الفريد فرج ونبيل فرج

الفريد فرج ونبيل فرج

  • توفيق الحكيم أول من نبهي للمزاوجة بين الفن والفرجة
  • الفن في قـمة المسـئولية الاجتماعية
  • الكشوف الإنسانية للشخصيات هي التي ترشحها للبقاء
  • مسرحياتي تحتوي على عناصر ترشحها للبقاء
  • الدراما المأساوية والفكاهية تستنبط المفارقات في حياة المجتمع والفرد

بدأ الفريد فرج حياته الأدبية في الصحافة في السنوات الأولى من الخمسينيات، ولكنه لم يصبح كاتبا معروفا ورمزا من رموزا الأدب الجديد إلا عندما قدم له المسرح القومي مسرحية "سقوط فرعون " سنة 1957. ومنذ هذا التاريخ وحتى 1973، قدم الفريد فرج للمسرح عددا كبيرا من المسرحيات المستلهمة من التاريخ والتراث من خلال رؤية معاصرة وتقنيات حديثة، لعل أشهرها "حلاق بغداد " 1964، " سليمان الحلبي " 1965، " الزير سالم " 1967، " علي جناح التبريزي وتـابعه قفة " 1969. كما قدم المسرحيـة الاجتماعية والسياسية في " عسكر وحرامية " 1966، "، "النار والزيتون " 1970، " زواج على ورقة طلاق " 1973. وأغلب هذه المسرحيات عرضت في الأقطار العربية، ومنها ما عرض في بعض العواصم الأوربية مثل روما، وارسو، برلين. وإلى جانب هذا الإنتاج الذي يعد من كلاسيكيات المسرح المصري، كتب الفريد فرج القصة القصيرة، وصدرت له في 1968 مجموعة قصص قصيرة. وفي الرواية صدرت له "حكايات الزمن الضائع في قرية مصرية " 1977، و" أيام وليالي السندباد " 1988.

ولألفريد فرج أيضا عدة كتب في الدراسات الأدبية والمسرحية، نشرت كمقالات في الصحف والمجلات تعبر عن مجمل أفكاره وتصوراته، للمشكلات الكبرى في الحياة والفن، تكشف صفحاتها كما تكشف تجلياته الإبداعية، عن سعة اطلاعه في الثقافة الإنسانية القديمة والحديثة، وعن ارتفاع حاسته النقدية وعمق تجربته.

وكان الفريد فرج قد خرج من مصر في 1973، حين فصل من الاتحاد الاشتراكي مع عشرات الكتاب والصحفيين الذين وقعوا بأسمائهم على بيان توفيق الحكيم الشهير لدفع الدولة إلى خوض الحرب ضد إسرائيل. ثم لم يكن سهلا على الفريد فرج حتى عند إلغاء قرار الفصل بعد شهور من صدوره أن يعود إلى بلاده، فالحركة الثقافية التي ساهم الفريد فرج في رسم اتجاهها ركدت وتقوضت أبنيتها في السياسات التالية للدولة ، ورحل معظم كتاب جيله أو غاضت مواهبهم، يجد الفريد فرج نفسه الآن، وهو يتقدم نحو الخامسة والستين، غريبا في وطنه، مثلما هو غريب خارج وطنه بلا دور، وبلا صحبة أحد، وبلا رجاء.

ومع هذا فقد ظل الفريد فرج طوال غربته محتفظا بصوته الأصيل، ولم يتوقف عن الكتابة أو التفكير يوما واحدا.

تأثيرات الغربة

  • لا يستطيع المتحدث معك إذا أراد أن يقدم لك صورة دقيقة للجيل الجديد من القراء الذي لم يعاصر ازدهارك الفني، أن يتجاهل غربتك الطويلة التي امتدت من 1973 إلى 1988، ثم إلى ما بعدها، فما هي تأثيراتها على أدبك؟ وماذا تركت في نفسك؟

- أتاحت لي الغربة أن أرى الظاهرة من خـارجها، وهي فرصة نادرة، والعجيب أنني لم أجد في نفسي أبدا ميلا للتأقلم في أوربا برغم إجادتي للغتين الإنجليزية والفرنسية، وبرغم معرفتي الواسعـة بآداب وفنون الغرب.

الفائدة الثانيـة التي أفادتني بها هـذه الغربة هي أني أصبحت أنظر للدنيا في بلادنا نظرة مقارنة، وهي نظرة ذات نفع إذا استطعت أن أعبر عنها للقراء، حيث إننـا لا نزال نستخدم إلى اليوم الصفات استخداما غير دقيق لأنه استخدام غير مقارن، واستخدام بغير قياس.

فإنك حينما تصف الشيء بالطول أو بالقصر، بالقبح أو بالجمال، بالأهمية أو بعدم الأهمية، إنما تنسب إليه هذه الصفات بالمقارنة إلى شيء آخر، أو إلى نموذج آخر ، أو إلى مقياس نموذج يتعـارف عليـه النـاس، فكل الصفات قياسات مقارنة.

