليمانية

         كان لابد من رؤية السليمانية, تلك المدينة ذات البهاء الخاص الواقعة في الجزء الجنوبي من كردستان بين نهري الزاب الأسفل وسيروان والتي لا يتعدى عمرها 200 عام, مع أنها شيدت فوق انقاض مركز حضري أقدم.

         قطعنا نحو ساعة منذ غادرنا مدينة أربيل حتى وصلنا إلى آخر مركز سيطرة للحزب الديموقراطي الكردستاني, الذي تقع محافظتا دهوك وأربيل بالإضافة إلى المناطق المحيطة بكركوك في نطاق نفوذه, فيما تقع محافظة السليمانية في مجال نفوذ الطرف الآخر في المعادلة السياسية الكردية حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.

         قبل أن نغادر منطقة نفوذ الحزب الديمقراطي, كانت عشرات اللافتات تحذر سالكي ذلك الطريق من الألغام المزروعة في السهول وفي بطون الجبال أيضا, فيما كانت لافتات أخرى تشير إلى مقار لخبراء من منظمة تعمل في مجال ازالة الالغام, وتقدر مصادر الأمم المتحدة أن نحو 20 مليون لغم مازلت مزروعة في اراضي كردستان العراق, ومازالت تحصد يوميا بشراً ودواب, فيما يزداد عدد المعاقين بسببها.

         من بعيد بدت محاجر للجير, بعدها قرية (توبراوا) عند تقاطع طرق قرب مدخلها كنيسة, ليأخذنا الطريق إلى مدينة (كويسنجق) الواقعة على طريق كركوك, دخلنا في طريق تقتسم اتجاهي الذهاب والاياب فيه أشجار الصنوبر, أفضى بنا إلى وسط المدينة حيث تمثال الشاعر (تاهير (طاهر) توفيق), والسوق الذي اصطفت فيه المحلات, لنصل إلى ميدان أنيق منمنم, فطريق هابط إلى جسر صغير, حيث ظهر أمامنا مشهد الاشجار الصاعدة إلى أعلى الجبل, مؤدية بنا إلى طريق ترابي معبد امتد نحو خمسة كيلومترات قبل أن نصل إلى طريق مرصوف صعد بنا إلى ممر جبلي ملتف وطويل حول سلسلة صخرية مرعبة اسمها (هيبة سلطان) قبل أن تنحدر بنا من جديد نحو الأسفل, وعندما كنا في أعلى هذا الجبل الشديد الاحمرار توقفنا لأخذ بعض الصور, كان المنظر من الأعلى كفيلا بادخال الرهبة والرعب في قلوبنا التي ما برح الخوف يعاودها بين الحين والآخر, في ظل هذا السكون الذي فرضته هيبة ذلك السلطان الجبلي الصارم.

