يحي حقي: عاشق اللغة القومية عبدالفتاح عثمان

يحي حقي: عاشق اللغة القومية

"إذ كان هناك بين كتاب القصة في الوطن العربي من نستطيع وصفه بعاشق اللغة، فهو شيخهم يحي حقي. إنها حقيقة نثبتها من خلال فقه النصوص ، ودراسة آرائه عن طبيعة اللغة القومية ودورها الحيوي في الأسلوبالقصصي، وقدرتها على كشف أغوار النفس ، وأشواقها المقدسة، وتأثيرها الساحر في جمع أبناء الأمة العربية وضهرهم في بوتقة شعورية واحدة!".

لقد عبر يحيى حقي عن عشقه للغة العربية الفصحى، فرأى أن القصاص والشاعر لا تتم لهما السيطرة على فنهما إلا إذا عضا اللغة، لأنها المادة التي يعبرون بها عن ذواتهم فيقول : "لا عشق للقصة والشعر إلا بعشق أهم هو عشق اللغة، اللغة الأدنى والأعلى مقلق مؤرق معذب لا تخمد له نار، فاللغة هي مادتهم، كاللون للرسام، والحجر للنحات، لابد للجميع أن يكونوا خبراء بمعدن هذه المادة التي يعملون بها، ويشكلون منها تعبيرها عن ذوتهم، ويبدو ذلك واضحا في أنشودة البساطة.

ولا يكتفي بهذا التعبير الرومانسي في تحديد علاقة القاص والشاعر باللغة، وإنما يتجاوزه إلى موقف واع مدرك لأهمية اللغة الفصحى ودورها الحيوي في صياغة الأسلوب القصصي، ومن ثم دافع عنها بقوة وإخلاص لا دفاع العاشق المتحمس فقط، وإنما دفاع العالم الرصين الذي يمتلك رصيدا لغويا ثريا، وإحساسا مرهفا بجماليك اللغة وقدراتها التعبيرية.

يقول حقي : "اللغة العربية - ككل اللغات - كائن حي يتأثر بالظروف ويؤثر فيها.

لقد استطاعت هذه اللغة في عصر النهضة إبان تملك الشجاعة أن تعبر عن استيعاب الألفاظ من لغات أخرى، وأثبتت مقدرتها على المرونة والانطلاق، فلم تتورع عن استيعاب الألفاظ من لغات أخرى، وعلت عن القواعد الجامدة للنحو والصرف بدل أن تذل لها.

وأعانها هذا التأجج الداخلي على تشقيق كل ما تحتاج إليه من ألفاظ سواء من ذخيرتها أو ذخيرة غيرها بلا حياء فارغ، ثم حين دب الانحلال في الأمة العربية وكفت عن الجهاد استسلمت للخور والتهيب والكلل اقترن هذا الانحلال - ولا غرابة - بانحلال لغتنا، وأصبحت اللغة جامدة، ونصا فقد روحه، قوانينها لها قداسة القيود وأصبح كلامها خاليا من الخلق والابتكار والصدق والأصالة". كما هو موجود في كتابه "خطوات في النقد".

رباط مقدس

إن اللغة العربية الفصحى تمثل- عند حقي- جزءا غاليا من تراثنا وفكرنا وروحنا، ورباطا مقدسا يربط بين أبناء الأمة العربية الواحـدة، فهي ليست شيئا تجريديا يعيش خارجنا، وإنـما هي كـائن حي يعيش داخلنا. ومن ثم فإن الأدب الحقيقي الجدير بالبقاء هو الذي يكتب بـالفصحى. يقول في كتـابـه " عطر الأحباب ص 40 " إن الأدب الجدير بالبقاء هو الذي يصاغ بالفصحى، لأنها وحدها التي تمد المؤلف بتراثها الضخم، كنوزها وقواها الظاهرة والخفية هي التي تمده إذا صـدق إحساسه بها، وبـما يكتـب لفنـه بتراكيب من وحيها صادقة كل الصـدق في التعبير لم تكن تخطر له على بال. إنه يستثير من حيث لا يدري حشدا ضخما من العباقرة الغابرين يمونونه بخير ما تفتقت عنه قرائحهم الموهوبة، وكل هذا مفقود في العامية فهي متقلبة وفتات؟.

