النبات: كائن اجتماعي نظرات في البيئة النباتية سيف الدين الأتاسي

النبات: كائن اجتماعي نظرات في البيئة النباتية

إن وجود الكائنات الحية ومن بينها النباتات في الطبيعة واستمرار حياتها، غالبا ما يرتبطان بالتنافس الموجود بينها وبين غيرها من الكائنات أو الجماعات، أكثر مما يرتبطان بالتأثير المباشر للعوامل المناخية والأرضية. وفهم ذلك شديد الأهمية، لخير النبات، ولخير الإنسان أيضا.

في علم النبات هناك اتجاه يختص بـدراسـة العلاقات المتبادلة بين النباتات والمحيط الذي تنمو فيـه، هذا الاتجاه يعرف بعلم البيئة النباتية ( Plant Ecology ) وتقسم البيئـة النبـاتية إلى قسمين رئيسيين يتميـزان عن بعضهما بـالموضـوع والهدف وطرق البحث. يهتم القسم الأول بـالبيئـة النباتية الذاتية ( Plant Autecology ) والتي تدرس النبات كفرد يؤثر ويتأثر بالوسط المحيط الذي يعيش فيه. أما القسم الثـاني، فموضـوعه البيئـة النباتيـة المجتمعية (Plant Synecology) وتدرس تركيب ونشأة وتطور المجتمعات النباتية، التي تشكل الغطاء النباتي على سطـح الأرض، مثل الغابات والسهوب والصحاري كمجموعة تؤثر وتتأثر بالمحيـط الذي تعيش فيه، كـما يهتم هذا العلم بدراسة المجتمعات النباتية الزراعية التي يشكلها الإنسان، وهو علم مشابه لعلم الاجتماع الإنساني.

دراسة المجتمعات النباتية

إن ثبات النباتـات في التربة وسهولة عدها ومراقبة رد فعلها تجاه العوامل البيئية المختلفة، بواسطة النمو أو التغيرات البنيويـة التي تصيبهـا، كل ذلك يجعل النباتات قـابلة للدراسات الاجتماعيـة. والحقيقة أن علم بيئة المجتمعات رسخ مبادئه عن طريق دراسة (المجتمعات النباتية).

فـالمجتمعات النباتيـة، وهي الوحدات الطبيعية للنبت، يمكن أن تصنف وتـوقع على الخرائط، وأن يوصف تركيبها بتفاصيل دقيقة، لإبراز الدور الذي يلعبـه كل نوع نبـاتي في المجتمع الذي يعيش فيه- فالخرائط النباتية تعتبر الأساس العلمي الذي يستدل به على نوعـية الغطاء النباتي الطبيعي وتحدد بواسطته الطرق العلمية الصحيحة للمحافظـة عليه واستغلاله استغلالا حسنا باستزراع النباتـات التي تثبت أهميتها الاقتصادية.

فمعنى: العالم الحي يهرب منا، يكون صحيحا ما لم ندخل في دراسة العلاقات الحركية لتلك المجتمعات.

ولا يمكن أن يكـون هناك فهم أساسي لأي مجتمع نباتي، حتى نعلم بـدرجة كافية كيفية تشكل ذلك المجتمع، وأن نتـوقع صيرورتـه والشكـل الـذي سيصبح عليه في المستقبل.

فالمجتمع النباتي لا يظل على حالة اتزان، بل هو في تغير دائم، تتطور وترتقي نباتاته مارة بعدة مراحل متتابعة متمايزة. هذه التغيرات التي تحدث في المجتمع نتيجة لمجموعة العوامل البيئية والحياتية. والتي تؤدي إلى استبدال مجتمع بآخر، يطلق عليها اسم التعاقب النباتي ( .. Succession ).

التعاقب وتحوير الوسط

إن الخاصة الأساسية في ظاهرة التعاقب هي النمو التدريجي للنبت الطبيعي، نتيجة توالي عدة مجتمعات نباتية ذات متطلبات بيئية وتركيب نباتي مختلفين على نفس الموقع.

فالتعاقـب يبتدئ على مساحات عارية، ثم يتدرج من مرحلة إلى أخرى، حتى ينتهي بمرحلة نهائية من النبت الطبيعي الممكن في الظروف البيئية للمنطقة.

