وهم اسمه السعادة

  وهم اسمه السعادة
        

          يحصد المال ثمار الرفاهية ويحسن المتع الأساسية في الحياة من طعام وشراب، ويقدم وسائل رخاء العيش من تقنيات راحة ووسائل ترفيه، ولاشك أن شديدي الفقر لن يكونوا سعداء كثيرا وسط شظف حيواتهم.. ولكن.

          في دراسة أمريكية على عينة شملت 49 فردا يكسب معظمهم أكثر من 10 ملايين دولار سنويا، قورنت مع عينة أخرى ضمت 62 فردا اختيروا بشكل عشوائي من نفس المنطقة، لوحظ أن شديدي الثراء سجلوا درجات مرتفعة (قليلا) بشأن عدد من مقاييس السعادة، وكذلك سجلوا درجات أقل كثيرا فيما يتعلق بالمشاعر السلبية، بمعنى أن للمال تأثيرا إيجابيا على السعادة، ولكن تأثيره محدود.. إذن ما هي السعادة، وما هي مقوماتها؟

          يعرف لالاند في قاموسه الفلسفي السعادة بأنها (حالة رضا تملأ الشعور، وهي رضا لجميع ميولنا)، أما المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية فيعرف السعادة بأنها (تنشأ من إشباع الرغبات الإنسانية كما وكيفا، وقد تنمو إلى مستوى الرضا الروحي ونعيم التأمل والنظر، وبذا تختلط بالغبطة).

          وبشكل عام لم يعد مفهوم السعادة حكرا على ما يطلقه الفلاسفة والمتأملون من آراء من خلال تجاربهم أو انطباعاتهم الشخصية، بل أخذ هذا المفهوم يظهر في ميادين البحث العلمي من خلال دراسات مسحية تجري على الناس عامة، بتطبيق اختبارات نفسية بمعايير خاصة يقيم بوساطتها درجة الرضا. ويقسم معظم الباحثين النفسيين السعادة إلى شقين أولهما انفعالي أي الشعور باعتدال المزاج، وثانيهما معرفي تأملي يتصف بالتعبير عن الرضا عن الحياة، وغالبا ما يدرس كلا الشقين معا عندالبحث في السعادة.

الحب.. وأشياء أخرى

          تشير الكثير من الدراسات إلى أهمية العلاقات الاجتماعية في إلقاء ظلال السعادة على حياة الفرد، ومن تلك العلاقات الزواج والحب والصداقة ووجود الأبناء والأقارب.

          لقد أثبتت دراسة أمريكية أن المتزوجين هم أسعد من العزاب أو الأرامل أو المطلقين، وكذلك أكدت تلك الدراسة أن الزواج هو أكثر العلاقات الاجتماعية أهمية للشعور العام بالرضا، وذلك بما تؤمنه العلاقة الزوجية من مشاركة عاطفية بين كلا طرفيها، ومن دعم نفسي وتبادل معرفي، إضافة لما توفره من متعة الجنس الذي يعتبر من المتع الأساسية. الزوج ـ أيضا ـ يمزق شباك العزلة عن الفرد، ومن المعروف علاقة الوحدة بالاكتئاب والقلق والملل اضافة لانخفاض تقدير الذات.

          وقد يحمل الزواج السعادة للأنثى أكثر من الذكر في بلادنا، وذلك لتوافق عالم الزواج مع رغبات الأنثى وحاجاتها، ولاعتبارات أخرى لا مجال للخوض فيها هنا.

          أما الحب فيمكن القول إن الدخول في عالمه المعطر ـ بصفته من أكثر المحطات الاجتماعية اثارة للمشاعر الإيجابية غير المتوقع ـ يحمل الكثير من اللذة الروحية والمتعة النفسية.

          ومن العلاقات الاجتماعية التي تحمل في طياتها السعادة هناك الصداقة، وتعتبر الصداقة أحد الخيوط الأساسية التي تدخل في نسيج عباءة السعادة التي تغمر الفرد بالرضا، وتفيد الدراسات بأن من لهم أصدقاء أكثر ويقضون معهم فترة أطول هم أناس أكثر سعادة من غيرهم. وتأخذ الصداقة أقصى أهمية لها في فترة ما بين المراهقة حتى الزواج حيث تكون العلاقة الاجتماعية الأساسية ثم تعود لتستعيد أهميتها عند الكهول. ويوفر الأصدقاء تحسينا للحالة المعنوية وتفريغا للتوتر من خلال التحدث عن الهموم، والمشاركة العاطفية، والدعم الاجتماعي والنفسي، وتبادل النصح والمشاركة في الأنشطة والألعاب.

