طبيب قنوع غسان حتاحت

طبيب قنوع

حكايات طبية

عنـدمـا زارني صـديقي الطبيـب المقيم في الولايات المتحدة، أخذنا نسترجع معا ذكريات السنين الخوالي، التي مـرت عليهـا الأيام فمحت سيئاتها وضاعفت حسناتها، فغدت مصدر حنين ومبعث نشـوة. وكان طبيعيا أن يدور الحديث عن زملاء لنـا عرفناهم في تلك الحقبة الغـابرة من الزمن، وكان منهم زميلان أمريكيان هما لاري كراو فورد وبوب ريز. ولكل منهما قصـة طريفة فيها من العبرة الشيء الكثـير.

أما لاري كراو فورد فكان طويل القامة، يشبه ممثل أفلام رعاة البقر القديم جون وين، بل إنه كان يتكلم مثله من طرف فمه، لأن طرف الفم الآخر كان ينطبق في أغلب الأحيان على لفافة تبغ. وكان أكثر حـديثه عن النفقـات الماديـة التي تترتب عليـه بسبـب حياة العزوبيـة والانطلاق، والصبايا الكثيرات الـلاتي كان يصاحبهن.

أما بوب ريز فكـان على العكس قصير القامة- نسبيا- يضع على عينيه نظارة سميكـة، وكان هادئ الطبع، شديد الولع بالتحصيل والدراسة، يقضي جلّ وقتـه- بل كلـه- في المطالعة والقراءة، حتى أننا كنا نمازحه ونسأله: كيف استطاع أن يجد متسعا من وقته كي يحضر حفل زفافه !.

وأذكـر أنني أخـبرتـه مـرة أن المشفى قرر أن يقيم حفلـة مرح صغيرة بعـد انتهـاء الدوام، يحضرهـا من يريد من العاملـين والعاملات في المشفى، حيث تعزف الموسيقى الراقصة ويرقص على أنغامها من يشاء، وتوزع فيها مجانا مشروبات مختلفة، تتراوح بين عصير الفواكه (بانش) والمشروبات الغازية انتهاء بالجعة ( البـيرة). فقال لي: إن حفلـة المرح الحقيقيـة هي التي أقضيها في بيتي مع زوجتي وطفلي.

وعلى الـرغم من مـرور عشرين سنـة أو أكثر على سماعي هذه الجملـة فإنها ما تزال ترن في أذني بعد أن علمتني الأيام والتجارب كم هي صادقة حقّا.

عنـدما جمعتنا مرحلـة التمرين في أمريكـا بهذين الطبيبين، كنا نعمل في مشفى جـامعي كبير، وقـد استحصل المشفى لنا- نحن الأطباء الأجانب- على تراخيص مؤقتة تسمح لنا بممارسة الطب داخله، أما الطبيبان الأمريكيان فكانا يحملان إجـازة من الولاية تتيح لهما ممارسة الطب فيها. وهي إجـازة كان يمكن أن نحصل على مثلها لو أردنا، لولا أننا لم نكن نحتاج إليهـا للعمل في المشفى، إذ كانت الرخصة المؤقتة كافية.

أما وجود الإجازة من الولاية فكان يتيح لمن أراد، أن يعمل في ساعات فـراغه في قسم الإسعاف في مستشفيات صغيرة، براتب يحسب بالساعة، ويعادل راتب ساعة واحـدة أجر يوم كامل أو يزيد من عمل الطبيب المتمرن. بل إن دخل ثلاثة أيام من العمل في غرفة الإسعاف يزيد على راتب شهر كامل. ومعروف أن راتب الطبيب المتمرن يقل عن أجر ممرضة مجازة. غير أن أنظمـة المشفى الجامعي وقـوانينه تمنـع هذا العمل الإضافي بل وتحرمه تحريـما شديدًا.

على أن لاري كـراو فورد كـان يضرب بأنظمة المشفى عرض الحائط، ويداوم في قسم الإسعاف في مشفى آخر صغير عدة أيام في الشهر، وكثيرًا ما كان يأتي إلى العمل صباحًا وهو محمر العينين يكاد النعاس يغلبه، بسبب مناوبته في الليلة السابقة في أحد أقسام الإسعاف. (علما بأننا كنا جميعا نناوب مرة كل ثلاثة أيام في المشفى الجامعي دون أية إضافة إلى الراتب). لذلك كانت مناوبـات لاري الإضافية تشكل عبئا صحيا وجسميا كبيرا، لكنه كـان يبرر ذلك بأن المال ضروري جـدا، للإنفاق على مغامراته النسائية المتعددة.

