الشرق يصعد ثانية

الشرق يصعد ثانية
        

المؤلف: أندريه جروند فرانك

هذا الكتاب يخترق حاجز الفكر لأنه يثور على أطرالمركزية الأوربية الضيقة ليبحث في حقول خارجة عنها.

         اختراق حاجز الفكر شأنه شأن اختراق حاجز الصوت, فمثلما أن اختراق حاجز الصوت يحدث دويا يصم الآذان, ويحرر الإنسان نسبيا من السرعات الأرضية التقليدية, كذلك اختراق حاجز الفكر يحدث أصداء تمتد إلى كل جنبات المعمورة, ويحرر الإنسان من أطر الفكر التقليدي الذي ساد وبسط هيمنته على العقل الإنساني زمنا فلا يرى الوجود والحقيقة إلا من خلاله. ولكن مع اختراق حاجـز الفكـر, على أساس بحث منهجي, وحقائق موثقة, يتجلى الوجود في صورة جديدة, إذ يتجلى الواقع كما عاشه ويعيشه الإنسان /  المجتمع وقد سقطت العصابة التي كانت على عينيه.

منهج جديد

         والكتاب الذي نحن بصدده محاولة جريئة في هذا الاتجاه. وهو محصلة وثمرة جهود تتابعت على مراحل لمفكرين وعلماء تميزوا  أولاً بدينامية الفكر وحرية التفاعل والحوار, ودأب البحث, وعلمية المنهج, والتجرد من الغرض سوى التماس الحقيقة. يمثل الكتاب ذروة جهود امتدت نصف قرن تتابعت خلاله البحوث والدراسات طورا بعد طور كل يضيف جديداً حتى نضجت الخطوة الأولى التي هي تمهيد لخطوات مستقبلية جديدة وواعدة.

         والكتاب ليس مجرد رؤية أو نظرية, ولكنه أولا وأساسا منهج بحث, ومحاولة لتطبيق المنهج الجديد, وبيان النتائج المروعة والرائعة التي يكتشفها الباحث تأسيسا على هذا المنهج. ثم نراه ثانية دعوة إلينا نحن أبناء الشرق, أقصاه وأدناه, لنأخذ حياتنا مأخذا جاداً على أساس من البحث الدءوب والملتزم منهجيا لتصحيح صورة التاريخ والواقع والإنسان في الشرق إذا كنا عقدنا العزم على قبول التحدي وتغيير واقعنا المتخلف الآن, والإسهام بدور فعال ومبدع في المسيرة الحضارية للإنسان.

         العالم كله منذ قرنين أسير رؤية المركزية الأوربية, وأصبحنا جميعا كما يقول المؤلف أندريه جروند فرانك, نرى العالم, عالمنا وتاريخنا وأحداث واقعنا وتحليلنا لهذا الواقع ومن ثم رؤيتنا لمستقبلنا.. كل هذا لا نراه إلا في ضوء الشارع الأوربي. وبات عقلنا أو إطارنا الفكري قائما على أساس من المركزية الأوربية. فالمعقول والعقلانية والعقلاني هي ما يتسق مع المركزية الأوربية.. الرجل الأبيض المتميز عقلا وعرقا وقدرة على الإبداع الفكري والابتكار الثقافي.. إنه السلالة الأسمى, ونمطه الاجتماعي هو المثل الأعلى المنشود, وهو الأحـق بالزعـامة لأنه رائد التقدم والديمقراطية, أما الشـرق فهو أسير التخلف والاستبداد أبدا.. وسادت عبارة الشاعر الإنجليزي كيبلنج (الشرق شرق, والغرب غرب ولن يلتقيا).

         ولكن الكتاب ينزع قناع الزيف, أو كما يقول المؤلف يجرد امبراطور المركزية الأوربية من ثيابه ليظهر عاريا بكل سوءاته ويكشف واقع العالم, وحقيقة التاريخ.. ليست أوربا ولكن العالم كله غربا وشرقا وحدة واحدة دينامية متبادلة التأثير وسوق اقتصادية عالمية واحدة.. ليست السوق العالمية حدثا جديدا في التاريخ, وليست أوربا هي العالم, ولا هي المركز دائما.. ولكن الشرق عاش قرونا هو المركز.

