الأصالة والمعاصرة في حديث عيسى بن هشام جلال أمين

الأصالة والمعاصرة في حديث عيسى بن هشام

لعلي كنت في العشرين أو نحوها عندما شرعت في قراءة كتاب محمد المويلحي " حديث عيسى بن هشام " لأول مرة. كنت قـد صادفت إشارات متعددة إليه تعتبره واحدا من أهم الكتب الصادرة باللغة العربية في مطلع هذا القرن، وأنه كتاب رائد من أكثر من ناحية، في التعليق على الحياة الاجتماعية في مصر ونقدها، وفي استخدام الشكل الروائي الذي كان حتى هذا الوقت غريبا على اللغة العربية.

على أني عنـدما شرعت في قـراءتـه لأول مـرة كنت، فيما يظهر لي الآن، أصغر سنا وعقلا من أن أعرف قدر الكتاب أو أن أستمتع بـه، فلم أقرأ منه ، فيما أذكـر، إلا صفحات قليلـة ثم وضعتـه جـانبـا وأهملته. وقد نسيت الكتاب نسيانا تاما لبضع عشرات من السنين، حتى تـذكرته فجأة منـذ أسـابيع قليلـة لسبب عارض، فـاستعرت الكتـاب وقرأته، فإذا به يهزني هزا عنيفا، وأكاد أطير فرحـا، إذ اكتشفت وأنا أقرأه عدة أشياء كانت غائبة عني، وأدركت كم هو رائد بالفعـل بل وخطر لي أن هذا الكتاب قـد يحتوي على الحل الصحيح لمشكلـة الأصالة والمعاصرة التي مازالت تؤرقنا حتى اليوم.

رحلة وسط القبور

فلأذكـر للقارئ أولا مـوضوع الكتاب باختصـار شديد حتى يمكنه أن يتصور ما أعنيه. الكتاب يقع في نحو ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، ويحكي قصة شخصية خيالية هي " عيسى بن هشام " وقد رأى في المنام نفسـه وهو يمشي بين القبور في إحدى الليالي، يتأمل في حـال الدنيا والنـاس، ويحاول أن يستخلص بعض العبر من السير بين الموتى، وبينما هـو مستغرق في خواطره " أتأمل في عجائب الحدثان، وأعجب من تقلمت الأزمان " إذا بأحـد القبـور ينشق ويخرج منـه رجل بعث من الموت، وتبين من حـواره معه أنه كان في حياته " باشا " ثريـا، وأنه كان يعيش أيام محـمد علي بـاشـا الكبير. وتنشأ صداقـة بين البـاشـا وعيسى بن هشـام، يترتب عليها أن يجوبـا معـا شـوارع القاهرة وأحيـاءها، إذ يحاول عيسى بـن هشـام أن يعـرف صـديقه الباشا على ما طرأ على مصر من تطور منـذ وفاته ويجرهما تطور الأحـداث من مكـان إلى مكان، ومن طائفـة من النـاس إلى أخرى، وفي كل مكـان، ومع كل طائفة من النـاس، يرسم المؤلف صورة رائعة ودقيقة للحياة الاجتماعيـة في مصر في ذلك الوقت كـما تظهر في هذا المكان أو ذاك، لهذه الطائفة الاجتماعية أو تلك فإذا بنا نتعرف على رجال الشرطة وكيف كـانوا يعاملون الناس والنيابة والمحـامين والمحكـمة، وعلى نظـام الوقف وفساده وقتها، وعلى الأطباء وقلة ما يعرفون بالمقارنة بما يجهلون، والتجار وعـوائدهم، ويصف لنا حفلـة عرس أقـامها أحـد الأثريـاء في بيته بدقة منقطعـة النظير، وكأنه يرسم لوحـة فنية رائعة، والملاهي الليلة ومـا يدور فيها، والمثقفين وحواراتهم .. إلخ. وفي كل هذا يورد المؤلف انتقادات وتعليقات غايـة في الحكمة، وينهي هذه الملاحظـات كلها بالتساؤل عن سبب كـل هذه النقائص التي تعيب المجتمع المصري، وإذا به، في إجابتـه عن هذا السؤال ، يـدلي برأيه في مشكلة " الأصالة والمعاصرة " كـما نسميها اليوم، ويقول إن السبب الحقيقي " في انتشار هذا الفساد والخلل " هو: "دخول المدنية الغربية بغتة في البلاد الشرقية، وتقليد الشرقيين للغربيين في جميع أحوال معايشهم، كالعميان لا يستنيرون ببحث، ولا يأخـذون بقياس ولا يتبصرون بحسن نظـر، ولا يلتفتون إلى ما هنالك من تنـافر الطباع وتباين الأذواق ، واختلاف الأقـاليم والعادات، ولم ينتقـوا منها الصحيح من الزائف، والحسن من القبيح.. واكتفوا بهذا الطلاء الزائل من المدنية الغربية، واستسلموا لحكم الأجانب يرونه أمرا مقضيا، وقضـاء مرضيا، وخربنا بيوتنا بأيدينا وصرنا في الشرق كأننا من أهل الغرب وإن بيننا وبينهم في المعـاش لبعـد المشرق عن المغرب،. (طبعـة الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة، 1964، ص 284).