وعنـدما سألت بوب ريز مرة: لماذا لا يـداوم في قسم الإسعاف في مشفى آخر كـما يفعل زميلـه كراو فورد؟. نظر إليّ من خلف نظارته السميكة ثم قال لي : ولماذا أفعل ذلك؟ أمن أجل المال؟ إن حـاجـاتي المادية محدودة. فلدي بيت صغير لكنـه منـاسب، وسوف أنتهي قريًبـا من تسديد آخر أقساطه، ولدي سيارة متواضعـة أتناوب مع زوجتي في قيادتها، وهي ملك كـامل لي بعـد أن أتممت دفع ثمنها بـالتقسيط. ماذا سيجلب لي المال؟ أبيتا أكبر؟ أنا مرتاح في بيتي الصغير، أسيـارة أكـبر؟ إن سيـارتي تعجبني على علاتها.

ثـم تـابع: أود أن أسـألك: لماذا قطعت آلاف الأميال لتأتي إلى هنا؟.

قلت له: لقد جئت كي أتابـع تمريني واختصاصي في طب الأطفـال، وأطلع على الجديد في العلم والطب. فـرد علي: لقد جئت من أقصى المعمورة (الحقيقـة أنني لا أوافقه على هذا التعبير، لأنني أعـد الـوطن العـربي ودمشق بالخاصة قلب المعمورة) في سبيل العلم مضحيا بحياة مريحة وسط بلدك وأهلك وأصدقائك. وأنا كذلك أضحي في سبيل العلم، ولا أسعى وراء المال. فالعلم غاية في حد ذاته. ولذلك لا يمكن أن أفكـر أبـدًا في أن أضيع وقتي في غـرفـة الإسعـاف في مشفى صغير من أجـل حفنـة من الدولارات، مهما كـانت المغريـات كبيرة، إذ لا يقوم بهذا العمل إلا أطباء من الدرجة الثالثة وما دونها.

سمعت هذا الجواب وشعرت بشيء من الراحة، إذ لا أخفي أنني كنت أغبط لاري كراو فـورد على دخله الكبير من عمله الإضافي، وعلى مغامراته النسائية التي كانت حـديث المشفى كله. لذلك فقد حمل إلي جـواب بوب ريز كثيرا من العزاء. فأنا على كل حال لست الوحيد الذي أضحي في سبيل العلم، بل إن هناك أيضًا سواي ممن هم أكثـر مني قـدرة وإمكانات، لا يكترث بما يبدو ظاهريًا وكأنه خسارة فادحة.

تذكرت هاتين المقولتين وأنا أتحدث مع صـديقي القادم من أمريكا. وعندما سألته عن هذين الطبيبين وما حل بهما، قـال: إن بوب ريز غدا أستاذًا محاضرًا مرموقًا في الجامعة، ولـه العديد من الأبحاث المهمة، وهو في الوقت نفسه غير متفرغ للجامعة إذ لديه عيادة خاصـة ذات شهرة كبيرة، يقصدها الناس من أماكن قاصية. وترأس لسنوات فـرع أكاديمية طب الأطفال في ولاية ميتشجان وقـد أوتي سعة من المال، بل ثروة طائلـة. وهو يقيم الآن في منطقـة جروس بـوينت القريبـة مـن ديترويت، في بيت كـالقصر يشرف على البحيرة وتحيط بـه حـديقـة واسعة غناء. (ومنطقـة جروس بوينت كـما هـو معروف هي إحـدى أغلى المناطق في أمريكـا، ويقيـم فيها أباطرة صناعة السيارات ومن لفّ لفهم من كبار الأثرياء، وتشبه في غلاء أسعارها بيفرلي هيلز في كاليفورنيا).

أما لاري كـراو فورد فلم ينـه اختصاصه، إذ طرد من المشفى الجامعي نظرا لمخـالفته أنظمتـه والعمل الإضافي في غرف الإسعاف. وهو ما يزال حتى الآن يعمل بصـورة دائمة في غرف الإسعاف، منتقلاً من مشفى صغير إلى مشفى أصغر، وآخر مشفى عمل به اسمه ريفرسايـد (أي جـانب النهر) وهو مشفى صغير قليل الأهمية لـه من اسمه أوفـر نصيب. وما يزال لاري كـراو فورد يعاني بين الوقت والآخر من ضائقة مالية، وهو لم يزل عزبًا لم يتزوج، وإن كانت المغامرات النسائية قد أصبحت تكلفه أكثر من السابق بعد أن كبرت سنـه وشاب شعـره.

ولئن كان دخل طبيب الإسعاف يعادل عدة مرات دخل الطبيب المتمرن، فهو لا يكـاد يوازن بـدخل الطبيب الممارس فضلاً عن طبيـب ناجح ذي شهرة واسعة مثل بوب ريز.

سمعت ذلك وقلت لصـديقي القادم من أمريكا: سبحان الله، الذي جـازى الطبيب القنوع خير جزاء .

 

غسان حتاحت

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات