جامعة الدول العربية: إطلالة الخمسين هيثم الكيلاني

جامعة الدول العربية: إطلالة الخمسين

يصادف يـوم 22 مارس من كل عـام ذكرى تأسيس جامعة الدول العربية. وبعد حوالي العامين، أي في ربيع 1995، تطل الجامعـة على الخمسين من عمرها.والحديث عن الجامعة، ككل بحث في شئون الوطن العربي، وبخاصة إذا كان يتعلق بالمستقبل، يتأرجح بين مذهبين متناقضين، ينفي أحدهما الآخر، هما مذهبا التجزئة والوحدة. وإذا كانت التجزئة أمرًا واقعًا، فإن الوحدة لا تزال أملاً .ولا تخرج الجامعة عن دائرة هذه الجدلية، فهي، في آن، واقع قائم، وأمل في التغيير نحو الأفضل.

جامعة الدول العربية في نظر القانون الدولي منظمة إقليمية، وفي نظر أصحابها منظمة إقليمية قـومية عربية. وهذا ما يميزها عن سائر المنظمات الإقليمية الأخرى في العالم. ونستطيع أن نخلص، من قراءة تاريخنا القومي، عند نهاية الحرب العـالمية الثانية، إلى أن تأسيس الجامعة في العام 1945، لم يأت من رغبة صرف من الدول العربية السبع المؤسسة فحسب، وإنما بنيت الجامعـة أيضا على حقائق جـوهرية ثلاث: أولاها وعي المواطن العربي بالانتماء إلى أمة واحدة. وثانيتها أن لهذه الأمة مقوماتها المشتركة، وهي موزعة على أقطار وكيانات عدة، في وطن كبير واحد. وثالثة هـذه الحقائق، وعي الإنسان العربي أن أمن الأمـة وسلامـة الـوطن الكبـير، لا يمكن أن يتما من خلال الدول القطرية، كل على انفراد.

ثنائية لا مثيل لها

كـان من الطبيعي أن يترك هـذا التميز الخاص بالمنطقة العربية أثـره في أمة واحـدة، وجـدت نفسها، خـلافًـا لإرادتها، مجزأة بين دول مستقلة. وكـان من نتيجة ذلك أن بنيت الجامعة على أساس من العـلاقـات بين دولها، هو نسيج وحده. ذلك أن هذه العلاقـات العربية قامت على ثنائية لا مثيل لها. فهي، مـن جهة، علاقـات بين دول مستقلة ذات سيـادة، قد لا تكون مصـالحها متطـابقة دائما بالضرورة. وهي، من جهة ثانية، تجسيد لروابط مشتركة تنفذ إلى النسيج الاجتماعي والثقـافي والحضـاري للأمة العربية بمجموعها.

لهذا بدا تأسيس الجامعة ضرورة أساسيـة، مندرجـة، بصورة يفترض أنها مرحلية، في صلب جدلية تاريخنا المعـاصر، وحاجـة حيوية في الحاضر والمستقبل المنظور. وهي ليست، بأي شكل من الأشكال، بديـلا للوحدة، أو مساوية لها. العكس هو الصحيح، فـالوحـدة هي البديل للجامعة. ولهذا لا ينظر إلى الجامعة إلا على أنها المؤسسـة التي تجمع وتصهر عوامل الوحدة، وتمهد السبيل إليها.

ومنذ أن ولدت الجامعـة، من رحم دول مستقلـة ذات سيادة، ولدت معها تلك الجدلية الثنائية، التي ستحكمها وتتحكم بها، وهي جدلية القومية والقطرية. فمنها نبعت المشكـلات والأزمـات، حيث تصادمت حقائق الـواقع القطري، وتطلعات الطموح القومي.

هل هي للتعقيد أم للانطلاق؟

من المعروف أن الجامعة تأسست على الميثاق الذي صدر في ربـيع العـام 1945، والذي لايزال نافذا حتى اليوم، والذي جرى تعديله بشكل غير مباشر، في حالتين: الأولى في معاهدة الـدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، والثـانية في إنشاء جهاز قيادي أعلى هو مؤتمر القمة، كأمر واقع.

