مفهوم النص نصر حامد أبوزيد

مفهوم النص

عرض: فؤاد كامل

هذا هو الكتاب الثالث في سلسلة " دراسة تراثنا الفكري " التي يصدرها الدكتور نصر حامد أبوزيد الأستاذ بقسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، والتي بدأها بكتابه " الاتجاه العقلي في التفسير " ، ثم أردفها بكتابه الثاني "فلسفة التأويل ". وكان تركيزه في هاتين الدراستـين السابقتين ينصـب على الآفـاق الفكرية والمعـرفية التي تبدأ منها عمليات التفسير والتأويل.

يركز المؤلف في هذه الدراسة الثالثة على جانب النص ذاته وعلاقة المفسر به وجدله معه، وذلك في محاولة لاكتشاف مكونات النص وآلياته الخاصة، ودوره الإيجابي في عملية التأويل، وهي محاولة تهدف إلى إعادة التوازن بين طرفي عملية التأويل وهما النص والمفسر فلا يهدر أحدهما على حساب الآخر كـما يحدث أحيانا في فلسفة التأويل المعاصرة.

ويقع الكتاب في 359 صفحـة من القطع المتوسط، وقد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1990 ، وقـدم له المؤلف بتمهيد يعرض فيه منهجه وخطتـه والملامح الرئيسية فيه. ويقصد " بالنص " القرآن الذي يعتبره نصا محوريا في تاريخ الثقافـة العربية، بحيث نستطيع أن نقول إن الحضارة العربية الإسلامية هي " حضارة النص " . بينما كانت الحضارة المصرية القديمة هي حضـارة " ما بعـد الموت "، وكـانت الحضـارة اليونانية هي حضارة " العقل " .

بحث عن البعد المفقود في التراث

والبحث عن " مفهـوم النص " عنـد المؤلف ليس مجرد رحلة فكرية في التراث، ولكنه فوق ذلك بحث عن " البعد " المفقود في هذا التراث، وهو البعد الذي يمكن أن يساعـدنا على الاقتراب من صياغة " الوعي العلمي " بهذا التراث. ولا يأتي ذلك للبـاحث في- القرآن إلا حين يعتمد أساسا على دراسة أدبيـة لكتاب العربية الأوحـد دراسة صحيحـة مفهمة له. فهذه الدراسة هي الكفيلة بتحقيق " وعي علمي " نتجاوز به مـوقف " التوجيـه الأيديـولوجي " السـائد في ثقافتنا وفكرنا. والبحث عن هذا المفهوم وبلورته وصياغته لا يمكن أن يتم بمعزل عن إعادة قراءة " علوم القرآن " قراءة جديدة باحثة منقبة.

ويرى المؤلف أن التركيز على وظيفة ما لنص من النصوص- دون غيرها من الوظائف الممكنة والمحتملة لهذا النص- يرتبط بالاتجاه العام السائد المسيطر على الثقـافة في حركتها الجدليـة مع الواقع الذي تصوغـه وتعبر عنه. وقد فرضت بعض الاتجاهات السائدة عبر تاريخنا الإسلامي عزلة على " النص " الديني عن حركة الواقع في كثير من الأحيان بأن أغلقت على المفكـرين "باب الاجتهاد "، بعد أن كـانت " الشريعة " و " علوم القرآن " بوجـه عام تصوغ نفسها مع حركة الـواقع الإسلامي في تطوره. وأوضح دليل على ذلك ما نراه من اختلاف النص القرآني من حيث مضمونه وأسلوبه في مرحلته " المدنية " عنه في مرحلته " المكية ": المرحلة الأولى هي مرحلـة تأسيس " مجتمع " جديد نقيض للمجتمع السائد المسيطر في " مكة "، والمرحلة الثانية هي مرحلـة " البناء الاجتماعي " وتقنين هذا البناء. وليس هذا كلـه- في التحليل الأخير- سوى تعميق لمفهوم " الديـن " يقصره على الشعائر والعبادات، في حين أن " الدين " مفهوم ثقافي عام يتجـاوز حـدود العقائد والشعائر.

