شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ
        

كنوز كليوباترا المفقودة 

          كثيرة هي القصص التي تروى عمّا يسمّونه (غراميات وانتحار كليوباترا) ملكة مصر البطلمية, وهي كلها جادت بها قرائح الكتّاب وخيالات المؤلفين, وكتّاب الطليعة من مختلف الجنسيات أمثال بوتارك وشكسبير وبرناردشو وإميل لودفيج وبارنجتون وغيرهم, ولكنهم في الحقيقة ابتعدوا في أغلب الوقائع عن التاريخ الحقيقي, إذ استهوتهم غرامياتها ومأساتها, فراحوا يدورون حولها كل حسب أهوائه, وهكذا انقسموا إزاءها إلى فريقين: فريق يرى فيها حية رقطاء وامرأة تلهبها شهوة الجسد, وفريق يرى فيها ملكة ممتازة بما أوتيت من وطنية وروح عالية وطموح منقطع النظير, وكثرة هذه السير تزيد تاريخها إبهاماً بدلاً من أن توضحه, حتى صار يشق على المؤرخ استخلاص الحقائق من الأوهام, ولكن ماذا يقول المؤرخون المتخصصون في وطنيتها وانتحارها وأسرار كنوزها المفقودة؟

كاليجولا والبحث عن الكنز

          بعد انهيار حكم البطالمة في مصر بانتحار آخر ملوكهم كليوباترا, نقل أفراد أسرتها إلى روما في رعاية الإمبراطور إكتافيوس (أغسطس فيما بعد), وكان لكليوباترا ابنة من أنطونيوس من بين ثلاثة أبناء هي كليوباترا سيلانة كان قد عيّنها ملكة على ليبيا وبرقة, وقد زفت سيلانة بعد ذلك إلى جوبا الثاني ملك موريطانيا (وهو الاسم الذي كان يطلق على كل الأراضي المغربية بالشمال الأفريقي), فلما توفي جوبا عام 18م, خلفه على العرش ابنه بطليموس حفيد كليوباترا من ابنتها سيلانة, وفي عام 27م, جاء على عرش قياصرة الرومان الإمبراطور كاليجولا السفاح الذي كان قد بلغه أن في حوزة ملك موريطانيا أكداساً من الذهب والفضة والجواهر والحلي هي ما تبقى من كنوز البطالمة التي سلمتها كليوباترا سرّاً إلى سيلانة وهي تغادر الإسكندرية إلى برقة مقر ملكها قبل أن يقتحم أغسطس  مصر.ورسم الإمبراطور خطته للاستيلاء على الكنز الذي بلغه أن أورانيا زوجة بطليموس تخفيه, وإذ عجز كاليجولا عن معرفة سر الكنز, دعا بطليموس إلى روما, وخلال مأدبة فاخرة, غرق الملك في الخمر حتى الثمالة, وحاول كاليجولا بشتى الطرق أن يعرف منه سر كنوز كليوباترا التي تخفيها زوجته, وبالرغم من التعذيب الرهيب الذي أنزله بالملك, فإنه لم يتكلم بشيء, لأنه - بالفعل - لم يكن يعرف, وأمر السفاح حرّاسه بالإطباق على الملك وتمزيقه بالخناجر والسيوف, ثم أصدر أوامره بأن تكون موريطانيا ونوميديا ولاية رومانية, وحين سمعت الملكة أورانيا نبأ الكارثة, فرّت من عاصمتها إلى الجبال القريبة واعتصمت بها, وعبثاً حاول كاليجولا العثور على الملكة أو المخبأ الذي أخفت فيه الكنوز, ولم يستطع أحد حتى بعد مقتل كاليجولا عام 41م معرفة مكان اختفاء أورانيا وكنوز كليوباترا, فقد كانت قد ماتت دون أن تطلع أحداً على السر, كما لم يتكلم أحد ممن رافقوها في رحلتها الأخيرة من حياتها في الجبال الشاهقة المشرفة على (قلعة تاماكا), (وهي تطوان المغربية الحالية) التي ضمت في أعماقها رفات الملكة أورانيا وكل ما كانت تخفيه من كنوز كليوباترا التي دفنت معها.