أسماء شهيرة

         وصلنا إلى قرية خلكان, حيث مسجد عالمها الأشهر ابن خلكان صاحب (وفيات الاعيان) على الطريق, شاهدا على مدى اسهام الأكراد في الحضارة الإسلامية والعربية أيضاً, هذا الاسهام ذوالأهمية الفائقة, ظل لزمن طويل مجهولاً, رغم أن هذا الشعب قدم أعظم الخدمات للدين الإسلامي وللغة العربية أيضا, ولنا أن نسرد هنا على سبيل التذكرة فقط بعض ما تيسر معرفته من مشاهير كبار ظلت اسماؤهم محفورة بحروف من نور في أذهان العرب والمسلمين دون ادراك أن هؤلاء هم من نسل هذا الشعب المظلوم الذي ليس له وطن يجمعه حتى الآن, فإلى جانب البطل الخالد محرر القدس صلاح الدين الأيوبي, والإمام محمد عبده وأمير الشعراء أحمد شوقي والشيخ عبدالباسط عبدالصمد وعباس محمود العقاد ومحمد فريد وجدي, والعائلة التيمورية (محمد ومحمود وعائشة), والشاعر جميل صدقي الزهاوي, إلى جانب علماء أفذاذ آخرين أثروا العطاء الفكري الإسلامي من أمثال امام النحو ابن الحاجب, وابن الصلاح والآمدي, والحافظ العراقي وأبي الفداء الأيوبي, وأبناء الأثير الثلاثة.إضافة إلى ما ذكره ابن حجر العسقلاني في كتابه (الاصابة في تمييز الصحابة) من انه كان من بين اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم صحابي كردي اسمه (جابان) (فقد روى ابن منده من طريق أبي سعيد, مولى هاشم عن أبي خلدة: سمعت ميمون بن جابان الكردي عن أبيه أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) غير مرة حتى بلغ عشراً, وذكر الحديث).وقد دخل الكرد في الاسلام بعد فتح بلادهم على يد الصحابي الجليل عياض بن غنم (رضي الله عنه) الذي فتح معظم بلاد الكرد من جهة الجزيرة (سنة 18 هـ), وكان القعقاع بن عمرو (رضي الله عنه) قد فتح (حلوان) الواقعة في جنوب كردستان قبل ذلك (سنة 16 هـ), ويذكر التاريخ الاسلامي ان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) امر سعد بن ابي وقاص (رضي الله عنه) ان يرسل ثلاثة جيوش لفتح بلاد الأكراد وهي: ديار بكر ومدنها المعروفة حران ونصيبين وسنجار وخابور, والموصل, وجبال هكاري وبهدينان, وقد عاملت الجيوش الاسلامية التي كانت بقيادةعياض بن غنم السكان في تلك البلاد معاملة أهل الكتاب بعد أن بعث (سعد بن أبي وقاص) كتبا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بشأن معاملة هؤلاء (الكرد الزرادشتيين), فأجابه الخليفة (سنوا بهم سنة أهل الكتاب).  

ثورات متصلة

         في وسط الميدان الرئيسي للسليمانية التي تحفل ميادينها وشوارعها باسماء القادة التاريخيين والثوار والشعراء والأدباء, بدت صورة ضخمة بالألوان الزاهية لرجل يرتدي الزي الكردي التقليدي, إنه الشيخ محمود الحفيد الذي قاد في نوفمبر 1918 العساكر الكردية في ثورتها ضد القوات البريطانية واعلن في أبريل 1919 استقلال كردستان, رافعا علماً أخضر اللون يتوسطه هلال أحمر, وتمكن من دحر القوات البريطانية التي ارسلت لاجباره على الخضوع .

         وثورة الشيخ محمود الحفيد هي واحدة من عدة ثورات شهدتها مناطق كردستان, ومن غير الممكن سرد وقائع التاريخ الكردي الحديث دون الاشارة إليها مع ثورة الشيخ سعيد بيران في تركيا عام 1925م, وثورة اسماعيل آغا (سمكو) في ايران التي شهدت أيضا ثورة قاضي محمد تلك التي توجت باعلان جمهورية (مهاباد) في بداية عام 1946م ولكن تم القضاء عليها بعد سنة واحدة, وشهد شمال العراق أيضا إلى جانب ثورة الحفيد ثلاث ثورات للملا مصطفى البارزاني, كان آخرها تلك التي قادها منذ عام 1961م وانتهت عام 1975م إثر اتفاقية الجزائر التي تخلى شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي بموجبها عن مساندة أكراد العراق مقابل الحصول على شط العرب.

بدائع السليمانية

         قادتنا أقدامنا إلى جولة حرة في ارجاء السليمانية البديعة, انطلقنا فيها من شارع (سالم) الذي يمتد من مدخل المدينة إلى أسواقها المتجاورة حيث كان المسجد الكبير بجماله المعماري ناطقاً بروعة الفن الإسلامي, غير أننا وجدنا أنفسنا وقد تجولنا في سوق النقيب الذي يعد من الأسواق القديمة جداً, ثم أسواق (الزجاج) و(زيوار), وسوق (عثمان باشا) المتخصص في الملابس.

         ولكن رغم الحصارين اللذين يعاني منهما الشعب الكردي, فإن الواقع الاقتصادي يبدو مزدهراً, حتى في ظل الجفاف الذي يضرب الاقليم والذي تكاد المحاصيل الزراعية تنعدم بسببه رغم كونها مورداً رئيسيا من موارد الاقتصاد الكردستاني الى جانب الرعي.