هل يوجد نص مطلق؟

والاتجاه السلفي في العصر الحديث هو الذي يطالب بتطبيق " نص مطلق " على " واقع مطلق ". وفي المقابل هناك تيار " التجديد " الذي لا يتقبل " التراث " القديم كـما هو، وإنما يريد أن يضع صياغة جديدة لهذا التراث ، بطرح ما لا يلائم عصرنا، وبتأكيد الجوانب الإيجابية في هـذا التراث ووضعها في اللغة المناسبـة لعصرنـا. فالتراث ليس له وجـود مستقل عن واقع حي يتغير ويتبـدل يعبر عن روح العصر، وتكـوين الجيل، ومرحلة التطور التاريخي. ولا مندوحـة للباحث عن الاختيار بين الاتجاهات المختلفة، ذلك الاختيار الذي يحدده موقف الباحث مـن الواقع الذي يعيش فيـه بوصفه شرطا أوليا للتجـديد. ومطلب التجـديد على وجاهته وأهميته إذا لم يستند إلى فهم " علمي " للأصول الموضوعية التي قـام التراث على- أساسها كفيل بأن يؤدي إلى تكريس أشد عناصر التراث تخلفا، إلى جانب أنه يساند- دون وعي- أشد القوى سيطرة وهيمنة ورجعية في الواقع الراهن.

وعلى هذا يكـون المؤلف قد أوضح الهدف من هذه الدراسة. وهما في الـواقع هدفان: أما أولهما فهو إعادة ربط الدراسات القرآنية بجمال الـدراسات الأدبية والنقدية بعد أن انفصلـت عنها في الوعي الحديث والمعـاصر نتيجـة لعـوامل كثيرة أدت إلى الفصل بين محتوى التراث وبين مناهج الدرس العلمي، وصارت الدراسات الإسلامية نتيجـة لذلك مجالا حائرا بين التخصصات الأكاديمية. أو بعبارة أخرى هي امتداد لمحاولات سبقتها في النظر إلى التراث ودراسته من منظور وعينا المعاصر.

وأما الهدف الثاني فيتمثل في محاولة تحديد مفهوم " مـوضـوعي " للإسلام، مفهوم يتجـاوز الطروح الأيديولوجية من القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة في الواقع العربي الإسلامي. إذ يرى الباحث إن إعادة طرح السؤال: ما هو الإسلام؟ من خلال البحث عن مفهوم للنص هو بمثابة التساؤل عن هويتنا الحضارية في التاريخ، سواء كنا مسلمين أم كنا مسيحيين مادمنا نعيش واقع هذه الثقافة العربية الإسلامية بمكـوناتها التاريخية.

ويذهب المؤلف في معرض حديثه عن المنهج الذي اتبعه في كتابه إلى أن هذه الدراسة تنطلق مـن مجموعة الحقائق التي صاغتها الثقافة العربية حول النص القرآني من جهة، كـما أنها تنطلق من المفـاهيم التي يطرحها النص ذاته عن نفسه من جهة أخرى. وقد اختار النص اللغـة التي يخاطب بها الناس عن طريق الوحي الذي استقبله خـاتم النبيين والمرسلين. ولما كانت اللغة هي من أهم أدوات الجماعة في إدراك العالم وتنظيمه، فلا يمكن أن نتحـدث عن هذه اللغة بوصفها مفارقـة للثقـافـة والـواقع، ولا يمكـن من ثم أن نتحـدث عن " نص " مفارق للثقافـة والواقع أيضا ما دام أنـه نص داخل إطار النظام اللغوي للثقافة. إن ألـوهية مصدر النص لا تنفي واقعيـة محتـواه، ولا تنفي من ثم انتماءه إلى ثقافة البشر. ولما كانت العلاقة بين النص والثقافة عـلاقـة جـدليـة معقـدة تتجاوز كـل الدعـاوى الأيديولـوجيـة في ثقافتنا المعاصرة عن النص، ومن أجل الكشف عن بعـض جـوانب هذا التـداخل بين النص والثقافة، اعتمدت هذه الدراسة بصفة أساسية على المدخل اللغوي.