هل الغرب على طريق  الانحطاط؟

         يعيش الفكر الغربي الآن أزمة.. أزمة البحث عن الذات والجذور بعد صدمة الواقع.. وظهرت مدارس تنتقد المركزية الأوربية, وبرزت أسماء لعديد من المفكرين يمكن وصفهم بأنهم رواد نزعة إنسانية تنويرية جديدة تتجاوز تنوير الرجل الأبيض وهيمنته وصولا إلى الإنسان بعامة. وتؤكد الدراسات جميعها, وهي كثيرة, أن جذور الغرب خارج الغرب تمتد عبر العالم الأفرو آسيوي. وأسهمت الأنثروبولوجيا الثقافية بنصيب وافر في هذا المجال على نحو ما نجد عند إيريك وولف في كتابه, (أوربا وشعوب ليس لها تاريخ). إذ يؤكد أن الشعوب جميعها تلاقحت ثقافيا وحضاريا على مدى التاريخ. وأن القول بأن هناك شعباً أو مجتمعا نقياً من أي تأثير أكذوبة وأسطورة. ونذكر أيضا كتاب مايكل كاريزرس (لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟) إذ يبين وحدة الإنسانية مع تنوع المجتمعات والثقافات, وأن القانون الأساسي للثقافة الإنسانية هو روح المعايشة الاجتماعية وتبادل التأثير على الصعيدين المحلي والعالمي.

         ونقرأ أخطر نقد للإطار الفكري المركزي الأوربي في هذا الكتاب الذي نعرض له. والكتاب يحمل عنوانا واضح الدلالة: (الشرق يصعد ثانية:الاقتصاد الكوكبي في العصر الآسيوي) لمؤلفه أندريه جروند فرانك صدر في النصف الثاني من عام 1998 عن دار نشر جامعة كاليفورنيا, ويقع في حوالي 450 صفحة. ويلتزم المؤلف منهج بحث جديدا هو منهج البحث الكوكبي Global الذي يرى أن الكل أكثر من الجزء, وأن تفسير الجزء لا يكتمل إلا من خلال فهم الكل في ديناميته الشاملة والعلاقات المتبادلة الفاعلة والمؤثرة بين الأجزاء, ومن ثم ليس الجزء هو الذي يفسر الكل, ولا هو مستقل عنه.

إعادة كتابة التاريخ

         يمثل الكتاب ذروة المراجعة النقدية للفكر القائم على المركزية الأوربية وللتاريخ الاقتصادي السياسي, والجغرافيا السياسية, ويمثل أيضا طرحا فكريا لتجديد الفكر الإنساني تأسيسا على منظور عالمي شمولي.

         يقول فرانك: (على الرغم من السعي الجاد والمخلص وصولا إلى الشمولية أو العالمية, فإن هذا لم يتحقق إلى الآن في التطور التاريخي للعلوم الاجتماعية.. والمثير للدهشة أن العلوم الاجتماعية التي صيغت افتراضاتها في أوربا وشمال أمريكا خلال القرن التاسع عشر ارتكزت على نظرة مركزية أوربية.. وشعر العالم الأوربي آنذاك بالزهو الثقافي.. إن كل نزعة عالمية فكرية أو عقائدية تطرح الاستجابات الملائمة لنفسها هي دون الآخر.. لذلك فإن إخضاع مقدماتنا النظرية للفحص, والبحث عن الافتراضات الأولية الخافية, والتي لا مبرر لها, أصبح أمرا له الأولوية اليوم في العلوم الطبيعية).

         ويرى فرانك أن الإنسانية الآن بعد قرنين من تضليل المركزية الأوربية, تحمل رصيدا أو تراثا صنع لها إطارا فكريا مهيمنا يمثل عائقاً كبيرا يحول دون رؤية تجديدية. وأصبح المفكرون والمثقفون بعامة يرون العالم وحياة كل أمة وخصوصيتها في ضوء الشارع الأوربي, وبات الغرب يرى نفسه العالم, وما عداه أطراف وهامش. وتحاول الولايات المتحدة بفكرها الرسمي تأصيل المركزية الأوربية (الغربية) باعتبارها الوريث الشرعي, وها هو صمويل هنتنجتون يتحدث عن العالم فيقول: (الغرب.. والبقية The West and The Rest).

