جمال العربية

 جمال العربية
        

لغة الهمس  

         حين أطلق الناقد الكبير الراحل الدكتور محمد مندور مصطلحه النقدي الشهير (الشعر المهموس) كانت قصائد الشعر المهجري ونماذجه الرفيعة ـ لجبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي وغيرهم من شعراء الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية ـ أمام عينيه وتحت مجهره النقدي، وكانت اللغة الشعرية التي استحدثها شعراء المهجر الأمريكي مغرية بسك هذا المصطلح وتطبيقه على نماذج أخرى سلمت من الوقوع في المباشرة والخطابية والنبرة العالية وحققت بالهمس النافذ إلى الأعماق والمحرك لطبقات الوجدان ما لا يحققه هتاف زاعق أو بيانات شعرية صاخبة.

         ولم يكن الدكتور مندور يدري ـ وهو يطلق مصطلح الشعر المهموس ـ أن بعضا من هذا الشعر الذي تحمس له وأفاض في جلاء مواصفاته والتركيز على ما فيه من نفاذ وعمق وإنسانية سوف يجده بين يديه وفي عقر داره، متمثلا في شعر تلميذته في الجامعة ثم زوجته ورفيقة عمره الشاعرة ملك عبدالعزيز.

         وعندما دفعت إليه بقصائد ديوانها الأول (أغاني الصبا) آملة أن يكتب لها مقدمة نقدية تكون جسرا بينها ـ وهي الشاعرة التي تخطو خطوتها الأولى ـ وبين القارىء، أدرك أن شعرها شعر طبع لا إرادة، وأنها لا تفتعل الشعر، وإنما ينبجس من روحها كما تنبجس ينابيع الماء العذب وسط مجالي الطبيعة. وكما ينساب الماء من النبع دائم الصفاء متجدد الخرير يتجدد الشعر في روح هذه الشاعرة الأصيلة الصادقة المخلصة لذاتها. ثم أضافت العلاقة الحميمة بين الناقد والشاعرة أبعادا أخرى لهذا الإدراك جعلته يفصح في مقدمته عن رؤية للإنسانة والشاعرة معا وهو يقول: (وملك عبدالعزيز هامسة في شخصها وفي نبرات صوتها وفي نغمات شعرها، ومع ذلك ففي همسها قوة روح وجلال صوفي، لم أدرك قوة إيحائه وعمق نبراته مثلما أدركته وهي تنفث في روحي الأمل).

لغة شفافة

         ولم يفت الدكتور مندور إدراك أن شعرها الهامس لا يعني الضعف أو التخاذل أو الاستسلام بقدر ما يوحي بالقوة، ولكنه على حد قوله: لا يجعجع بها. إن لغة الهمس في شعرها لغة شفافية وتدفق وانسياب، لغة روحانية عالية وصوفية عميقة، لكنها ـ في الوقت نفسه ـ لغة إرادة وصمود ومقاومة، بل هي في كثير من الأحيان ـ نتيجة لحساسيتها المفرطة في علاقتها بأفراح الآخرين وأتراحهم ومشاركاتها الدائبة في قضايا الوطن والإنسانية ـ تصبح متفائلة بهذا الهمس الشعري القادر على النفاذ والاختراق.

          تقول ملك عبدالعزيز في قصيدتها (بطاقة إلى الشهيدة سناء محيدلي) شهيدة المقاومة الباسلة في لبنان:

يشرق وجهك من بين الظلمةِ،
من بين الأستار
موسيقى، نجوى، أشعار
يا ملهمة الثوار
إن الموت حياة للأحرار
أشلاؤك تنبت حتى في الأحجار
أشجارا وظلالا وثمار
يزهو فيها الثوار
وتغني الأطيار
أغنية الحرية
أغنية الأبرار
***
أشلاؤك تصاعد في الأفق
بخورا ونضار
تتحد بجسم الأنجم
في الفلك الدوار
نورا يهدي من رام طريق العزة
من رام الإصرار
***
ماذا صنع رجالك يا صافية القلب
يا بنت العشرين وبنت الحب
ماذا صنع رجالك
برفاق البيت، رفاق الدرب
صبغوا التضحية بغدر الأشرار
رجموا مجدك بالأحجار
وتساقوا دم إخوتهم
في دن الفجار