تشكل النص

كـما اعتمدت بصفة أساسية أيضا على أن " النص" موضع الدراسة لم ينزل كـاملا ونهائيا في لحظة واحدة، بل كـان نزوله خـلال فترة زادت على العشرين عاما. ومعنى ذلك أنه " تشكـل" في هـذه الفترة ليكون له وجـود متعين في الـواقع والثقافـة بقطع النظر عن أي وجود سابق لـه في العلم الإلهي أو في اللوح المحفوظ. وهذا هو المنهج الأول في هذه الدراسة الذي يبدأ من المطلق والمثالي في حركـة هابطة إلى الحسي والمتعين. أما المنهج الثاني فهو حركة صاعدة تبدأ من الحسي والعيني صعودا. يبدأ من الحقائق والبديهيات ليصل إلى المجهول ويكشف عما هو خفي.

إن محاولة البحث عن مفهوم للنص سعي لاكتشاف العلاقات المركبة لعلاقـة النص بالثقـافـة من حيث تشكله بها أولا، وعلاقته بها من حيث تشكيله لها ثانيا. فالتشكل والتشكيل هما موضـوع الباب الأول من هذه الدراسة. وهذا الباب ينقسم إلى فصول خمسة هي على التوالي: مفهوم الوحي، المتلقي الأول للنص، المكي والمدني، أسباب النزول، ثم الناسخ والمنسوخ. ويأتي الباب الثاني عن " آليات النص " من حيث علاقته بالنصوص الأخرى في الثقافة من جهة، ومن حيث آلياته في إنتاج الدلالة من جهة أخرى. ويضم هذا الباب أيضا خمسة فصول هي على التوالي: الإعجاز، المناسبة بين الآيات والسـور، الغموض والوضوح، العام والخاص، والتفسير والتأويل. وفي الباب الثالث والأخير يكشف المؤلف عن التحـول الذي أصـاب مفهوم النص ووظيفته والذي صارت له السيادة في الثقافة العربية الإسلامية حتى عصورها الحديثة. . ويمثلها " أبو حـامد الغزالي " بوصفـه المفكر الذي التقت عنده تيـارات الفكـر الديني واتجاهـاته على المستويين الرسمي والشعبي. وهو في هذه الوقفة مع " الغزالي " يستهدف الكشف عن أسباب بداية عزل النص عن الواقـع وعن حركـه الثقافـة من جهة، والكشف عن جـذور كثير من الأفكـار والمفـاهيم الشائعة في الخطاب الديني المعاصر من جهة أخرى باستخدام أساليب الدرس العلمي الحديث.

التقاء الوحي بالواقع

بعد هذا التمهيـد الوافي لمنهج الدراسة وأهدافها وملامحها العامة، ينطلق المؤلف سعيا وراء المواطن التي يلتقي فيها الـوحي بالـواقع، من حيث إن الوحي في اللغـة العـربية كلمـة تتضمن معـاني " الإلهام " و " الإشارة " و " الإيماء " و " الكتابة " و " الكلام "، وهذه المعاني كلها يستوعبها معنى " الإعلام "، بشرط أن يكون هذا الإعلام خفيا سريا. وكذلك فإن مفهوم الوحي يتضمن مفهوم " الشفرة ". وقد كان قبول العقل العربي لمفهوم الـوحي هـو ما ارتبط في اعتقاده بإمكـان الاتصال بين البشر والجن عن طـريق ظاهرتي "الشعر والكهانة ". وهذا الارتباط هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها. لذلك لا نجد من العرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراضا على ظاهرة الوحي ذاتها، بل انصب الاعتراض إمـا على مضمون كـلام الـوحي أو على شخص الموحى إليـه. وعلى أسـاس تصـور هذا الاتصال بين البشر وعالم الجن أو العـوالم الأخرى أمكن تفسير ظاهرة النبوة ذاتها من خـلال نظرية الخيال عند الفلاسفة والمتصوفة.