وكان من حق أنصـار الفصحى ومن واجبهم أيضا إذا شـاءوا- وأنـا معهم- أن يصارحوا الناس بأنهم يؤمنون بأن الفصحى هي الرباط المقـدس بين الأمـم العربية، وأنه من غير الجائز في عهد القوعية العربة أن نفصم هذا الرباط أو نعمل على توهينه ". معنى هذا أن اللغة الفصحى جـزء جـوهري من تكويننا الروحي والشعـوري، وأنها قادرة- بـما تملك من طاقات هائلة- على التعبير عن أفكارنا ومشاعرنا. إنها تعيش داخلنـا وتربطنا بجذورنا، وتجعل الحاضر امتـدادا للماضي. يضـاف إلى ذلك الهدف القومي، فهي التي تجمع بـين أبناء الأمة العربية، فكريا وشعوريا.

اللغة: جبل ثلج

واللغة العربية- عنـد حقي- ليست أداة حسية جـامدة كـاللون للرسـام، والحجر للمثـال، وهي لا تتناسخ تناسخا آليا كالصور، حيث لا يرقى الشبه بـين السابق واللاحق إلى مستوى الخميلة في النمو الذاتي الداخلي، وإنـما هي كـائن حي ينمو في كياننـا الروحـي والشعـوري، حـافلة بنبضنا الإنسـاني وخصائصنا الـذاتية، وبقدر ملكـات الإنسان الـذهنيـة وثرائه الروحي تكون حصيلته من ثروتها.

يقول موضحا هذه المعاني: " وتختلف اللغـة عن اللون والحجر بأنها كائن حي. ليس تنقله من جيل إلى جيل من قبيل تنـاسخ الصور، حيث تنبت الصلة والشبه بين السابق والطـارىء، بل من قبيل التطـور، فـلا تنعـدم في الجديد خصـائص الأصل، والـوجـوه تختلف ولكن كلها باقيـة.

اللغة خيط لا تستطيع أن تضع يدك على نصيبك منه وتقول إنه هو هذا.. بل لابد أن تمسكه من أوله وتسايره حتى تبلغ ما تكشف منـه لك من أجل أن تفهم مـاذا أعطيت منه.. أو كجبل الثلج العائم في الماء لا يظهر منه فـوق السطح إلا أقله. وهو محمول على الغائص منه. لا يتحرك إلا بتحـركـه.. المثل الأعلى في ذهني للكاتب هـو الـذي يشعر أن جميع ألفاظ اللغة تناديه لتظهر للوجود على يديـه.. لا من قبيل الترف، بل لأن اتسـاع رقعتـه الذهنية والروحية هي التي تتطلبها جميعا"  (أنشودة للبساطة ص 38).

فروق دقيقة

وتتميز الفصحى بثرائها الدلالي، والفروق الدقيقة بين ألفاظها. بحيث تعطي الألفاظ مالا تعطيه غيرها في السياق الواحد بما تختزنه من طاقة إيحائية مناسبة. ومن ثم يستطيع الكاتب المبدع أن يتنبه بحسه اللغوي المرهف لهذه الفروق الدقيقة، ويختار أكثرها مناسبة فيـوظفها فنيا داخل سياقها، ومن ثم يكتسب الأسلوب ثراء وعمقا وتكثيفا وتحديدا.

ويعبر حقي عن هذه المعـاني بقوله: " وأقول: إنها لحسن الحظ من أعجب العجب أيضـا.. إنها قـد اهتمت بأن تصوغ ألفاظا لكل الفوارق الدقيقة لا بين الألـوان فحسـب، بل بين أطياف هـذه الألوان، ومهمة الكاتب هي الانتباه لهذه الفروق، وإبرازها في أقل عبارة ممكنة. لا يستخـدم مطرقـة ضخمة لكسر بندقة. فـالإيجاز والتحديد والوضـوح هي وسيلة للوصول إلى الأعماق، للإجـادة والإتقان لما أنشودة للبساطة ص 39.

وقد ضرب مثلا لثراء اللغـة العربية بقدرتها على التعبير عن الألـوان المختلفـة بألفاظ متعـددة، فينقل نصا من " فقـه اللغة" للثعالبي يستشهد به على ما يذهب إليـه، ثم يعقـب عليه قائلا: " إننا في أشد الحاجة إلى كل لفظ من هذه الألفاظ، إنها نعمة ينبغي أن نشكر الله عليها.