وإذا ما عدنا إلى ميثاق 1945، وأخذنا بعـين الاعتبار الطعون الموجهة إليه، والسلبيات الظـاهرة فيه، فإننا نلاحظ أربعة معالم:

1 - لا يعـدو الميثاق أن يكـون المدماك الأساسي الأول لبنية النظام العربي، إذ ترك الآباء المؤسسون مهمـة إشادة البنية للأجيال القادمة.

2- لم يضع الميثاق حدودًا للرابطة القومية بين الدول الأعضاء، ولم يفرض عليها قيودًا، وإنما ترك أمرها للدول تسير في درب الرابطة القومية إلى الحد الذي تشاء.

3- لم يضع الميثـاق قيدا على الجامعـة، ولم يقصره على مجالات دون أخـرى.العكـس هو الصحيح، فـالميثـاق بمفرداته التعميميـة، وأفكاره الشمولية الفضفاضة، فتح أبوابًا لتوثيق الصلات وتحقيق التعاون، وتنسيق الخطط. ولكنه، في الـوقت نفسـه، لم يغلق بابا قط، وإنما شجع الدول على تحقيق تعاون أوثق وروابط أقوى.

4- إن ما انتاب الجامعة من ضعـف، لا ترتد أسبابه إلى الميثاق نفسه، بقدر ما ترتد إلى سياسات الدول الأعضاء تجاه العمل العربي المشترك ومؤسسته القومية. وسـواء كـانت الجامعـة محكـومـة بهذا الميثـاق أو بغيره، وكـانت الإرادات السياسيـة للـدول الأعضاء لا تـريـد الالتزام بالميثاق وبما تقرره، فالنتيجة ستكون واحدة في الحالتين.

ولقد اعتبر الميثاق يومذاك، صيغة توفيقية وسطًا. ولهذا اختلفت التقويمات في شأنه، ولا تزال تختلف. فهناك من رآه قاصرًا عن الأهداف الأساسية للأمة، وأنه وضع لحـماية استقلال الدول الأعضاء، وأنه كرس التجـزئة وباركهـا وحماها. وهناك من رآه أساسًا صالحًا لـلانطلاق، لا يغلق بـاب التطور والتقدم نحو الوحـدة.

ثمة حقيقـة سوف تحكم مسيرة الجامعـة، ولا فكاك لها منها، هي أن الجامعة تبقى أسيرة ميثاقها وأحكام الميثاق، ومحصلة إرادات أعضـائها وأصحاب القرار فيها. وهذه المرجعية، أي الميثاق وإرادات الأعضـاء، لم تمنح الجامعة، من ناحية، الصلاحيات والإمكـانات اللازمة لتقوم بدور المنظمة الإقليمية، ولم تتح لها، من ناحية ثانية، أن تمارس دورًا قوميًا بصورة فعالة. وكان من نتيجة ذلك، أن ظلت الجامعة محدودة القـدرات، محكـومـة بسيـادات الـدول الأعضاء.

وحين أسست الجامعـة في منتصف الأربعينيات كـانت خطوة متقدمـة في حينهـا. ولكنها كـانت أيضا وليدة الظـروف السـائدة يـومذاك. فقـد كـانت بعض الـدول المؤسسة مستقلة استقلالا شكليا، وبعضها الآخر كان لا يزال مقيـد السيـادة، والجميع في حـالة تخلـف شامل. والـدعوة القـوميـة محدودة في طلائع المثقفين، والكيانـات الاجتماعية الاقتصادية هشة وفي انعزال بعضها عن بعض.