وينبغي بداية أن نفهم النص من حيث هو رسالة لغوية، أو " تنزيلا " إلى الناس عبر وسيطين: الأول الملك، والوسيط الثاني محمـد البشر. إنها رسالة السماء إلى الأرض، ولكنها ليست رسالة مفارقـة لقوانين الواقع بكل ما ينتظم في هذا الـواقع من أبنية وأهمها البنـاء الثقافي. إن المطلق يكشف عن نفسـه للبشر " يتنزل " إليهم بكلامه عبر نظامهم الدلالي الثقافي.

وتنجلي علاقة النص بالثقافة والواقع بالنظر إلى " تحنف " الرسول قبل نزول الوحي، هذا " التحنف " الذي يمكن أن نعتبره بحثا عن " دين إبراهيـم " الذي يحقق للعرب هـويتهم من جهة، ويعيد تنظيم حياتهم على أسس جديدة من جهة أخرى. وكان " الإسلام " هو الدين الذي جاء يحقق هذه الأهداف. فمن حيث هو دين يرد نفسه للحنيفية ملة إبراهيم- كان تجاوبا مع حاجة الواقع، وهـي الحاجة التي عبر عنها الأحناف وكان محمد واحـدا منهم، تجسدت في داخله أحلام الجـماعة البشرية التي ينتمي إليها، إنسان لا يمثل ذاتا مستقلة عن حركة الواقع، بل إنسان تجسدت في أعماقه أشواق الواقع وأحلام المستقبل.

التفرقة بين المكي والمدني

ولقد كانت التفرقة بين المكي والمدني في النص تفرقة بين مرحلتين مهمتين ساهمتا في تشكيل النص سواء على مستوى المضمون أو على مستوى التركيب والبناء. وليس لذلك من دلالة سوى أن النص ثمرة للتفاعل مع الـواقع الحي التـاريخي. إذا كان علم " المكي والمدني " يكشف عن الملامح العامة لهذا التفاعل، فإن علم "أسباب النـزول " يكشف عن تفاصيـل هذا التفاعل، ويكاد يزودنا بالمراحل الدقيقة لتشكيل النص في الواقع والثقافـة. وأسلوب التنجيم- أي نزول القرآن منجما- في الشريعـة يتضمن معنى الـواقعيـة، والتدرج بالإنسان وإعانته شيئا فشيئا على التخلي عن الجاهليـة وعاداتها المستحكمة فيه والتحلي بالإسـلام وفضائل أخلاقه. والتفرقة بين المكي والمدني هي تفرقة بين " الإنذار " و" الـرسالـة ": " الإنـذار " يـرتبط بمصارعة المفاهيم القديمة على مستوى الفكر والدعوة إلى المفاهيم الجديدة، فهو بمثابة تحريك للوعي لإدراك فساد الواقع والنهوض من ثم إلى تغييره. و " الرسالة " تعني بناء أيديولوجية المجتمع الجديد. . وكانت الهجرة هي الفيصل بين هاتين المرحلتين.

ويعتـبر علم " أسباب النزول " من أهم العلوم الدالة والكاشفة عن علاقة النص وجدله معه، وهو يزودنا بمادة جـديدة ترى النـص استجابة للواقع تأييـدا أو رفضا، وتؤكـد علاقة " الحوار " و " الجدل " بين النص والواقـع. وقد أدرك علماء القرآن أن قدرة المفسر على فهم دلالة النص لا بد أن تسبقها معرفة بالوقائع التي أنتجت هذه النصوص. هذا مع إدراكهم بأن للنص- من حيث هو نص لغوي- فعاليته الخاصة التي يتجاوز بها حدود الوقـائع الجزئية التي كان استجابة لها، وهو ما ناقشوه تفصيلا في قضية " العام والخاص " وهي القضية التي يتعرض لها المؤلـف في الباب الثاني الخاص بآليات النص. وفضلا عن ذلك فقد أدرك العلماء أيضا أن النص وإن كان من حيث " النزول"- أي من حيث ترتيب نزول أجزائه- مرتبطا بالوقائع والأسباب فإنه من حيث التـلاوة- أي من حيث تـرتيبـه الآن في المصحف- يتجاوز هذا الارتباط بالوقائع ليقيم روابط أخرى نـاقشها العلماء أيضا في " علم المنـاسبـة بين الآيات ".

حكمة التشريع

بعد أن يبين المؤلف أهمية دراسة " أسباب النزول " في الباب الأول من كتابه " مفهوم النص "، ويؤكد أن معرفـة هذه الأسباب لا تقتصر على مجرد الولع برصد الحقائق التاريخية التي أحاطت بشكل النص، وإنما تستهدف هذه المعرفة فهم " النص " واستخراج دلالته، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب كـما يقولون، هذا إلى جـانب أن دراسة الأسباب والوقـائع تؤدي إلى فهم " حكمة التشريع "، يقول: " إن هذا التدرج في التشريع مهم جدا فيما نلح عليه من جـدلية العلاقة بين النص والواقع "، بل " إن مثل هـذا التدرج في التشريع لا يؤكـد جدلية الوحي والواقع فقط، بل يكشف عن منهـج النص في تغيير الواقـع وعلاج عيوبه " . ذلك أن دلالـة النصـوص ليست إلا محصلـة لعمليـة التفـاعل في عمليـة تشكيل النصـوص وصنعها من جـانبي اللغة والواقع، وكلا الجانبين مهم لاكتشاف دلالة النصوص.

وإذا كانت " أسباب النزول " هي السياق الاجتماعي للنصوص، وكانت علاقة النصوص بالواقع جـزءا أصيلا من مفهوم النص، فإن قضية " الناسخ والمنسوخ " تـؤكـد أيضـا هذا الارتبـاط الضروري بين النص والواقع، ومن ثم بـين الإسلام وحركة المجتمع.

والمشكلـة الأساسية في هـذه القضيـة هي: كيف يمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء، وبين الإيمان الذي شاع واستقر بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ؟.

ولا يرى المؤلف حرجا أو تناقضا في عملية النسخ والإلغاء لأنـه إذا كان النص في مفهومه الأسـاسي من حيث كـونه وحيا انطلق من حدود مفاهيم الـواقع، فلا شك أنه في تطوره كان لا بد أن يراعي هذا الواقع. والأحكام الشرعية أحكام خاصة بالبشر في حركتهم داخل المجتمع، ولا يصح إخضـاع الواقع لأحكام وتشريعات جامدة لا تتحرك ولا تتطور.

علاقة النص بالواقع والثقافة

وإذا كان المؤلف قد ركز في الباب الأول على علاقة النص بالواقع والثقافة فإنه يركز في الباب الثاني على " آليات النص " سواء من حيث صلتـه بالنصوص الأخرى داخل الثقافـة أو من حيث طرائقه في إنتاج الدلالة.

ويبدأ هذا الباب بقضية " الإعجاز " فيرى أنها بحث عن السمات الخاصة للنص والتي تميزه عن النصوص الأخـرى في الثقافة وتجعلـه يعلو عليها ويتفوق. ولا شك أن النص في علاقتـه بالنصوص الأخـرى يتضمن داخله دوال تؤكد مشابهته لها، ولكنه يتضمن أيضا دوال أخرى تؤكـد مخالفته لها. وهذا الإدراك لعلاقة " التماثل " بين النصوص، وعلاقة " المخـالفة " بينها هو الذي دفع المفسرين القدماء إلى أن يكون إطارا مرجعيا في تفسير القـرآن. وهكـذا أدرك المسلمون الأوائل أن " النص " غير منعزل عن الواقع.