          أما عن علاقة الأبناء بالسعادة فهي على غير ما هو متوقع! فقد كشفت الأبحاث أن الأزواج الذين لديهم أبناء هم أكثر قلقا وتوترا، ويعانون من مشاكل أكثر من الأزواج الذين لا يملكون أطفالا! ويعتبر الذكور من الأبناء متعبين لوالديهم أكثر من الإناث. وقد يكون هذا صحيحا في المجتمعات الغربية أما في مجتمعنا فلاشك أن وجود الأبناء ـ والذكور منهم خاصة ـ يعتبر من الركائز الأساسية للشعور بالرضا في إطار الأسرة، فنجد في ارثنا الفكري أن الأبناء هم سواعدنا في المستقبل، وهم الضمان لكهولتنا الغامضة، وهم الاستمرار لما بعد وجودنا، وفي كل الأحوال فإن وجود الأطفال يؤمن الكثير من الانفعالات الإيجابية. إضافة لما يهبه الأبناء من اشباع لغريزة والدية التي حبانا الله إياها لبقاء الإنسان خليفته في الأرض.

          وكذلك يعتبر وجود الأقارب مهما للشعور بالرضا بكل ما يقدمونه من عون ومساندة، كإعطاء الأموال أو اقتراضها والمساعدة في العمل وغير ذلك من دعم اجتماعي أساسي.

العمل والفراغ

          يحدد العمل الدرجة الاجتماعية للفرد، وينظم الوقت، وهو متنفس للحوافز الداخلية والحاجات النفسية، إضافة إلى أنه يثمر مالا. ويكون الناس سعداء في عملهم عندما يكون أكثر تنوعا، ويتيح لهم قدرا من الاستقلالية، والتأثير في الآخرين، عندما يؤمن جوا اجتماعيا مريحا ومكانة مرموقة.

          ويزداد الرضا عن العمل لدى الأفراد شاغلي الأعمال التي تتطلب مهارة كبيرة متوافقة مع رغائبهم وقدراتهم، ويعتبر العلماء وأساتذة الجامعات ورجال الدين والأطباء والمحامون هم أكثر الناس سعادة في مهنهم.

          وخارج العمل يمارس الناس عامة أنشطة مختلفة في أوقات فراغهم، ويمثل النشاط الممارس في وقت الفراغ واحدا من العناصر المهمة للشعور بالرضا العام عن الحياة، حتى أن الكثير من الناس يعتبرون أنشطة وقت الفراغ أكثر أهمية وتحقيقا للرضا من العمل، لأن تلك النشاطات تمارس بدافع داخلي حر بما يتوافق مع المهارات والهوايات، ولأنها تحقق إشباعا للرغائب والمطالب، أو أنها تؤمن استرخاء منشودا.

          والبيئة الاجتماعية ـ وحدها ـ ليست مصدر السعادة، بل وجد أن الكثير من الصفات الشخصية للفرد تؤثر في شعور الإنسان بها.

          فالأبحاث تشير إلى أن الأفراد الأرفع مرتبة في سلم التعليم هم أكثر سعادة من غيرهم، فالتعليم يجعل المرء أكثر احتراما وتقديرا لذاته، ويجعله أكثر قدرة على حل مشكلاته، وهذا يتفق مع ما طرحه فلاسفة اليونان القدماء، فقد قال أرسطو (إن السعادة تكمن في الحكمة، ولا يوجد سعيد في العالم إلا العاقل).

          ولاشك أن للتوازن النفسي أهميته للإحساس بالسعادة، لما يوفره من حل للصراعات الداخلية وما يفرزه من قناعة، وكما يقال فإن القناعة كنز لا يفنى، أضف إلى ذلك أنها تردم الهوة بين الطموحات والإنجازات أو الامكانات، تلك الهوة التي تعتبر نعشا للرضا ومقبرة للسعادة.

          وكذلك فإن للذكاء دورا في بناء السعادة، فالذكاء يمنح الفرد القدرة على التكيف، مما يجعل المرء أكثر توازنا عند الصعاب وأكثر إحساسا بالرضا.

العدل والجمال

          وتفيد الدراسات بأن المتدينين هم أكثر سعادة من الملحدين، فالدين ـ بكل ما يحمله من فلسفات وآراء وشروح ـ يصلح لأن يكون بلسما للجراح النفسية والخراجات الفكرية ومولدا للشعور بالرضا، فحين نعلم أن المظلوم سينصف، وأن الظالم سيعاقب، وأن الحياة ليست عبثا، وأن الموت ليس فناء، نشعر بالرضا.