القطرية تغلب القومية

ويبدو أن الآباء المؤسسين للجـامعة، لم يتنبأوا بـما يمكن أن تكون عليه الخلافات البينية، وتطوراتها المحتملة، حتى تبلغ حـد استخدام القوة المسلحـة. وبالرغم من ألوف القـرارات التي اتخذتها مجالس الجامعة على مـدار خمسـين عاما، والتي بلغ بعضها حـدًا كبيرًا من الأهمية وخطورة المسئولية، ليس بين تلك القرارات ما ينشئ آلية قادرة على استيعـاب الخلافـات التي لا مفـر من نشـوئهـا، وعلى معالجتها بالحد من تطورها ثم بتسويتها.

وفي رأينا أن الجامعة قامت بدورهـا الذي برز مع قيامها في منتصف الأربعينيات، وهو أن الدول العربية المستقلة السبع اجتمعت، أول مـرة، منـذ عـدة قـرون، داخل مؤسسة سيـاسية واحدة، كقوة إقليمية قومية على خريطة النظام العالمي الناشئ في أثر الحرب العالمية الثانية. وليس ذنب الجامعـة، أن هذه القوة الإقليمية لم تكن بالفاعلية المطلوبـة الآن، أي بعـد نحـو خمسـين عـامًا. ذلك أن الأعضـاء السبعة حـرصوا، يـومذاك، وسـايرت الأقلية الأكثـريـة في هـذا الحرص على مضـض، على أن تظل المؤسسة القومية محصـورة في إطار محدود لا تتجاوزه، وأن ينظم كل عضـو فيها ارتباطـه بالشكل الذي يشـاء، وأن يكـون حرًا في أن يلتزم أو لا يلتزم بأي قرار يصـدر من الجامعـة، دون أن يخشى حسـابًا أو مسـاءلـة من الجامعـة المكلفة بمتـابعة تنفيـذ القرارات، وهي لا تملـك قانـونًا أو قوة أو وسيلة تستخدمها في إلزام الأعضاء بتنفيذ ما قرروه. وفي الوقـت الذي تكتب فيه هذه المقالة، يبـدو النظام الإقليمي العربي، الذي تجسده الجامعـة، في إحدى حالاته السيئة. وإذا مـا أردنـا أن نتلمس الأسبـاب التي أودت بالنظام الإقليمي العربي ومؤسسته القومية إلى هذه الحالة، فسنجـد أن الأسباب كثيرة ومتنوعة، وتمتد إلى مختلف المجالات والأصعـدة، الداخلية والخارجية. وإذا لم نعمد إلى تحديدهـا، ولو بالإشارة إليها، فلأن حجم المقـالة لا يسمح بذلك. وإنما سنكتفي بعلة واحـدة، نأخذهـا مثلا نقيس عليه النتائج التي تكون معالم حياتنا القومية الراهنة. ونقصد بـذلك القطرية التـي أخذت تغلب القوميـة. فلقد أصبحت القطرية المقياس الذي تقاس عليه بعض المواقف والسلوكيات على الصعيد القومي. ولم يعد أمام القطرية خط قومي تقف عنـده. ولهذا، فليس من المستغرب أن نـلاحظ توافـر عامل السهولة في صيـاغة قرارات مجالس الجامعـة ومنظماتها، مـادامت تلك القـرارات ستبقى، بمعظمها، حبيسة ملفات الجامعة. وكمثل نضربه على هذه الحالـة، هذا الإحصاء ذو الـدلالـة: ففي مـدة 36 سنة (1945- 1981) أصدر مجلس الجامعة (4100) قرار، جرى التحفظ من هـذه الدولـة أو تلك على (615) قرارًا (15%). ونال (3485) قـرارًا الإجماع (85%). أما حين التنفيذ فإن هذه القرارات التي نالت الإجماع، لم ير النور منها إلا (205) قرارات (6%)، في حـين طوى عدم التنفيذ (3280) قـرارًا (94%).وكـان مـن الطبيعي أن ينعكـس ذلك كلـه بشكـل مبـاشر على الجـامعـة ومنظماتها، وأن يترك عقـده وآثـاره على سـاحـة العمل المشترك. فهبط هذا العمل إلى مستوى لم تعهده الجامعة من قبل، في مقابل ارتفاع مستوى التمسك بالشرعية الدولية وتنفيذ أحكامها.