ونحن نقيس الأدب أحيانا إلى التراث خصوصا في باب الشعر أو الفقه أو البلاغة. ونقيس أيضا الأدب العربي قياسات مقارنة بالأدب الغربي، خصوصا في باب القصة والمسرح، كما نقيس الفيلم السينمائي بأفلام هوليود أو بالأفلام الإيطالية. وهكذا.

العقل الإنساني عقل مقارن، ولذلك فالذي قد سافر في البلاد مثلي، وأقام في بلاد أجنبية مثلي، يسهل عليه إقامة القياسات المقارنة في الفن والأدب ولعل هذا أيضا من فوائد الغربة. ولم أتحدث عن آلامي وتباريح الشعور بالاغتراب أو بالعزلة، فهذا شيء يعرفه الكل.

المسرح وتجاوز الزمان والمكان

  • ما هي في تصورك الأطروحة التي يقدمها مسرحك، وترى أنها يمكن أن تتجاوز وتقاوم الزمن، مع ارتباطها بالطبع بالظرف المكاني والتاريخي؟

- من الصعب تحديـد ما يبقى من أدب أي مـؤلف على مدى الزمان، وكثير من المؤلفين تزدهر آدابهم عصـورا وتغيب عصـورا، حسب حـركـة المجتمع واحتيـاجـاتـه. ولكنني أستطيـع أن أقـول لك عن مسرحياتي وعن الروايتين اللتين كتبتهما إن هذه الأعمال الأدبية تحتوي عناصر أرشحها للبقاء.

أولا، دراسـة الشخصيـة وتحليلهـا، وتـوصيف جـوهرها الإنساني الصرف الذي لا يتعلق بالزمان وبالمكان، فمثلا فضول " أبوالفضول " في " حلاق بغداد " وتدخله لإصلاح الدنيا وهو الفقير الأعزل المجـرد من كل سلاح ومن كل قوة، والذي لا يملك إلا رغبته في أن تستقيـم الدنيا. هذا أعتبره كشفا أدبيا وإنسانيا، حيث إن هذه الشخصية تضع الفضول في الإنسان في مستوى الطبيعة الـلاصقـة بالشخصية الإنسانية، وفي مستوى الغريـزة الإنسانية، وأن تدفق هذه الصفة على المسرح يملأ قلوب المتفرجين بالفرح ويبشرهم بالعدل العميم، وهي سر المرح الذي تشيعه المسرحية في جمهور المشاهدين، ويظنه صاحب النظرة السطحية أنه مرح سببه ما في المسرحية من فكاهة.

ويمكنك تحليل عدد معتبر من شخصيات مسرحياتي ومن شخصيات الروايتين اللتين كتبتهما بالمنهج نفسه، وستجـد أن في هذه الأعمال، وفي هـذه الشخصيات كشفا إنسانيا يرشح هـذه الأعمال للبقاء مراحل زمنية مقبلة.

الناحية الأخرى التي تتميز بها هـذه الأعمال وترشحها للبقاء، هي الأطروحة الفلسفية المجردة، مثل المقابلة بين العـدل الطبيعي والعـدل الاجتماعي والعدل الرياضي في " سليمان الحلبي " و " الزير سالم "، وطبيعة العلاقة الساحرة والسحرية بين الوهم والحقيقة ، بين الحقيقة الفلسفيـة والحقيقة الواقعيـة، بين إصلاح الـواقع من مساحـة الوهم، وعجز العقل عن تجاوز الحواس والظواهـر الحسيـة، وذلك في " علي جنـاح التبريزي وتابعه قفة ".

أرجـوك استخدم المنهج نفسـه في اجتياب هـذه الأعمال المسرحية والروائية للكشف عن جواهرهـا الفكرية والفلسفية.

المسرح والثقافة العربية

  • ما هي في تقديرك عناصر الثورة الفنية التي أحدثها مسرحك في الثقافة العربية؟

- أول من نبهني إلى أهميـة أسلوبي في المسرح هو توفيق الحكيم. والفنان يكتب بطريقة عفوية، ولا يعمد إلى تحقيق مواصفات مسرحية أدبية معينة، ولكن توفيق الحكيم هـو أول من نبهني إلى أنني زاوجت بين الفكـر والفـرجـة، بين عناصر المسرح الرفيع، وعناصر المسرح الشعبي. وبذلك أكون قد وضعت اللمسة الأخـيرة في ثورة بـدأها توفيق الحكيم نفسه، وبـدأها من جانب آخر أحمد شـوقي في مسرحياتـه، وهذه اللمسـة جعلت من الممكن أن يستمتع بـ " حلاق بغداد " و " الزيـر سالم " و " التبريزي " وغيرها جمهور واسع من المشاهدين، وأن تضرب " عسكر وحرامية " و " جواز على ورقة طلاق " أرقاما قياسية في دخل الشباك مع ما فيها جميعا من قيمة فكرية عميقة ورصينة.

هذه هي عناصر الثورة الفنية التي ساهمت في تحقيقها على المسرح.