          يقول كارل يونغ ـ رائد علم النفس ـ إن الغالبية العظمى من مرضاه كانت مشكلتهم الأساسية ـ التي كشف عنها التحليل النفسي ـ هي الحاجة إلى وجهة نظر ثابتة إلى الحياة برمتها سواء في الحياة الدنيا أم الآخرة، ويقر يونغ بأنه ما من أحد من هؤلاء المرضى أمكنه أن يصل إلى بر الشفاء من غير أن يستعيد إيمانه الراسخ بالدين.

          وتعتبر القدرة على تحسس الجمال وإمكان تذوق الفنون من مصادر السعادة، فالجمال توأم اللذة، والفن استجابة للحاجة إلى المتعة، فلا غرابة أن يبعث الجمال على السرور، وأن تثير الفنون التأثر الوجداني الإيجابي، وبالتالي فإن الأفراد الأكثر قدرة على تحسس الجمال بأشكاله وتذوق الفنون بألوانها هم أكثر قدرة على الخوض في عوالم اللذة والمتعة.

رفاهية كاملة

          تعرف منظمة الصحة العالمية الصحة على أنها (حالة من الرفاهية الجسمية والعقلية والاجتماعية كاملة وليس مجرد غياب المرض والعجز). إذن فالوضع الصحي الجيد مصدر للشعور بالرضا وخاصة عند الكهول، فالصحة تؤدي للسعادة والعكس، وغني عن الذكر أن المرض عذاب مؤلم ومصدر للشقاء.

          أما عن تأثير العمر على السعادة فيمكن القول إن الكهول قد يكونون أحسن حالا ماديا، ويعيشون بظروف معيشية أفضل، وانفعالاتهم الإيجابية والسلبية أقل، إلا أن صحتهم أسوأ ونشاطهم أقـل ومتـعة الجنس تنـقرض، فلا عجب أن نجد أن نسب الإصابة بالاكتئاب عندهم أكثر.

          ولجمال الجسد تأثير على النفس وخاصة عند النساء الشابات، وقد يعود ذلك لحسن تعامل الناس معهن، أو لتحسسهن لجمالهن وما يثيره هذا في نفوسهن من متعة. ولا يكترث الرجال عموما بجمالهم، ولكن طول القد يعطي إحساسا بالثقة والرضا عند الكثيرين.

وأخيرا.. لا فرق!

          من طريف ما وجده الباحثون ان اختلاف معدلات السعادة حين تتوافر مقوماتها أو تغيب لم تكن كبيرة! فمثلا أشرنا إلى أن الأغنياء حققوا مقاييس عالية للسعادة، ولكن ليس بفارق كبير عمن سواهم، والشبان أسعد من الكهول ولكن ليس كثيرا، والمتزوج أطيب مزاجا من العازب ولكن ليس بفارق مذهل!

          وربما يفسر ذلك حقيقة أن عتبة الشعور بالسعادة ترتفع مع الوقت بوجود المقوم المحرض، فمثلا يظل أحدنا يحلم بالمتعة التي ستحملها له السيارة الفارهة حتى يطالها، وبعد فترة لا يجد أن السيارة تمنحه تلك المتعة، وقديما  قيل إن  الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، إذن فالاصحاء لا يعيشون متعة تيجان صحتهم، وسكان القصور لا يتلذذون بنعيم قصورهم التي عاشوا بها سنين كما يتصور سكان الأكواخ! ولعل في تلك الحكمة سر دفع عجلة الحياة عند الناس، فلو أن السعادة ستستمر حين الوصول للهدف لوقفنا، ولكن نقصانها يحرض على البحث عن أهداف أخرى تدر على النفس الرضا.

          كما أن الإنسان يتكيف ويتلاءم عند فقد أحد مقومات السعادة بالتعويض، فمثلا يسارع من تناوشه حراب المرض لارتداء الدين درعا حامية، وقد يدلف لبطانته الاجتماعية أو تدلف إليه ليخف توتره وقلقه، وقد أثبت بريكمان في دراسة أجراها أن المرضى المصابين بشلل الأطراف الأربعة يتمتعون بنفس مستوى السعادة التي يتمتع بها الآخرون، والأمثلة كثيرة فالقبيح الجاهل يقوم باتخاذ أمواله مرتعا للذة ومصدرا للمتعة، والشاب الفقير ضعيف اللبدة الاجتماعية يجد في عمله أو دراسته ليتفوق ويحظى باحترام الذات، أو قد يرهف حسه الجمالي وتذوقه للفنون ويعيش بتلك المتع.

          وخلاصة القول أن عدالة السماء اقتضت توزيع السعادة بين البشر على اختلاف أشكالهم وممتلكاتهم بفوارق ليست كبيرة، فتخضبت بالسعادة النفوس، وامتلأت بالرضا العقول، فسبحان الله العظيم.

 

أنور دندشلي