أوربا ليست النموذج

          ويعرض فرانك لفكر كل من كارل ماركس وماكس فيبر وفرناند بروديل وغيرهم. ويرى أنهم جميعا, شأن مفكري القرنين التاسع عشر والعشرين, صاغوا فكرهم تأسيسا على مفهوم المركزية الأوربية اذ رأوا العالم هو أوربا, والاقتصاد العالمي هو الاقتصاد الأوربي, وأن أوربا صنعت وصاغت العالم حولها, ولها نمط انتاج رأسمالي متميز, وللشرق نمط انتاجي آسيوي قائم على الاستبداد ويشبه المومياء المحنطة التي لا تبلى مع الزمن. اصطنع هؤلاء وغيرهم الإطار الفكري للمركزية الأوربية, وابتدعوا صيغاً ومصطلحات أصبحت هي البوصلة الموجهة لفكر المجتمعات. ولكن البوصلة أخطأت حين جعلت من أوربا نموذجا موحدا, وحداً للتقدم لا قبله ولا بعده, وأن مسيرة التقدم أحادية الاتجاه, خطيةالمسار, غايتها أوربا نظاما اجتماعيا واقتصاديا وانتاجا وثقافة. أعني اختلقوا أسطورة الحداثة هي أوربا, والآخرون من حولها الهامش والأطراف. وسادت مفاهيم مثل (التنمية) و(الحداثة) و(التحديث) و(الرأسمالية) و(الاقطاع) و(التبعية) و(نمط الانتاج الآسيوي).. إلخ. وكأنها قوالب نمطية قـسـرية جامدة لا خروج عنها, ولا تنوع في داخلها. ووقعت الشعوب في الخطيئة حين بدأت تقيس واقعها ووضعها بالمقاييس الأوربية, وتحاول أن تلوي عسفا وقسرا صورة وقائع حياتها وتاريخها لتطابق مفاهيم المركزية الأوربية.

خطيئة الفكر الحداثي

         الخطيئة الأصلية لأئمة الفكر الغربي, أنهم جميعا بحثوا عن (الأصل) و(المنشأ) و( العلة) و(الطبيعة) و(الآلية), بل وعن (الجوهر) لتلك المفاهيم في ضوء مفهوم: (التفرد أو الاستثناء الأوربي) المزعوم عقلا وعرقا وثقافة واقتصاداً ونمط انتاج, بدلا من البحث عنها في النظام الاقتصادي العالمي الواقعي الشامل للكوكب كله في وحدة دينامية متفاعلة, وله دوراته في المد والانحسار. ولو فعلوا ذلك موضوعيا لثبت لهم أن الشرق ـ آسيا ـ هو المركز والصين بوجه أخص.

         كانت أوربا منذ قـديم الزمان جـزءاً من اقتصـاد أفرو ـ أوراسي أي جامع بين إفريقيا وآسيا وأوربا. وان البنية المنظومية لهذا الاقتصاد وديناميته أصبحتا عالميتين, وتولدت عنهما تطورات كبيرة في أوربا.. إننا لا نبحث عن أسباب وعوامل التطور داخل أوربا وإنما داخل العالم الكوكبي.. فالظاهرة ليست ظاهرة أوربية, وليست أوربا منفصلة ولا متفردة, وإنما العالم كله ظاهرة واحدة ووحيدة. إننا لا نستطيع أن نفسر ما حدث في أوربا أو في الأمريكتين.. إلخ دون أن نضع في الحسبان ما حدث في إفريقيا وفي آسيا, والعكس بالعكس.. أعني دون تحليل شمولي أو كوكبي الطابع لتفسير أي جزء من أجزاء النظام العالمي.

كيف صعد الغرب ؟

         ولكن كيف صعد الغرب؟ ومتى بدأ النظام الرأسمالي؟ وهل هناك حقا نظام رأسمالي أوربي النشأة والتطور؟ وهل بدأ عام 1800 أم عام 1492 مع رحلة كولومبوس أم قبل ذلك؟ وتساؤلات أخرى كثيرة يطرحها الكتاب.

         يؤكد فرانك أن كتابه طرح جديد للمشكلة من منظور جديد كوكبي, ولكنه ليس خاتم الكلام أو فصل المقال, ولا نظرية كاملة, وإنما اجتهاد يضاف إلى اجتهادات سابقة, وينتظر اجتهادات كثيرة تالية من منظور شمولي كوكبي لا تجزيئي. نحن بحاجة ماسة إلى منظور بديل إلى العالم لمواجهة الفوضى العالمية الجديدة,ونحن بحاجة إلى دراسة النظام الكلي في شموله, وإعادة النظر في منهج التاريخ والدراسات التاريخية والنظرية الاجتماعية السائدة التماسا لنظرية شمولية, وتحليل شمولي للعالم كله لبيان الوحدة مع التنوع أو التنوع في الوحدة.. وحدة العالم تاريخا واقتصادا متفاعلين.. أي نحلل الكل لتفسير تطور الأجزاء.. وأن دراسة صعود الغرب من هذا المنظور الكوكبي يؤكد أن آسيا, وليست أوربا, هي المسرح المحور للتاريخ, وتكشف لنا هذه الدراسة عن أسباب ومظاهر انهيار الشرق وما ترتب عليه من نهوض الغرب داخل ظاهرة كوكبية واحدة هي العالم كلل شامل.