         وعندما سألنا عن تلك الظاهرة كان الرد أن السبب  يكمن في نزاهة توزيع نصيب كردستان من قرار (النفط مقابل الغذاء) الصادر من مجلس الأمن الدولي والشهير بالرقم (986) والذي لا يزيد عن نسبة 13% من ايرادات مبيعات النفط, فهذه النسبة يتم توزيعها على الأهالي, إذ تحصل كل عائلة على سلة مواد غذائية مع بداية كل شهر من الأمم المتحدة تشتمل على (طحين, زيت نباتي, عدس, حمص, جبن) ولا تشمل تلك السلة لحوماً ولا ملابس.

         ويعتبر الأكراد أن هذا القرار جعل الحياة لديهم أكثر سهولة من السابق خاصة إذا قورن الأمر بتلك المعاملة التي قاسوا منها قبل تطبيقه, ويتم توزيع تلك المواد عن طريق وكلاء ينتشرون في كل مدينة وقرية ومعتمدين لدى مخازن الأمم المتحدة.

         ويستخدم الأكراد في معاملاتهم المالية دينارا عراقيا من الطبعة التي صدرت قبل الغزو الصدامي لدولة الكويت, ويطلقون على هذا الدينار لقب (السويسري) نسبة إلى مصدر طباعته, وهو يساوي نحو 110 دنانير من ذلك الذي يتم به التعامل حاليا في بغداد, وتبلغ قيمة الدولار الأمريكي نحو 19 ديناراً من العملة المتداولة في كردستان, بينما تصل قيمته في أسواق بغداد نحو 1200 دينار عراقي.

         شدتنا قبل الانطلاق من السوق مكتبة كبيرة تتوسط عشرات المكتبات الأصغر حجماً, كان اسمها (جيان) وفي داخلها ومدخلها تكدست آلاف الكتب القديمة والحديثة بمختلف اللغات وبأسعار زهيدة.

         لكن اسماء شوارع السليمانية أدهشتنا أيضا, فهي تدور في معظمها حول اسماء الشعراء تحديداً, فأحد الشوارع اسمه (مولوي) نسبة إلى شاعر كردي كبير, وآخر باسم (فائق بيكس) وهو شاعر معروف ووالد للشاعر شيركوبيكس, وثالث باسم (جوران) وهو شاعر مهم تم ازاحة الستار عن تمثال له قبل أشهر قليلة, ثم شارع (ميره ميرد) وهو شاعر أيضاً.

عودة جامعة

         لجامعة السليمانية مكانة خاصة لدى ابناء تلك المدينة المنمقة, فهذه الجامعة التي انشئت عام 1968 كانت هي الوحيدة في منطقة كردستان العراق قبل أن يصدر فجأة قرار بنقلها إلى مدينة أربيل وتغيير اسمها إلى جامعة صلاح الدين رداً على المظاهرات الطلابية التي استمرت منددة بالسياسات المعادية للأكراد, وبسبب المكانة المهمة لتلك الجامعة فقد تجمع سكان المدينة عام 1992 مطالبين باعادتها إليها, لتبدأ أولى خطواتها في تلك السنة في نفس المباني القديمة قبل أن تزداد اتساعاً بإضافة كليات جديدة.

         بعد أن قمنا بجولة انطلقت من حرم الجامعة الذي كان مزدحما بطلبة وطالبات يرتدون أحدث خطوط الأزياء, مرورا بكليات الطب وطب الأسنان والآداب والقانون والعلوم الإنسانية واللغات إلى جانب مكتبة الجامعة التي تضم 25 ألف كتاب غير أن معظمها من اصدارات السبعينيات والثمانينيات, انتقلنا إلى مبنى رئاسة الجامعة حيث أكد لنا الأستاذ الدكتور كمال خوشناو رئيس الجامعة الذي قضى معظم سنوات عمره مقاتلا في الجبال, ان بداية عودة الجامعة تمت بثلاث كليات حتى وصلت حاليا إلى 13 كلية, وبعد أن عانت الجامعة من النقص في هيئةالتدريس, جاءت عودة أعضاء هيئات التدريس في الجامعات الأوروبية ذوي الأصول الكردية والتي أصبحت تشكل ظاهرة لافتة للنظر, لتسد أي عجز في معظم المجالات التدريسية.