قبل أن تنتحر الملكة

          وعودة إلى أواخر أيام كليوباترا والصراع بين أنطونيوس وأكتافيوس, ففي عام 44 ق.م, وبعد مقتل يوليوس قيصر, اتفق القناصل الرومان الثلاثة على أن يتولى أنطونيوس شئون الشرق حتى ألبانيا وليبيا وبرقة, وكان المغرب من نصيب أكتافيوس, واحتفظ ليبيروس بشمال إفريقيا حتى موريطانيا, وتأكيداً لأواصر الاتفاق, تزوج أنطونيوس من أكتافيا أخت أكتافيوس بالرغم مما كان معروفاً عن العلاقة بين أنطونيوس وكليوباترا, في تلك الأثناء, أنجبت كليوباترا من أنطونيوس توأمين غير قيصرون الذي أنجبته من يوليوس قيصر, وفي خريف 38 ق.م, وبرغم القوانين الرومانية, تزوج أنطونيوس من كليوباترا واعترف بالتوأمين, وأطلق عليهما إسكندر فليوس وكليوباترا سيلانة, واستعادت كليوباترا من أنطونيوس الجانب الأكبر من إمبراطورية أجدادها البطالمة. ويقول المؤرخ بوشيه: (وبالرغم من كل ذلك, فإنه من المؤكد أن أنطونيوس لم يحصل إذ ذاك على شيء من كنوز كليوباترا التي كانت تحتفظ بها لهدف معين لم تشر إليه بطبيعة الحال حتى بعد أن أنجبت له طفلاً آخر عام 36 ق.م أسمته بطليموس فيلادلفوس, وتقديراً لها, أقام أنطونيوس مهرجان النصر في الإسكندرية بدلاً من روما مما أثار الرومان وأكتافيوس وأعاد الحرب بينهما.

          وبخاصة بعد أن نادى أنطونيوس بأبناء كليوباترا ملوكاً على بعض ممالك الشرق, ولحبّه الشديد لها, أعلنها ملكة الملوك على مصر, وإن عتب عليها أنها لم تسلمه ثروة مصر).

ماذا يقول المؤرخون؟

          يقول المؤرخان جوكيه وبوشيه ويؤيدهما المؤرخ المصري إبرهيم نصحى المتخصص في تاريخ البطالمة: (لقد أصبحت كليوباترا في نظر الجميع بشرقي الأدرياتيكي زوجة أنطونيوس الشرعية, لكن الرومان لم يعتبروها سوى عشيقة لأن أنطونيوس لم يطلق بعد أكتافيا. وراح كل من القائدين الرومانيين يحاول بسط نفوذه وسيطرته ليضرب منافسه), وكانت كليوباترا وراء أنطونيوس للعمل على قهر روما وأكتافيوس, وكما يقول بوشيه: (إن ما كان يدفعها إلى تشجيعه عاملان رئيسيان: أحدهما هو الرغبة في الثأر للمعاملة السيئة التي كالتها روما لوطنها ولأجدادها البطالمة, والآخر هو حب المجد والسيطرة التي حلمت بها منذ أخذها يوليوس قيصر إلى روما حيث طردها الرومان بعد اغتياله في الكابيتول).

          كانت واقعة أكتيوم البحرية هي آخر مراحل الصراع بين أسطول أكتافيوس وأسطول أنطونيوس الذي يدعمه أسطول كليوباترا الذي انسحب من المعركة عندما ظهرت بوادر الهزيمة, ويقول الدكتور إبرهيم نصحى (إنه يعتقد الآن أن كل القصص التي تدور حول غدر كليوباترا قصص ملفّقة, والمؤكد أنه كان هناك اتفاق سابق بين أنطونيوس وكليوباترا على الهرب إذا فشلا في دحر أسطول العدو, ولذلك يجب أن نرفض رؤية بلوتارك التي تتهمها بالغدر والخيانة عندما بدت بشائر الهزيمة, وانضمام رجال أنطونيوس خلال المعركة بسفنهم, إلى الجانب الآخر).

          فقد عرفت كليوباترا عندئذ إنه قد قضي عليها هي ورجلها, وأنها لابد أن تقع أسيرة, وتُقاد في شوارع روما مقيدة بالأغلال في موكب النصر, ولأنها لم تكن لتقبل لنفسها كملكة لمصر هذا الهوان, فقد أشاعت في الإسكندرية أنها ماتت حتى يكف أكتافيوس عن البحث عنها, إلا أن الإشاعة عندما بلغت أنطونيوس أسرع إليها وغرس سيفه في بطنه منتحراً, أما أكتافيوس, فقد خاف أن تفر من يديه بكنوزها, فبعث إليها بالرسائل يعدها بأحسن معاملة, ولكنه سيقتل أبناءها إذا هي أساءت إلى نفسها, ولم يكن يدري أن كليوباترا قد هرّبت كنوزها مع ابنتها سيلانة من قبل, وفي الوقت الذي أرسلت فيه إلى أكتافيوس رسالة تطمئنه فيها, كانت قد طلبت من بعض أتباعها (صلا) مخبأ في سلة مليئة بالتين, وجلست على عرشها بكامل زينتها وتاجها, ومدت يدها إلى داخل السلة ليتسلل الصل إليها ليلدغها في ذراعها لتقتل في الحال منتحرة حرصاً على كرامتها كملكة لمصر من أن تُساق في موكب النصر إلى روما.

 

سليمان مظهر