ثم قرر الصديقان، استكمالا للبحث، وإمعانا في الرغبة في الوصول إلى الحقيقة أن يذهبا إلى أوربا لمعرفة أصل الداء، فسافرا إلى باريس، وهناك يورد المويلحي ملاحظاته عن الحسـن والقبيح في الحضارة الغربية، وينهي الكتاب بخلاصة رأيه في الموقف الصحيح من المدنية الغربية، فيقول على لسان " حكيم " فـرنسي ينصح عيسى بن هشام وصديقه: " لهذه المدنية الكثير من المحـاسن، كـما أن لها الكثير من المسـاوئ، فـلا تغمطوها حقها، ولا تبخسوها قدرها، وخذوا منها معشر الشرقيين ما ينفعكم، ويلتئم بكم، واتركوا ما يضركم، وينافي طباعكـم، اعملوا على الاستفادة من جليل صناعاتها، وعظيم آلاتها، واتخذوا منهـا قـوة تصـد عنكم أذى الطـامعين، وشره المستعمـرين، وانقلوا محاسن الغرب إلى الشرق، وتمسكـوا بفضائل أخلاقكم وجميل عاداتكم، فأنتم في غنى عن التخلق بأخـلاق غيركم، وتمتعـوا في رخـاء بلادكم وسعـة أرزاقكم، واحمدوا الله على ما آتاكم ". (ص 351).

قد يسأل القارئ: وما الجديد في هذا؟ أليس هذا هو القول المألوف المعاد الذي لا يزيد على النصح بأن "تأخذ ما يفيد وتترك ما يضر " ؟. إنـه كلام صحيح ولكنـه بـديهي، وقـول البـديهي قليل الفـائدة، بل المطلـوب أن يدلنـا الكـاتب عما نأخـذه بالضبط وما نتركه، وما إذا كان هذا الاختيار ممكنا أصلا أو غير ممكن، وعن الأسباب المعطلـة لهذا الأخذ وهـذا الترك.. وهكـذا. والحقيقة هي أن إعجـابي بالكتـاب وحماستي له يرجعان إلى أنه أكثر بكثير من هذا الترديد للبديهيات، وأنه من أكثر من ناحيـة وفي أكثر من موضع تجاوز حتى مـا وصلت إليه مناقشاتنا الراهنة لقضية الأصالة والمعاصرة، وأبدى عمقا وحكمة أكبر مما نبديه، كـما أن الكتاب يلفت نظرنا بطريق غـير مباشر، إلى بعض الأمور المتعلقة بـالأصالة والمعاصرة التي لا يلتفت إليها الكثيرون في وقتنا الحاضر. وهذا هو ما سأحاول الآن توضيحه.