         ويصل عدد طلاب الجامعة وفقا للدكتور خوشناو إلى 3250 طالبا بإلاضافة إلى نحو 200 طالب للدراسات العليا, وهي الجامعة الوحيدة في الشرق الأوسط التي يتعادل فيها عدد الطالبات والطلاب.

استشهاد مدينة

         كان لابد من الذهاب إلى حلبجة, فليس من المعقول أن يكون المرء في السليمانية دون أن يمر على تلك المدينة الشهيدة, بعد أن شهدت قبل 12 عاما واحدة من أسوأ المآسي, ويعاني ساكنوها حاليا من تأثيرات جريمة حمقاء استهدفت ابادة الكائنات التي تدب فيها بشراً أو حيوانات وطيورا أو حتى حشرات.

         كان الطريق المتجه من السليمانية إلى حلبجة والذي استغرق أكثر من ساعة هو أجمل ما رأينا من طرق طيلة انتقالاتنا داخل كردستان العراق, حيث السهول المترامية ذات رحابة واتساع وحيث المزارع باهرة الخضرة على جانبي الطريق حتى يندر أن يجد المرء شبراً بلا زرع, كانت السماء صافية إلا من بعض خطوط بيضاء لبقايا سحب بدت وكأنها بقعة من شعيرات الشيب نابتة في ذقن رجل, وكانت الجبال مكسوة بعمائم الثلج, مما أضفى على الطريق الذي يخترق منطقة (شهرزور) جمالا ساحراً, لم يخمده لدينا إلا ما شاهدناه بأعيننا في حلبجة من مأساة إنسانية لا يقبلها ضمير إنسان.

         في الداخل بدت المدينة مرتدية ثوب الحداد, حيث لا أسرة دون ضحية, ولا أهل بلا شقاء, ولا مستقبل بغير هاجس مرعب.

         هذا هو أول شعور يراود العابر في الشوارع الداخلية غير المرصوفة, والذي يمكنه بسهولة رؤية كل هذا الكم من البؤس المرتسم فوق أوجه البشر, وكل هذا الفقر الذي يحيط بكل مكان.

         في مستشفى حلبجة كان الازدحام لافتا للنظر, أطفال صغار فوق أيادي أهليهم وأكف وأذرع محروقة بكثرة, وأوجه كأنها قادمة من عصور سحيقة, كانت الرضيعة (كوجير محمد علي) ملقاة على سرير صغير بينما الأربطة البيضاء تحيط ظهرها الرقيق, اشار إليها الدكتور عادل كريم فتاح مدير المستشفى قائلا إن حالتها هي (Meningiocele وان احتمالات بقاءها حية بعد اجراء العملية لن تزيد عن واحد في المائة, اضاف: إن التشوهات الخلقية منتشرة هنا, والأطباء ينصحون بشدة كل من استنشق من الكيماوي أن يمتنع عن الانجاب.

         يقول إن أكثر حالات التشوهات الخلقية تسمى (بشفة الأرنب) حيث تكون شفة الأطفال العلوية مشقوقه, كما أن حالات الاجهاض وكذلك الولادات الميتة والولادات دون رأس وأمراض القلب للمولودين موجودة بحالات كثيرة.

         ان ما شاهدناه أكثر فظاعة من أن يوصف, وأكبر من أن يسمى بمأساة, إنه جريمة مروعة مازال الجيل الثاني يحصد نتائجها بعد أن كان نصيب جزء كبير من الجيل الأول منها الإبادة بلا رحمة, لكن جرائم الديكتاتور لا تنتهي, فقضاء (جمجمال) القريب من كركوك يضم المزيد من مظاهر المآسي التي أنزلها ذلك النظام الدموي بالأكراد.