إنني كذلك في تلهفي للوصول إلى الحتمية والعمق لا أجـد مفرا من أن نفك هـذه الألفاظ كـما فعلنا بورقة المائة جنيه. ونصف الألوان الوسط بأكثر من لفظ واحد كـما في اللغات الأجنبية إلى أن تنبض الحياة في هذه الألفاظ المسبقة على يد كتابنا الموهوبين" خطوات في النقد (ص 185- 186).

القواعد أيضا مهمة

وقـد صاحب اهتمام يحيى حقي بجماليات اللغة الفصحى وثرائهـا الدلالي اهتمام مماثل بـالصحـة والسلامة من الأخطاء النحوية، فنراه يحذر ناشئة الكتاب من الوقـوع في هذا الجهل والاستهتار، لأن هذه الأخطاء- من وجهة نظره- " ليست وليدة الجهل بالقواعد، بل وليدة استهانة من الكاتب برسالته وشرف كلمته، لا تخلق بمن يريد أن يهبنا فيضا من روحه، وإلا فما أرذل تصديه لنا، وإقحام نفسه علينا، فكل هؤلاء الكتاب الناشئين يعلمون أن كان وأخواتها ترفع المبتـدأ وتنصب الخبر، وأن إن وأخـواتها تفعل العكس، فهل من العسير إذا وردت في كـلامهم أن يعرفوا أين المبتدأ وأين الخـبر. ولو فعلوا فلربما أعادوا صياغة الجملة كلها في أحسن صورة. ومثل ذلك أيضا استخـدامهم الألفاظ لا يتيقنون من معناها بل ترددها أقلامهم كـالببغاء، فمن الأخطاء الشائعة عندهم- بل عند كثير من الكتاب المعتمدين - قولهم: بالرغم من أنهم أذكياء إلا أنهم فقراء، ولا يحسون أن " بالرغم" استدراك لا معنى لأن يلحقه استدراك آخر ، فيقضي المنطق أن يقولوا "بالرغم من أنهم  أذكياء فإنهم فقراء " أنشودة للبساطة (ص 48- 49).

ويحذر من خطأ آخـر يتولد من الجهل بخصائص تركيب الجملة داخل سياقها اللغوي فيقول: " إنني أقف أحيانا كثيرة عنـد ضمير الغائب لأبحث عن مرجعه وأستبعد الأقرب والقريب لأصل قبل أن أفهم إلى الأبعد لا البعيد. والجملة العربية تميل إلى الإيجاز من أجل الوضوح، وكلما طالت زاد تعرضها للإبهام، والكـاتب الناشىء يميل إلى استخـدام الجمل القوية الطـويلة إذا كتب قصته. فإذا رواها لك شفاها لم يستخدم إلا الجمل القصيرة. هكذا أريد لهم " أنشودة للبساطة ص 49.

إن معنى هذا هو الحرص على التركيب اللغوي، ووضع كل كلمة في مكانها الصحيح لأن أي اضطراب في نسق الجمل يؤدي إلى التعقيد الذي يفضي بالضرورة إلى الإبهام، وهو ما فطن إليه النقاد القدماء حين تحدثوا عن التعقيـد اللفظي الذي يؤدي إلى التعقيد المعنوي، غير أن يحيى حقي يربط ظاهرة التعقيد بالنسق العام للقصة، وتأتيرها في المتلقي، وارتباطها بالمبدع من حيث إنها تخفي روحه ولا تبين عن المعنى الذي يريد الإفصاح عنه!.

فلغة القصة- في رأيه- " إذا استخدمت بكفاءة بالغة تكشف عن العالم النفسي للشخصيات، وترصد حركة الصراع الدرامي، وتبين عن المواقف الفكرية المختلفة بحيوية واقتدار " .

ومن المدهش أن حقي قد فطن إلى ظاهرة أسلوبية يحسبها بعض الكتاب مسألة شكلية ليست لها قيمة حيوية في السياق اللغوي، وهي استخدام علامات الترقيم، علما بأن علامات الترقيم تعبر عن الكثير من المعـاني، بل هـي مثل الألفـاظ لها دلالات يفهمهـا القارئ، وتركها قد يؤدي إلى غموض الفكرة، واضطراب الأسلوب، واختلاط المعاني داخل النسق اللغوي الواحد.

إن علامات الترقيم ينبغي أن توظف لخدمة المعنى الذي يريد الأديب التعبير عنه، وهذا ما أدركه ناقدنا بفطنته الثاقبة حين قال: " ومما يزيد الأمر سوءا أننا لم نقنن إلى الآن نظاما لعلامات الترقيم، الشولة، الشولة فوقها الصحيح تحتها نقطـة (شبه القطع) النقطة (القطع) النقطتان، الاستفهـام، التعجب، الأمر، وتتفاقم الصعوبة حين يهبط مستوى الطباعة، فتفصل القصة الحديثة إلى علامات الترقيم، هي اليوم تحتاج إلى قراءة متأنية وكثير من الصواب".