وكان من نتيجـة ذلك، أن تأثرت معظـم المشروعات والخطط التي أقرتها الجامعـة ومنظماتها المتخصصـة، في المجالات الاقتصـادية والاجتماعية والعلمية والأمنية، فلم تستطع أن تبلغ ما حُدّد لها من أهداف، فقسم منها لم ير النور. وقسم آخر بدأ ولم يكتمل، وقسم ثالث، وهو الأقل، تم إنجـازه ولم يحسن استثماره قوميًا، أما المشروعات الكبرى ذات القيمة القومية الفاعلة مثل الوحـدة الاقتصـادية، والسوق المشتركـة، والصناعـات المشتركة، والاستثمار المشترك المالي والعلمي والتكنولـوجي للطاقات العربية، والتبادل التجاري، والوحدة الثقافية، وغيرها كثير، فقد تعثرت أو تقلصت أو طويت، لأسباب كثيرة.

ثلاث سمات للواقع العربي الراهن

وهكذا، يجوز لنا أن نصف الواقع العربي الراهن بثلاث سمات رئيسية: أولاها أن العلاقات العربية البينية لا تزال تعيش حالة انكماش جامد، وثانيتها أن دور القوى الأجنبية في الشئون العربية لا يزال بارزًا، وثالثتها حـالة الضعف التي تعيشها الجامعـة نتيجة أسباب عدة، يأتي في مقدمتها السمتان الأوليان.

وتعيش الجامعة أيضًا أزمة مع نفسها، من حيث طبيعتها وما وفّر لها الميثاق من آليات. فيوم أن صاغ المؤسسون الميثاق، نصّوا على حق كل دولـة عضو في عدم التزام أي قرار تصدره الجامعة لا توافق الدولة عليه. ومن هنا نشأت تلك الهوة التي أخذت تتسع بمرور الزمن، بين الآمال التي علّقتها الأمة على الجامعة يـوم تأسيسها، وبين تحلل الدول الأعضاء من أي قرار لا توافق عليه تلك الـدول. وهكذا عانت الجامعة، وبخـاصة في السنوات الأخيرة، غياب الإرادة السياسية الواحدة لأعضائها.

ولا ريب في أن الخلافات العربية البينية، التي بلغت حد النزاع المسلح أحيانًا، والتي نشأت مع ولادة الجامعـة، واستمرت حتى يومنا هذا، تكمن في أساس الضعف الذي فرض على الجامعة. ولقد راح بعض المفكرين والسياسيين، القطريين منهم والقوميين، يلقون مجموعـة الأخطـاء والقصورات والنكسات والهزائم على ظهر المؤسسة القومية واستراحـوا إلى ذلك، في حين أن تلك المجمـوعـة من الأخطاء، قد شارك في صنعها أولئك الذين أحلّوا الضعف والوهن في بنية الجامعة.

ولم تقتصر أزمة الجامعة على التشكيك بـالعمل العربي المشترك ومؤسسته القومية، وإنما امتدت لتطرح بدائل له. وهكذا نلمح في الأفق مشروعات تنظيمات إقليميـة بديلة، كـالتنظيم الشرق أوسطي، أو التنظيـم المتوسطي، أو غيرهما، ما يذكرنـا بمشروعات الخمسينيات. المهم في جميع هذه الطروحات، هو تغيير صيغة العمل العربي ومؤسسته القومية، وإيجاد سبيل إلى رابطة تضم دولا عربيـة وغير عربية.

لا ريب في أن تراكم الانتكاسات والتراجعات في الفكر والعمل القوميين ومؤسساتهما وتنظيماتها الرسمية والشعبية على مدار الأعوام الخمسين الماضية، قـد ترك آثـاره على الجيل العربي الراهن. ووجد دعاة القطرية أسباب المحنة في العروبة، كفكر وثقافة وسياسة وهوية، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن أخـرج العرب من تيار التـاريخ، وأدخلهم في طي النسيان.