         في السادسة صباحاً وقبل الدخول إلى قرية (شورش) الواقعة بقضاء جمجمال الذي يبعد أيضا نحو نصف ساعة عن السليمانية, كانت هناك سيدة تجلس وحيدة وسط الصحراء في صقيع الصباح واضعة يدها على خدها, اقتربنا منها سائلين عما دعاها لذلك, انفجرت باكية وهي تقول (أبحث عن الموت فلا يأتي, 12 رجلاً قتلوا من زوج إلى أبناء وأخوة, والان لا أهل ولا أبناء فلماذا أعيش؟).

         هذه السيدة وعشرات من العجائز غيرها يمكن رؤيتهن منفردات بأنفسهن في الصحراء, انهن من القرى التي تم تهجير سكانها, وهم يسكنون حاليا في بيوت مؤقتة تضمها عدة قرى في هذا القضاء, بالإضافة إلى آخرين ظلوا أحياء من حملة الانفال التي دمرت خلالها آلاف القرى في مختلف أنحاء كردستان العراق, ويمكن رؤية بقايا بعضها عند السير على أي طريق, وفي هذه الحملة اختطف 182 ألف إنسان منها ولا أحد يعرف مصيرهم حتى الآن.

         في طريق العودة المتجه من السليمانية إلى أربيل, ثم منها إلى دهوك وزاخو, فمعبر فيش خابور الحدودي كان ثمة سؤال يطرح نفسه بشدة بعد أن قضينا كل تلك الأيام في منطقة كان مجرد ذكر أسمها يصيبنا بالرعب, والآن ها نحن نعود منها وقد اكتشفنا بأنفسنا حجم المبالغات التي احاطت قضية الأكراد وأصابتها بتشويه لا مبرر له. كان السؤال هو (ما الذي سنكسبه نحن العرب عندما نخسر هولاء البشر احفاد الرجال العظام الذين ساهموا بشكل إيجابي في حضاراتنا؟ هل سيعود علينا بنفع تجاهل هؤلاء القريبين منا جداً ومن قضايانا, والذين تربطهم بنا علاقات الأخوة والدين والجوار والتفاعل الحضاري؟ ففي الوقت الذي يرتكب فيه الديكتاتور حماقاته ليس ضد الأكراد وحدهم, بل والعرب أيضا, وضد شعبه, لم نسمع كلمة واحدة لا من مسئول ولا من فرد عادي من أبناء الشعب الكردي عن رغبة في الانفصال, كان الجميع يؤكد أن الهدف الرئيسي والمهم هو البقاء ضمن عراق ديمقراطي, وفي اطار فيدرالي يتم فيه احترام خصوصية هذا الشعب.

         أكد لنا ذلك الزعيمان الكرديان مسعود البارزاني وجلال الطالباني( ستنشر العربي حوارين معهما في أحد أعدادها القادمة) وأكده أيضا رئيس حكومة الاتحاد الوطني كوسرت رسول علي وأعاد تأكيده ايضا الدكتور كمال فؤاد المسئول البارز في قيادة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني, كما أكده رئيس البرلمان الموجود في أربيل جوهر نامق سالم, ووزير الدولة في حكومة الحزب الديمقراطي فرانسوا حريري وكل المسئولين الآخرين الذين التقيناهم في دهوك وأربيل والسليمانية.

         المؤكد أن الأكراد لو وجدوا المناخ الملائم ديمقراطيا لتراجعت قضية الكيان, والمؤكد أكثر أن الفيدرالية في حال تحققها سوف تعني أبعاد فكرة الانفصال نهائيا, لأنها سوف تكون في اطار عراق ديمقراطي موحد, والدليل على ذلك أن ادارة الإقليم الكردي حافظت على كل امتداداتها الدستورية حتى الآن مع العراق.

***

         عبرنا نهر دجلة مرة أخرى من نقطة (فيش خابور) مغادرين كردستان العراق.. وتذكرنا هواجس الخوف القديمة والتردد ونصيحة الصديق لنا بكتابة (وصايانا).. وضحكنا.. ضحكنا كثيراً.

 

 

زكريا عبدالجواد