لغة أذن لا عين؟

ولم يتوقف جهد يحيى حقي عند حدود بيان أهمية اللغة الفصحى، وارتباطنا بها من حيث إنها تصلنا بتراثنا الروحي، وتقوي إحساسنا القومي، وأنها كائن حي يعيش داخلنا، ولم يكتف ببيان ثرائها الدلالي وتأثيرها الجمالي، ووجوب مراعاة قـواعدها النحوية، وتقاليدها في التشكيل والضبط، وإنما دافع عنها، وكـانت له وجهـات نظر تختلف مع بعض الباحثين الذين تصدوا لدراسة طبيعة اللغة العربية وقضاياها.

وتبدو أهمية هذا الأمر في أنه يمثل موقفا نابعا عن قناعة شخصية ورؤية فكرية لها ذاتيتها، واستقلالها، كـما أنه يظهر بجلاء ثقافة حقي اللغوية، ومتابعته لما يكتب عنها سواء في المصادر (سبق أن نقلنا نصا أخذه من فقه اللغة للثعـالبي) أم في المراجع التي تتضمن دراسات لغوية للمعاصرين.

لقد نقل مـا قـالـه المستشرق " ديموبين" من أن "الأدب العربي هو في صميمه أدب قـوالب متبرجة، أدب كليشهات ".

ثم رد عليه بأنـه لم يفهم سر لغتنا الشريفة، وأن انتباهه تركز على عصور الانحلال.

ويناقش ما قاله الأستاذ علي الجنـدي في كتابه "السجع" من أن اللغة العربية " لغة أناقة وزخرفة ومبالغة وتهويل وصفاتها الواشجة بها" .

وينقل ما قاله الدكتور إبراهيم أنيس في كتابـه " دلائل الألفاظ " من أن " العناية بموسيقى اللفظ قد أثر في كثير من الدلالات وأفقدها الدقة والإحكـام والـوقـوف عند حـدودهـا الأولى ".

وتعليله لهذه الظاهرة بقوله: "إن العلة هي في كون العربية لغة أذن وليست لغة عين، وحين اعتمد أهلها على أسماعهم في الحكم على النص اللغـوي أصبحـت الأذن تستريح لحسن وقع الكلام أو إيقاعـه، وغلب هذا الطابع الموسيقي على اللغة، وهذا سر تغلب الشعر في الأدب الجاهلي ".

كـما ينقل ما قاله المستشرق الفنلندي " هولما " عن لغة الشعـوب السامية- ومنها العربية- من أنها معروفـة بانجذابها إلى التفاصيل متهمة باهتمامها بالجزئيات، صفتها الغالبة هي الإضافة لا التركيب. إن لحرف العطف (و) المحل الأول من روابط الجمل ، هذه الجزئيات التابعة ذاتها هي التي تؤدي إلى السجع كأنها خطو البعير. فكل ذرة من الرمال مضافـة إلى الأخرى جزئية منفصلة محتفظة باستقلالها.

إن اكتشـاف المنطق التركيبي ليس من عمل الشعوب الساميـة، إن الصحراء خاضعة لقـانون أحد الضدين: الليل أو النهار، النور أو الظلام، الخالق أو المخلـوق، الجنـة أو النـار، لغـة لا تعرف الظـلال، وانعدام هذه الظلال لا يساعد على الخلق الفني.

ردود نافذة

وقد ناقش هذه الآراء الاستشراقيـة بحجج مقنعة تـدل على تمكنه من اللغة العربية وإدراكه لأسرارها التركيبية والجـمالية، وغيرته على كل ما يقلل من قيمتها ومكانتها التأثـيرية.

ولا ينفك يحيى حقي ينافح عن اللغة القومية- رغم أنـه ليس من علمائهـا المتخصصين- فينـاقش رأي الدكتور زكـي مبارك الـذي أورده في كتابه النثر الفني والذي يرى فيه أن العرب نقلوا إلى النثر محاسن الشعر من الاستعارة والتشبيه والخيال، واستتبع ذلك اهتمامهم بالموسيقى.