منظور تليسكوبي

         ويمثل كتاب (الشرق يصعد ثانية) محاولة نسقية وتمهيدية لإنجاز هذا الهدف من منظور تليسكوبي يرى الكل في وحدته وديناميته, وليس من منظور ميكروسكوبي يركز على الجزء ويضخمه أكثر من حقيقته.

         والكتاب محاولة لتطبيق المنظور العالمي الشامل على دراسة التاريخ الاقتصادي العالمي منذ عام 1400. يقدم الكتاب على مدى أكثر من أربعمائة صفحة كما هائلا من الشواهد والبينات والأحداث التي تدعم وجهة نظره, ويخلص إلى نتائج مغايرة تماما عن تلك التي تلقيناها من النظرة الاجتماعية السائدة وصاغت فكرنا في ضوء الشارع الأوربي ويقلبها رأسا على عقب, أو كما يقول: يعيدها إلى وضعها الصحيح.

         كانت أوربا في مستهل العصر الحديث أدنى شأنا في النظام الاقتصادي العالمي.. والوسيلة الوحيدة التي توفرت لأوربا للمشاركة في الاقتصاد العالمي ليس انتاجها ولا تقانتها بل المال الأمريكي. وقبل عام 1800 كانت السيادة للاقتصاد الآسيوي, حيث الصين هي المركز.

الفضة الأمريكية وسخرة العبيد

         أوربا لم تنهض وترتقي بجهدهـا وعرقها هي, ولا بفضل الاستثناء أو التفرد الأوروبي في العقل والمؤسسات والعبقرية, أي بسبب خصائص العرق الأوربي المتميز. وإنما أوربا التي استفادت من الاقتصاد الأطلسي ومن استغلالها المباشر لمستعمراتها الأمريكية, وتجارتها في العبيد من أبناء إفريقيا وتسخيرها لهم, استخدمت مع هذا, وفي الأساس الأموال الأمريكية (الفضة الأمريكية) وأقحمت نفسها لتمتلك نصيبا أو حصة في الانتاج الآسيوي.. أي استفادت من الوضع المتميز لآسيا في الاقتصاد العالمي, استغلت أوربا ما استخرجته من الفضة مجانا, والتي سخرت من أجله عمل العبيد مجانا واشترت بالفضة منفذا لها إلى سوق آسيوية رائجة ومزدهرة تمثل مركز الاقتصاد العالمي. وتسلقت أوربا على ظهر آسيا, ثم اعتلت كتفيها مؤقتا لأن هذا جزء من دورة طويلة المدى, من آلية تطور عالمي النطاق. اتبعت أوربا في بداية صعودها نفس أسلوب بلدان نظم التصنيع الجديدة (اليابان والنمور الآسيوية والتنين الأعظم أي الصين). والآن تبدأ آسيا دور الصعود من جديد, ويدور الصراع بين الغرب والشرق.. الغرب يبدأ دورة انحسـار, والشرق يبدأ دورة الصعود.

         الكتاب كما وصفه البعض أخطر ما صدر في القرن العشرين, أو كما يقول آخرون إنه كتاب الألفية الثالثة. ولكنه أيضا دعوة ملحة وصريحة من أجل تضافر جهود الباحثين وأهل الفكر لإعادة كتابة التاريخ الاقتصادي السياسي على حقيقته, وكسر قيود اطار المركزية الأوربية التي ترسف في أغلالها على مدى قرنين من الزمان أضلتنا, وضللتنا.. بل وكسر قيود المركزيات السابقة في تاريخنا التي شوهت وأفسدت معرفتنا بأنفسنا وتاريخنا وواقعنا وتفرض علينا قسرا أن نرى الوجود من منظورها الأيديولوجي.

         والكتاب في إطار مفهوم صراع الحضارات الذي يرى فيه الغرب أن صراعه مستقبلا ضد الشرق الأقصى والأدنى, الصين والعالم العربي والإسلامي, يحفزنا إلى سؤال يفرض نفسه بداهة: إذا كان الشرق الأقصى (اليابان والصين والنمور) يبذل الجهد مضاعفا ليسترد المبادأة وينتزع الريادة, فما هو دورنا الفاعل, ومنهجنا للخطو على طريق الصعود وبناء مجتمع الإبداع العلمي والتقني, وإعادة كتابة التاريخ.. تاريخا بريئا من أوثان أو أقنعة الأيديولوجيا, ومحررا من أوهام النزعة المركزية أيا كانت مسمياتها.. وإنما التاريخ كما كان في الواقع بكل تناقضاته وتنوعاته مع وحدته في الزمان ليكون أساسا لوعي عقلاني نقدي بالذات, وتأسيسا لمنهج عمل مستقبلي واعد.

 

شوقي جلال