لقد أدى ضمور الحركة القومية، إلى طغيان القطرية فلم تجد ما يمنعهـا من تجاوز مبادئ الميثاق وأحكـامـه، والانزلاق إلى مجال خطير، هو تدخل دولة في الشئون الداخلية لدولة أو دول أخرى، ثم الانتقال إلى تحقيق أهداف قطرية بالقوة. كـما أدى أيضا إلى أن تملأ القطرية ساحـة العمل القومي. فطويـت برامج التنمية القومية، التي جهـدت الجامعـة ومنظماتها في إعـدادهـا، لتكون القاعدة المادية الصلبة للاقتصاد القومي، وللثقافة القومية ،وللأمن القومي، وتناوبت عليها الهزائم والنكبات، ووصفت القومية، بمفاهيمها وأهدافها، بأنها خيال ووهم، وقيل عن الـدعوة إلى تنميـة عربية شـاملـة إنها تخلف وغير ذات جدوى، وعن الـدعوة إلى عمل مشترك يصون الأمن القومي إنها تـدخل في الشئون الـداخلية لدول مستقلة.

وفي ترجيحنا أن القطريـة تسير في عكس اتجاه التاريخ. ففي حـين نشهد بزوغ القوميات التي كانت مطمورة تحت غطاء مذاهب اجتماعية، تتقمص القطرية في بعض البلدان العربية هويات حديثة مصطنعة، فلا هي تضرب جذورها في عمق التاريخ، ولا هي بقادرة على أن تشكل بـديلًا مقبولا للهوية القومية الطبيعية التي امتزجت فيها العروبة والإسلام على مدى خمسة عشر قرنا، ولا هي في قوة وعمق وأصالة قوميات متاخمة قديمة وراسخة.

ثمة حقيقة لم تستطع القطرية أن تقرب منها، أو تمسها بسوء، بالرغم من كل الممارسات التي حاولت القطرية أن تتجاوز بها بعض مبادئ الميثاق وأحكامه. تلك هي الكيان القومي، المتجسد في الجامعة، ذلـك أن هذا الكيان لا يزال مناط النظام الإقليمي القومي، والبيت الذي يجمع الأهل. ففي أحلك الأزمات، وأقسى المحن، أظهرت جميع الدول الأعضاء، بلا استثناء، تمسكها بالجامعة. وقـد أثبتت هذه الحقيقة أن الخلافـات العربية البينية، مهما بلغت حـدتها ونوعها، تبقى دون حد المساس بكيان المؤسسة القومية.

إن مسـاعي التغيير في الجامعـة، مـن أجل أداء أفضل، ودور قومي أوضح، ومردود قومي أنفع وأعم، بدأت منذ العـام 1951 ولا تزال مستمرة. وفي كل مسعى قامت بـه الجامعـة في هذا السبيل، كـان المنطق السائد الذي يواجـه المسعى، يقوم على أنه من الأفضل بقاء الجامعـة بميثاقها ونظامها ودورها على ما هي عليه. ففي ذلك صون للرابطة التي تجمع الدول الأعضاء جميعها، ومرونة تشد الأعضاء فلا ينفرون منها، ويبقون على تلك الرابطة، دون النظر إلى متانة تلك الرابطة وقيمتها القومية. ويرى أصحاب هذا التوجه، الذين يدافعون عن الميثاق كـما صيـغ منذ نحـو خمسين عامـا، أن مرونـة الميثاق في الخيار الحر بين الالتزام وعدم الالتزام، هي التي صانت الجامعة، وحفظت الرابطة القـومية من الانفـراط، إذ تستطيع كل دولـة أن تحتفظ بسيادتها القطريـة كـاملة دون نقصـان، وأن تحتفظ، في الوقت ذاته، بعضويتها في المؤسسة القومية، حيث يكون الالتزام القومي خيارًا حرًا.