ومع تقدم مراحل التعاقب نجد أن المجتمع النباتي يميل دوما إلى الثبات النسبي، وتحوير الـوسط لجعله أكثر ملاءمة لاستيعاب أكـبر عدد من الأنول النباتية إلى أن يصل التعاقب النباتي إلى الذروة ( Climax )، عندها تسود الأنول النباتيـة الذرويـة والتي هي من الناحية النظرية من أفضل النباتات تكيفا مع العوامل البيئيـة المحيطة كـالمناخ والتربة المتكونة، وأقدرها تحملا على منافسة النباتات الأخرى المحيطة بها.

بدأت الإشارات إلى وجـود تأثيرات متبادلـة بـين النباتات والوسط المحيط في كتابات النباتيين الأوائل مثل ثيوفراستس (..Theophrastus ) الذي عاش في اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد، كان أول من عني بـالتصنيف فقسم النبـاتات إلى أشجـار وشجيرات وأعشاب، ووضع كتابا مؤلفا من (تسعة) أجزاء سماه (التاريخ الطبيعي للنبـات) وقد وصف فيـه 500 نوع من النباتات معظمها نباتات طبيـة. كـما ظهر شيء من مفهوم التعاقب النباتي في القرآن الكـريم بقوله تعالى: " لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كـلوا من رزق ربكم واشكـروا له بلدة طيبـة ورب غفـور فأعرضـوا فأرسلنـا عليهم سيل العـرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ".

أي أن هناك تحولا من الجهاز البيئي الزراعي إلى مجتمع نباتي اضطرابي من الأثل (Tamarix Ophylla) والسدر ( Zizyphusspp ).

كـما ظهر هذا المفهوم أيضـا في بعض الموسوعات العربية الخاصـة بالنبت والبيئـة، فترجموا مؤلفات الإغريق في النباتات، وأضافوا إليها مـن ملاحظاتهم ودراسـاتهم الشيء الكثير. ومن أكبر علماء النبات العرب جابر ابن حيان (700- 765) م كذلك ابن البيطار (1197-1248) م الذي سافر للبحث عن النباتات في تونس ومصر والحجـاز واليونان ووصف حوالي 400 نوع مـن النباتات التي شاهدها، كذلك الرحـالة ابن بطوطة (1304- 1369) م. لكن مع ذلك بقي النباتيون زمنا طويلا حتى اكتشفوا أن النبت في مكان معين ليس مجموعة عشوائية من أنول نباتية متنوعة لا ترابط بينهـا، إنـما هـو مجموعـة محددة من نباتـات ترتبط فيما بينها بقـوانين تتحكم بحياتها الجماعية.

وعندما جاء القرن السابع عشر ظهرت مـن جديد ملاحظات حـول هـذا الموضوع، ولكن هـذه الملاحظات والـدراسات ما كانت لتجـذب إلا انتباه قلـة من النباتين وذلك حـتى عام 1807 حينما قـام العالم الجغرافي الألماني ( Alexander Van Humbldt ) حاول استنتاج مبدأ تصنيفي يعتمـد على (الهيئة أو الملامح العامة) للنبت في منطقة معينة، مثال غابة، مرج، والغابة بدورها تصنف إلى غابة سنديان، شوح ، صنوبر... إلخ.

التوازن مع البيئة

وفي نهاية القرن التاسع عشر حاول ديكـاندول ( Decandilie ) دراسة توزع الأنواع النباتية وعلاقة ذلك بالبيئة المحيطة.

وفي بداية القرن العشرين بدأ الانتباه يتركز على مثل هذه الـدراسات. فبعد الأبحـاث العديدة التي قام بها العـالم الأمـريكي كليماتس (1905 Clements ) والذي تنتسب إليه المدرسة التقليدية في البيئة، اعتبر أن التعاقب النباتي في منطقة جغرافية معينـة يؤدى إلى أوج وحيد للنبت ( Monoclimas )، وهذا المفهوم ساعد البيئويين على فهم التعاقب النبتي وعلى تصـور معنى ( توازن النبت مع البيئة) وبالتالي معنى (استقرار النبت ) وقد أدخل كليمانتس مفهوم (الديناميكية) في دراسة النبت الطبيعي، لذلك فإن تأثيره في علم البيئة النباتية كـان كبيرا، لاسيما في استغـلال النبـت الطبيعي والمحافظة عليه، وتوج أبحاثه تلك بنشر كتاب كامل حول هذا الموضوع عام 1916 م.