ويرد على هذا الرأي، ويفنده بمجموعة من الحجج نورها على النحو التالي:

أولا: أن الشعر العربي الجاهلي كان صادقا في تعبيره واتصاله الوثيق بالطبيعـة، وأنه لم يضح بتحديد المعنى من أجل الرنين.

ثـانيـا: أن النثر القليل الذي وصلنا عن الجاهلية مقصور على شطحات الكهان والخطابة. وهذا مجال لا ننكـر أن رنين الألفـاظ- ولـو على حساب تحديـد المعنى- هدف مقصـود للتأثير على السامعين. فلكل مقام مقال. والخطابة من أوأئل صور النثر. ولكن هذا لا يعني أن كل نثر الجاهلية كـان زخـرفيا. إن طبيعة الحياة والإنسان تنفي ذلك.

ثالثا: عنـدما وثبت الأمة العـربية بفضل رسالـة الإسـلام، وانتبهت على نوره مـن السبات إلى اليقظة اعتنقت نثرا بريئا من الزخرف الباطل والعابث. هل هناك نص يفـوق خطبة الـودل للرسول، انظروا إلى إحكام معانيها وألفاظها وهي خطبة.

رابعا: أن بعض نقادنا القدماء لم يفتهم في حرصهم على المعاني وصيانة كـرامتها أن يشترطوا في السجع أن يكون المعنى هو الذي طلبه واستـدعاه وساق إليه. ومن علمائنـا من قـال: إن كل واحـدة من السجعين المزدوجتين ينبغي أن تكـون مشتملـة على معنى غـير الذي اشتملـت عليه أختها وإلا فهو التطويل بعينه، ومنهم من انتهـوا إلى العبث بالسجـع والإزراء به، وهذا الإزراء دليل اعتقادهم أنه علة طارئة لا أصيلة في الطبع " (خطوات في النقد ص 161 وما بعـدها) وهكذا كان حقي عاشقا للغة العربيـة، غيورا عليها، مدافعـا عنها دفـاع العـالم المتمـكن، الـمدرك لأسرارها والمفتون بجمالها.

لغة القصة القصيرة

غير أن هناك ظاهرة ينبغي الاعتراف بها والإشارة إليها، وهي أن يحيى قد فاته أن يفرق بين لغة الرواية ولغـة القصـة القصيرة، بل بين لغـة الفن القصصي عمومـا، ولغة الشعر والمسرح والخطابة والمقال، فحـديثه يبـدو وكأنه يتحدث عن مستوى واحـد من مستويات التعبير الأدبي دون التمييـز بين الأجناس الأدبية في طبيعة اللغة التي يصاغ بها كل منها.

وقد فطن في بعض آرائه النقدية التطبيقية إلى خاصية أسلوبية تتميز بها القصـة القصيرة، وهي أنها أقرب إلى الشعر من الرواية، فيقول في مقام نقده للمجموعة القصصية " الخبز والصمت" للكاتب السعودي محمد حلوان: إن القصة الحديثة- لأنها زادت تركيزا- ينبغ أن تزداد انجذابا إلى الشعر، لا إلى أوزانه وتراكيبه بل إلى روحه ومزاجه.

أتمنى حـين تصل القصة الحديثة إلى اللغة التي تصلح لها وتستقر عليها، وتميزها عن باقـي فروع فن القول، أن يكون الشعر من المنابع الدقيقة لهذه اللغة (أنشودة للبساطة ص 259).

وهذه رؤية ثاقبة أكدها النقد الحديث، فلغة القصة القصـيرة موجزة مكثفة، نتيجة لتكثيف الحدث، وتقطير الموقف وتركيز حركة الشخصية، ففيها قوة الشعر على عكس الرواية، إذ إنها تختلف عن لغة الشعر، فالشاعر يحلق بأجنحـة في عالم الخيال مبتعذا عن أرض الواقع متخـذا من التخيل عنصرا جـوهريـا في تعبيره، بينما الروائي يرتبـط بالواقع، ويستخـدم اللغـة الواضحـة الكاشفـة عن العوالم النفسية والصراع الاجتماعي، فهو يرتفع على الواقع ولا ينفصل عنه، ويختار الكلمات التي تدل على مستوى الشخصيات فكـريا واجتماعيا، وروح العصر الذي تعيش فيه من حيث الأبنية اللغوية ومن ثم تختلف لغة الرواية عن الشعر.

 

عبدالفتاح عثمان 







يحيى حقى





يحيى حقى في مكتبته