كارثة الوباء

في أحـد فصـول الكتاب يصف المؤلف وبـاء حل بمصر، وراحت ضحيته آلاف مؤلفة فأصبـح الناس بين ثاكل ومثكول، وحامل ومحمول، هذا يبكي أباه وذاك يندب أخـاه، وهذه تـولول على أهلهـا، وتلك تنوح على بعلها. وبعد أن وصفه وصفا بديعا صنف مواقف الناس منه إلى ثلاثة مواقف، تصلح أيضا أن تعتبر مواقف الناس من الحضارة الغربية. فهناك أولا "طبقة العامة " الذين يسلمون في مثل هذه الكوارث بأحكام القضاء، وتفويـض الأمر فيها لأقدار السماء، ويعتقدون أن الطب في هذه الأمور لا يمنع المكتوب، وأنـه لا سبيل للوقاية من الوبـاء، ولا يتخذون لـه أسبـاب الحيطـة أو وسـائل العلاج. وطبقـة أخـرى حـديثـة النشأة والتربية، لم يـرسخ الإيـمان في قلوب أفرادها، بل اقتصر حظهم على ما حصلوه في المدارس من العلوم الطبيعية، "وخلت صدورهم من آيات الله والحكمـة"، وأخـذوا عن الغـرب عادة التهـاون بالشرائع، وهـؤلاء في نظر المويلحي يظهـرون في الكوارث " أصغر خلق الله نفوسا، وأجبنهم قلوبا، وأكثرهم هوسا ووسواسا وأشدهم قلقا واضطرابا،. ولكن هناك طبقة ثالثـة هي " طبقة الخاصة، وهم من أهل الدين واليقين، ولكنهم لا يرون مانعا من الأخذ بأسباب التقية والحذر، ولا من العمـل بمقتضى قـوانين صحة الأبدان، وما يقرره الأطبـاء من سبل التـوقي، ولا يجدون في ذلك شيئا يخالف السنـة أو يناقض الشرع. وهـذه الفئة هـي التي تحظى بتأييد المويلحي وثنـائه: فئـة تأخـذ عن الغـرب دون أن تضحي بدينها.

ولكن المويلحي يـرى أن المصريين بدلا من أن يأخذوا العلم من الغـرب ويحافظوا في نفس الوقت على دينهم وأخـلاقهم، فعلوا العكس بـالضبط، فلم يقلـدوا الغرب " إلا فيما خف وهان من الـزخـرف المموه والبهرج الكاذب والملاذ الشهوانية ممـا لاينتج عنه إلا سقم الأجسـام ونفاد الأموال، وما عدا ذلك من أمور المدنيـة النافعـة فمجهول عنـدهم بل مرذول لديهم " فأصبح مثل المصري في أخذه بالمدنية الغربية " كمثل المنخل يحفـظ الغث التافـه ويفـرط في الثمين النافع " (ص 190).

ويخطو المويلحي خطوة أخرى فيرد هذا المرض- مرض تقليد الغربيين تقليدا أعمى- إلى فقد المصري لثقته بنفسه تجاه الأجنبي، فالمرض نفسي قبل أن يكون أي شيء آخـر، إذ " عظـم مقـدار أهل الغـرب في أنظارهم، وتوهموا أنهم من طبقـة عاليـة فوقهم، فخضعوا وذلوا، وقهر الغربيون وغلبوا (ص 285) ، دون أن يكـون هناك أي مبرر لهذا الشعور بالـذل والهوان وإنما هو ما وصفه الشاعر بقوله:

إذا أقبل الإنسان في الدهر صدقت

أحاديثه عن نفسه وهو كاذب (ص 294)

ومـوقف المويلحي هنا يـذكـرك بشـدة بموقف شكيب أرسلان في كتابه " لماذا تـأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ ".

هذا التقليد الأعمى للغربيين شديد الضرر من أكثر من نـاحيـة. فكثير ممـا يصلح للغـربيين لا يصلح بالضرورة لنا، وقد تكـون عادة معينة أو مسلك بعينه معقولا ومفهوما في الغرب وغير معقول البتـة إذا طبقناه في بلادنا. ولكن هناك، فضلا عن ذلك، من مسالك الغربيين وعاداتهم ما هو مكـروه بذاتـه وقد يكون ضارا حتى بالغربيين أنفسهم. فهناك في الحياة الغربية الكثـير ممـا يرفضه المويلحي ويستهجنـه لذاته. فهـو مثـلا يدهشك بنقده، في ذلك الـوقت المبكر ( 1900) لـرذائل الرأسماليـة وللتفـاوت الكبير في الدخول. فهو يصف في رحلته الثانيـة (وهي رحلته إلى أوربـا) ما يلقاه عمال المناجم في أوربا من عنـاء، وقلة نصيبهم مما ينتجون مـن ثراء، ويقتطف هنا قول الشاعر:

والعيس أقتل ما يكون لها الصدى

والماء فوق ظهورها محمول (ص 339)

وهو على كـل حال يشك في أن الغربي قـد نجح في نهاية الأمر في الوصول إلى ما يبتغيه من سعادة، فيقول تعليقا على نتيجة المدنية الغربية: " تبا للإنسان فـما أعق عملـه وأقبح صنعه! يهوي بـالملايين من العمال إلى أسفل طبقات الأرض فيخرجون بـاطنها ليستخرجوا منه ما يخربون به ظاهرها، تعسا له! ويزعم أنه يعمل لسعادة الحياة وراحـة العيش وهو يقضي عمره في الشقاء والبـلاء حتى يأتي حمامه، فيخرج من الـدنيا باكيا كـما دخلها باكيا، بعد أن قضى فيها لحظة العمر على حـال تفضلها حـالة الحيوانات والحشرات وهـو بزعمه أفضل المخلوقات " (ص 340).

دفاع عن الفن

والمويلحي يدافع دفاعا مجيدا عن بعض الفنون التي شـاع في عصره (وفي عصرنـا أيضـا مع الأسف) التشكيك في اتفاقها مع التدين والـورع، فيقول كلاما جميلا عن الموسيقى والغنـاء، مـداره أن الاستمتاع بالموسيقى أمر غريزي من صميم الطبيعة الإنسانية، بل إن من الحيوانات نفسها ما يستمتع بها فهي " تسمع الغناء فتحن إليـه وتسكن بـه، ويضعف من قسـوتها ويكسر من حدتها وربما ذلت به رقابها وأمكن قيادها.. فـما بالك بتأثيره في الإنسان، وهو أسمى الحيوان رتبة وأكمله خلقة وأعظمه إدراكا وأصفاه جوهرا وألطفه روحا؟ ". بل وينـدر أن تجد دينـا من الأديان إلا ويستعان فيـه على العبادات بلذة السمع المستمدة من اتساق الصوت، لما ينشأ عن ذلـك من صفاء النفوس وانتعـاش الأرواح (ص 168- 9). ويحكي قصـة لطيفة عن أبي حنيفـة، إذ كان له جار بالكـوفة يهوى الغناء، وكان أبو حنيفة يطرب لسماعه، فإذا بهذا الجار يتعرض للاعتقال والحبس، فيتوسط لـه أبوحنيفـة فيطلق سراحه ويقول له أبو حنيفة " فعـد إلى ما كنت تغنيه فإني آنس به، ولم أر به بأسا " (ص 171).

ودفاع عن الرقص

بل ويدافع المويلحي عن الرقص بأنه ليس في أصلة من المنكرات، ولا مما يعاب شأنه " وهو حركة طبيعية في الإنسان يقتضيها تركيـب الجسد لرد الأعصاب إلى ميزانها ونظامهـا عندما تلحقها خفـة الطرب وهزة التأثر، وهو قديم في الفطرة، وربـما تجاوز نوع الإنسان إلى بعض الحيوانات والطيور، وقلما خلت أمـة من أنواعه منـذ البداوة إلى اليـوم " (ص 327). وإنما المعاب والمكروه في رأيه ذلك النوع من الرقص الذي " يباشره العـواهر فيما يباشرنه مـن أبـواب الإثم والفجور " وهذا النوع من الرقص، في رأي المويلحي ، كـان في الأصل مقصـورا على بيـوت الفاحشـة ولم يظهر على الملأ في الملاهي العامة " إلا بفضل أصحاب الحانـات من الأجـانب الـذين يرون وجـوه الربح متسـاوية لا حطـة فيها ولا نقيصة.. وكلما حـاولت الحكـومـة، في محافظتهـا على الآداب حظره ومنعـه اعترضتها امتيازات الأجـانب وحريتهم المطلقـة فيما يأتـون ويـذرون " (ص 327).