المدينة الفاضلة

  • لكل كـاتب وفنـان، كما أن لكل فيلسوف مدينة فاضلة تنهض على قيم معينة، فما جوهر هذه المدينة الفاضلة التي يعبر عنها أدبك؟

- المدينة الفاضلة في نظري هي السعادة. وعنـدي إيمان بأن الإنسان لا ينشـد المال أو النجاح أو الشهرة أو الراحة، بل ينشد السعادة أولا. والسعادة تتحقق بتوازن الشخصية الفردية وتوازن الشخصية الاجتماعية في أي مجتمع. توازن الشخصيـة الفردية يتحقق بتوازن الآمال مع القدرة على الإنجاز، مثل التلميذ الذي يتمنى النجاح والتفوق، ويستطيع أن يحقق ذلك بالجهد المعقول. وهكذا في جميع الآمال والأماني والأحلام التي ينشدها الناس.

التوازن الاجتماعي يتحقق بفاعليـة القوانين العادلة، وتقارب القدرات والمساواة والحرية وتكافـؤ الفرص، وكل هذه العناصر التي تؤسس المناخ المتحضر والمتمدن والراقي لأية أمة.

ولكن التوازن الفردي والتوازن الاجتماعي ليس هما حال البشر في كل زمان ومكان، ومن ثم فإن الدراما الإنسانية سواء كانت دراما مأساوية أو دراما فكاهية، تستنبط المفارقات في حياة المجتمع أو في حياة الفرد. إلا أن هذه الدرامات كلها إنما تصور الحياة خـارج المعادلة المتوازنة لتؤكد بها ضرورة توازن هذه المعادلة، وتوضح عناصر التوازن الضرورية للمعادلة في المدينة الفاضلة.

الأدب والحياة

  • ورد في بعض كتاباتك رأي يستحق أن نقف عنده بالعرض والمناقشة، وهو أن الأدب أصبح هو المؤثر في الحياة، لا المتأثر بالحياة، وهذا يعني أنك تريد للأدب والفن أن يكونا مادة للحياة نفسها وللإنسان، تتفوق على ما نعيشه، لا أن تكون الحياة والإنسان مادة للأدب والفن.

- لا أقصد هنا بالأدب مجرد القصيدة أو القصة المطبوعة، بل أقصد الأدب في وسائله الذائعة والواسعة الانتشار ابتداء من الكتاب إلى فيلم السينما والعرض المسرحي الـذي يظل سنـوات طويلة فـوق المسرح، والمسلسل التليفزيوني الطويل، والفيديـو كـاسيت المتـداول على نطـاق واسع، والأغنيـة المسجلـة أو المصورة، وما إلى ذلك.

حتى منتصف القـرن العشرين أو نحو ذلـك كـان الأدب هو متعة الندرة والصفوة والقلة، حتى الراديو لم يكن منتشرا في زمانه انتشار التليفزيون اليوم، ولا كان عدد المسارح في المدن الكـبرى كما هو اليوم.

لم يكن الإنسان يستمد من الفنون إلا قدرا ضئيلا من تربيته الفكرية والوجدانيـة والسلوكيـة، ومعظم هذا التأثر كان يتم بطريـق غـير مباشر، أي أنه كان يتم بتأثـير الصفوة وتقليد العامة للصفوة.

وفي ذلك الزمان كـان يقال في كتب النقد الأدبي والنقد الفني إن رسـالة الفن هي محاكاة المجتمع أو محاكاة الناس، أو تصوير الناس.

الآن انعكس هذا الـوضع، وصار الفن أكبر مؤثر في التربية الإنسانيـة والاجتماعية، وفي تـرتيب سلم القيم عنـد الإنسان البسيط أكثـر مما تفعل المدرسـة أو الأسرة أو البيئـة الاجتماعية المباشرة.

صار الفن هو المصـدر الأسـاسي للمعلومات، للسلوكيات العقلية والوجـدانية والاجتماعية، لفهم الحياة، أصبح الفن هو المعلم الأول لـلإنسان يتعلم منه أسلوب الاختيـار، من اختيار الزوجة إلى اختيار المهنة إلى الاختيـار بين السفر والإقـامـة، إلى آخر هـذه الاختيارات التي يواجهها الإنسان في كل لحظة والتي يتعلم منهجهـا لا في المدرسـة ولا في الأسرة ولا في البيئة الاجتماعيـة المباشرة بقدر ما يتعلمها في الفيلم والمسرح وفي التليفزيون وفي الفيديو كاسيت وفي الأغنية.

أصبح للفن قـدرة طاغية على إعادة صياغة الناس سلبا وإيجابا. أصبح الناس في نظري يحاكـون الفن، وهذا يضع الفن في قمة المسئولية الاجتماعية، ويجعل له خطرا كبـيرا، لابد أن يدفعنا في الحاضر والمستقبل إلى الاهتمام الكبير جدا بتكـوين الفنان، لا بتكـوينه المهني فقط كـما يحدث في بـلادنـا، بل بتكـوينـه الفلسفي والاجتماعي والثقافي على أعلى مستوى.

هذه من أهم المشاريع الاجتماعية للحاضر والمستقبل القريب والمباشر، وإلا فإننا سنتعرض كمجتمع إلى أمراض كثيرة.

 










الفريد فرج





نبيل فرج