استدارة الدائرة
         هذه النغمة الهادئة في تناول حدث البطولة والاستشهاد وهذه النبرة الحانية التي تفيض حنانا وأمومة تخلعها الشاعرة على ابنة العشرين، بنت الحب، وهذه اللغة الهامسة التي اتسعت لبعض مفردات معجم الغضب وسورة الانفعال مثل: الأشلاء والموت وغدر الأشرار ودم الإخوة ودن الفجار  وغيرها، هذه اللغة  ظلت على سمتها الأساسي لا تنزع إلى خطابية أو مباشرة، وتكمل استدارة الدائرة بدءا من إشراق الوجه والموسيقى والنجوى والأشعار وانتهاء بصافية القلب: بنت العشرين وبنت الحب.
وتظل ملك عبدالعزيز تغني دائما لما تبقى:

أعطني ما تبقى من العشق،
صوت النوافير ينعش روحي
صوت العصافير صوت المطر
ماذا تبقى من العمر، ننشد فيه الأماني
ووطء السنين يثقل خطو الزمان الرتيب
نسمة الصبح توقظ أغنية
كان يعرفها في الزمان الخلوب
مر من فوقها الوقت فاختبأت
لفها الصمت في باعه المستقر الرحيب
***
أعطني ما تبقى من العشق
مازال في القلب عرق يغني
ومازال في القلب شق للقيا الحبيب

توهج الروح
         في واحدة من أجمل قصائد الشاعرة الراحلة ملك عبدالعزيز تتجلى لغة الهمس في شدة أسرها وعذوبتها، وإحكامها وتدفقها، وتورق شجرة الشعر الندية بروح الشاعرة المسقية من عمق وجدانها إنسانية ورهافة وشفافية وتتوهج هذه الروح الشعرية المرفرفة وراء تجليات العالم الطبيعي المنظور من شجر وخضرة وبحر ولؤلؤ وأعشاب ونهر وزهر ورياح وطير ولحون وشفق ذائب ونور سابح ورعود وأعاصير وغيوم وأمطار. وفيما وراء المنظور من هتفات النفس وعصير الروح الذائب خلال الروح والجدار الفاصل بين الأغوار حتى ليجعل اثنين غريبين ويجعل كل حوار زيفا. في قصيدتها: (أن ألمس قلب الأشياء) التي جعلتها عنوانا لإحدى مجموعاتها الشعرية، تصرح الشاعرة برغبتها في اكتناه السر البعيد والولوج إلى العالم المجهول الذي تنسدل ستائره فتضفي الظلال على جوهر العلاقة بين اثنين، إنها تتوق ـ بكل ما تملكه من رغبة وتطلع ـ إلى أن تلمس قلب الأشياء. والغريب أن الشاعرة تستهل قصيدتها وكأن ما تقوله إجابة عن سؤال مقدرمطروح، أو خبر لمبتدأ محذوف. قد يكون تقديره: الحب الحقيقي أو الحياة الحقيقية أو الجوهر الذي أبحث عنه وأتطلع إليه، فالشاعرة تبدأ بالإجابة أو الخبر الذي يشي بحقيقة المبتدأ: أن ألمس قلب الأشياء.. وتتابع القصيدة على هذا المنوال في مقاطعها الثلاثة، والعزف الشعري الهادئ، واللغة الهامسة جناحا الشاعرة في تشكيل هذه الترنيمة الجميلة:

أن ألمس قلب الأشياء
أتغلغل في لب الشجر الممتد الأفياء
أتمدد في الخضرةِ
أتوهج في الثمر العذب الإرواء
وأغوص بعمق البحر وأشتف الأنحاء
أتسلل في اللؤلؤ، في أعشاب البحر الخضراء
أتحلل في حضن النهرِ،
قطيراتٍ من ري وخصوبة
وأذوب عطاء وعذوبة
أن أسري في الزهر عطورا فواحة
في الأفق رياحا
في قلب الطير لحونا وغناءَ
في زبد البحر ضياء
لونا في الشفق الذائب في الآفاق
ألقا في النور السابح في الأحداق
نغماً في الموج، رعودا في الإعصار
ظلا في الغيم، رذاذاً في الأمطار
وهجاً في الصبح،
ندى في قلب الأسحار
***
حين تعانقنا
هل ذاب عصير الروح خلال الروح
هل امتزجت كل الأهواء؟
هل صرنا كلا متحدا
يتحدى وجه الأشياء؟

أم قام جدار
يفصل بين الأغوار
يجعلنا اثنين غريبين
ويجعل كل حوار
زيفا تلفظه الأفواه
لا تدرك يوماً معناه!
***
أن نتجاور ليس القرب
أن نعطي سر القلب
ألا نحتجز هوانا شُحا وضغينة
أن ننسى الذات ونفنى في المحبوبِ
رضا وسكينة
حين نجود بسر القلب
حين نجود بفيض الحب
تتداعي الجدران وتنهد
عندئذ، نلمس قلب الأشياء
نلمس قلب الأشياء
نلمس قلب الأشياء!.

 

فاروق شوشة