لاحظ هنـا أن المويلحي يرد هذا العيب أيضا، من عيوبنا الاجتماعية ، إلى ما فرضه الاحتكاك المرضي بالمدنية الغربية، فإذا بذلك الفن الذي هو عند الغربيين من الفنون النفيسة ، يدرسه الرجال كـما يـدرسون العلم، ويتعلمه النساء كـما يتعلمن الغزل والتطـريز " يتحول عنـدنا، وبتأثير الأجـانب أنفسهم، إلى عمل من أعمال الفاحشة. لاحظ أيضا ذلك النقد الضمني للمـدنية الغربية التي يسعى فيها الناس إلى الربح بأي وجه من الوجوه، لا يبالون في ذلك بنبل أو انحطاط العمل الذي يأتي منه الربح.

ليس لـدى المويلحي. كـما ترى، تعصب يفرض عليه التزام رأي مسبق قبل بحث كـل مشكلـة على حدة. إن رائده هو صالح المجتمـع وتقدمه، لا تحرفه عن هدفه حماسة مفرطة للقـديم، بحسناته ونقائصه، ولا حماسة مفرطة للمدنية الغـربية بحسناتها ونقائصها وإنـما يهتدي بحكم العقل والمصلحة العـامة وحدهما في تقييمه لهذا وتلك .

مهارات لغوية

على أني لا أريـد أن أختم هذا المقـال دون أن أعلق على أمر شد انتباهي وأنـا أطالع الكتاب. الكتاب من أولـه لآخـره يسـوده ميـل إلى السجع ومختلف صور البلاغة العربية التقليـدية، كـما يظهر في العبارات التي اقتطفتها. وكنـت وأنا أقرأ الصفحـات الأولى أستثقل هذا السجع بعض الشيء ولا أستسيغه، وأتحمله رغما عني بسبب جمال الفكـرة ودقة الـوصف. على أني مع استمراري في القراءة بدأت أستجمل هـذا الأسلوب شيئا فشيئا، وأستعذبه وأطرب له. ولاحظت أنه أسلوب طبيعي غير متكلف، بـما في ذلك السجع الذي وجدته يضيف في معظم الأحيان إلى المعنى ولا يكرره ، ويـدخل عنصرا من النغم والموسيقى في الكتـابـة يجعلهـا أقـرب إلى النفس فضـلا عن أن هـذا السجع ينطوي في كثير من الأحيـان علي خفة في الروح وشيء من الدعابة يرتاح إليهما القارئ ويطرب لهما. وإذا بي أقول لنفسي: ها هو ذا مثال آخر لما فعلـه بنا الميل إلى تقليد الغرب تقليدا أعمى. فإذا كان الغرب الحديث لا يستخـدم هذه الأساليب من أسـاليب البـلاغة، ويستهجن السجع ولا يستسيغـه، فإننـا نشعـر أن من واجبنا أن نستهجنه بدورنا، مع أنه قد يكون أقرب إلى مزاجنا وطبعنا، وأشـد تأثيرا فينا، دون أن يجعلنا نضحي بشيء، لا بدقة المعنى ولا جمال اللغـة. وهل هناك أي عيب في أن يدخل عنصر الموسيقى فيما ننتجه ونطالعـه من أدب؟ وأن يحمل نثرنا بعض سمات الشعر؟.

إني أقرأ " حديث عيسى بن هشام "، وأقارنه بما نعطيه لأولادنـا وبناتنـا من كتب في المدارس لقـراءته وحفظـه، وهي لا تحمل ذرة واحـدة ممـا في حـديث عيسى بن هشـام من جمال اللغـة، وصـواب الرأي وسمو الخلق، فضلا عما فيـه من تشويق وخفة روح، فأتحسر على إهمالنا لمثل هذه الكنوز وانصرافنا عنها إلى تلك الأعـمال الخالية من أية قيمة جمالية أو أخلاقية.

 

جلال أمين