وخلال تلك الفترة قام العـالم بروان بلانكيت ( Broun - Blanquet ) بإيجاد طريقـة منطقية في دراسـة النبت تعتمد على التحليل الأفلـوري ( Ploristic analysis ) لـوصف وتصنيف التجمعات النباتية بـواسطة وحدات بيئيـة، فقد تمكن من تمييز ووصف التجمعات النباتية بواسطة وحداتها الطبيعية ، وهي الأنواع النباتية التي تميزها منطلقا من مبدأ أن التركيب النبـاتي للمجتمعـات النبـاتيـة يعكس الخصائص البيئية للمواقع المدروسة، فاهتم بالنواحي الوصفية للأنواع النباتية. لكن الباحثين الأوربيين في البيئة قد استمروا في التركيز على النواحي النوعية والتركيبية للمجتمعات النبـاتية، دون الانتباه إلى التعاقب حتى الخمسينيات من هذا القرن تقريبا.

فهم البنية الوظيفية

وبينما كانت الدراسات التعاقبية للمجتمعات النباتية في الثلث الأول من هذا القرن تتجه نحو الوصف، فإنها بعد ذلك بدأت تتجه لتقـديـر معـدلات التغيير والاختـلاف في معـدلات حركة العناصر الغـذائيـة، وانتقال الطاقة بالعلاقة مع التعاقب، ويعود الفضل في ذلك إلى العـالم الفـرنسي لـويس إمبـيرجيـه (Louis 1969 - 1897 Emberger) من كلية العلوم بجامعة مونبولييـه بفرنسا وتلاميذه الذين استفادوا من تعاليم من سبقوهم وطـوروها بتأسيس اتجاه جـديد يهدف إلى تركيز الاهتمام على العلاقة الوثيقة بين النبت والمتغـيرات البيئيـة على أسس كميـة، حيث يلعـب التحليل الإحصائي والحاسوب دورا مهما. لقد تطورت مدرسة إمبيرجيه، وأوجدت ركائزها في شمال إفـريقيا، كـما أصبح له تلاميذ قاموا بتطبيق مفاهيمه في دراسة النبت واستغلال الموارد الطبيعية، وتطويـر هذه المفاهيم حسب الظروف البيئية التي يعملون فيهـا لاسيما في شرق المتوسط (سوريا، لبنان، تركيا).

فدراسة المجتمعات النباتية تكمن في معرفة المكونات النوعية المتناقصة والمتزايدة والغـازية، والعلاقـات الحركية بينها، لإيضاح أي من المجتمعات النباتية وفي أي طـور تعاقبي تنتج قـدرا أكثر من المواد العضوية، وبالتالي تعطي محصولا أكثر.

إن مجتمعا ذرويا ما في موقع بيئي معين قـد يظهر في موقع بيئي آخر على شكل مجتمع شبيه جـدا، ولكنه مؤقت، دانه ليصعب فهم بيئة النبت ما لم تدرس حالة النضج له، كـما أن إدارة المرعى أو الغابة الـوطنية لا يمكن أن تتم بكفاءة عالية ما لم يتم فهم علاقتها الحركية بشكل جيد.

فـالمجتمعـات النباتية بنية وظيفيـة، وفهم هذه المجتمعات يتطلب معرفة بنيتها وإدراك كل مكـوناتها الأساسية وتأثيراتها المتبادلة، التي تنعكس على المجتمع النباتي ككل، لذلك فـالتعاقب النباتي الذي يعـود للاستقـرار هـو مبدأ مهـم وأساسي في علـم بيئـة المجتمعات النباتية.

 

سيف الدين الأتاسي







النباتات تعيش مع بعضها في مجتمعات تدعى المجتمعات النباتية