تعـددت محاولات التغيير في الجامعـة وكـان أبرزهـا وأكثرها جدية وعمقًا واتساعًا، ذلك المسعى إلى تعـديل الميثاق في صلبه، الذي بدأ بقـرار مجلس الجامعة في العام 1979، وصادق عليه مؤتمر القمة العـاشر بعد خمسة أشهر وأكده بعـد أحد عشر عاما مؤتمر القمة في بغداد في مايو 1990. وقد انتهى هذا المسعى الـذي استمر أكثر من عشر سنوات إلى وضع صيغ تعـديلية تمحـور حـولها حتى الآن اتجاهان: أولهما يرى أن يتم تعديل صلب الميثـاق نفسـه، وثانيهما يقترح الإبقاء على الميثاق الحالي مع إضافـة ملاحق تتناول فقط الموضوعات التي ستعدل، مثل الأخذ بقاعدة الثلثين بدل الإجماع في التصـويت، وتأسيس محكمـة العدل العربية.

في خـلاصة الحديث، لنـا أن نزعم أنـه مهما اختلفت التعريفات وتنوعت في شأن جامعة الدول العربية، فثمة مفهوم قد يحوز الوفـاق. وهو أن الجامعة تعبير عن إرادات أعضائها، وتجسيد للنظام الإقليمي العربي. ولا ينبني هذا النظام إلا على أساس فلسفة تعرف ماذا تريد، وتتحرك صوب ما تريـد، في إطار استراتيجية قـومية تـوصل إلى الهدف المنشود.

لقد أصبح من الطبيعي، بعد تجارب الأعوام الخمسين من عمر الجامعة، وما شهده الوطن العربي من أزمـات ومشكلات، وما يحدث في النظـام العالمي من تحولات، أن تمتد يـد التطوير والتغيير إلى النظـام الإقليمي العربي، ومؤسسته القومية، من أجل توفير القدرة على التعامل مع التحولات الـدولية والإقليمية، وللتصدي لمخـاطر بلقنـة المنطقة العربية، التي أخذت نذرها تتجمع وتفعل فعلها.

ثمة ثـلاثة مشـاهد (سينـاريوهات) محتملـة يمكن تصورها لوضع الجامعة:

1 - المشهد الأول: مشهـد المراوحـة، أي أن تستمر الجامعة على حالتها الراهنة، فلا هي تنعم بتضامن ينعشها، ولا هي تبلغ حـافـة الإنقاذ. وإنما هي في حالـة مأزق، يتصف باستمرار آليـات العمل، دون القدرة على اتخاذ قرارات فاعلة، أو تبني خطط وبرامج قومية قابلة للتنفيذ.

2- والمشهد الثاني: هـو حالة العزوف السيـاسي التي تمارسها بعض الدول الأعضاء، وهي حالة ستكون الجامعة ساحتها وضحيتها فتصيبها بالشلل والجمود.

3- والمشهد الثالث: هو إحياء التضامن العربي، الذي يعيد الحركة للجامعة وآلياتها. وهنا يبدو التضامن العربي المقدمة الطبيعية والضرورية لكل توجه قومي ينوي تأسيس نظام عربي جديد. ويبرز هنا الدور المهم للجامعة، بحيث تتجاوز كونها مرآة عاكسة، لتغـدو البوتقة التي تتلاقى فيها العناصر والعوامل القومية.

خلاصة القول، إن جامعة الدول العربية كانت وستبقى المؤسسة القومية للعرب، وهي، كـما وصفت، بيت العرب. والبيت يجمع الأهل على اختلاف آرائهم واجتهاداتهم. ولا بديل لهم عنها سوى الوحـدة الشاملة، ولا خروج لهم منها لأن الخروج غربة لا تحتملها طبيعة العروبة.

ولأن الجامعـة كـذلك، ولأنها ستبقى حـاملة آمـالا ومطامح ليست قـادرة على تحقيقها ما لم توفـر لها الـدول الأعضاء الوسائل الكفيلة بصنع تلك القدرة، فإن الجامعة ستظل مـوضعا للأمل، وللحث على الـوصول إلى ذلك الأمل، وللنقد حتى حد المغالاة والوهم.

 

هيثم الكيلاني