وجاء المعتزلة بعد هؤلاء المسلمين الأوائل فـذهبوا إلى أن الكـلام الإلهي فعل يـرتبط بمخـاطبـة البشر لتحقيق مصالحهم، وأصروا من ثم على أن اللغـة نتاج بشري، وعلى مواضعاتها وطرائقها نزل الكلام الإلهي وكان من الطبيعي بعـد ذلك كله أن يكـون تحديدهم للإعجاز قائما على أساس اكتشاف قوانين عامة يمكن للعقل البشري تقبلها والتسليم بها. وهـذه القوانين قوانين لغوية يشارك فيها النص غيره من النصوص من جهة، ولكنه يتفوق عليها في استثمار القوانين من جهة أخرى. وهكـذا يمكن أن نفيد من هذه القوانين لا في تفسير الإعجاز فقط بل في تفسير خصائص النصوص الممتازة بشكل عام.

وبهذه القضية- قضية الإعجاز- يرتبط علم آخر هو " علم المناسبة ". والفارق بين " علم المناسبة " وعلم " أسباب النزول " فـارق بين درس علاقـات النص في صورتها النهائية الأخيرة وبين درس أجزاء النص من حيث علاقـاتها بالظـروف الخارجيـة، أو بالسياق الخارجي لعملية تشكل النص. إنه بعبارة أخرى فارق بين البحث عن جماليات النـص وبين البحث عن دلالة النص على الوقائع الخارجية. نستطيع إذن أن نقول مع القدماء إن علم " أسباب النزول " علم تاريخي، في حين أن " علم المناسبة " علم أسلوبي، بمعنى أنه يهتم بأساليب الارتباط بين الآيات والسـور. ولهذا قيل: المناسبة أمر معقول، إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. ومعنى ذلك أن " العلاقات " و "المناسبات " احتمالات ممكنـة، على المفسر أن يحاول اكتشـافهـا وتحديدها في كل جـزء من أجزاء النص. أو بعبارة أخـرى أن المفسر يكتشـف جـدلية أجزاء النص من خلال جدله هـو مع النص. وموجز القول هـو أن "وحدة " النص القرآني بوصفه " بناء مترابط الأجزاء " - على حد تعبـير القدماء- هي الغاية التي يبحث عنها " علم المناسبة ".

الغموض والوضوح في النص

وتسلمنـا دراسـة " علم المنـاسبـة " إلى دراسـة "الغموض والوضوح" في النص القرآني وهي القضية التي وصفت في القرآن " بالمحكم والمتشابه ". وجدلية الغموض والـوضوح من أهم خصائص النص في الدراسات النقدية الحديثة، إذ الفارق بين النص ذي الطبيعة "الإعلامية " الخالصة وبين النص الأدبي يكمن في قدرة النص الأدبي على إبداع نظامه الدلالي الخاص داخل النظام الدلالي العام في الثقافة التي ينتمي إليها. فـالنص الأدبي- على خـلاف " النص الإعلامي "- يتضمن أجزاء تعـد بمثابة " مفاتيح " دلاليـة تمكن القارئ من الـولـوج إلى عـالم النص وكشف أسراره وغوامضه. وهذا كله مفهوم معاصر للـدلالة يرى أن فعل القراءة- ومن ثم التأويل- لا يبدأ من المعطى اللغوي للنص، أي لا يبدأ من المنطوق، بل يبدأ- قبل ذلك- من الإطار الثقافي الذي يمثل أفق القارئ الذي يتوجه لقراءة النص.

واختلاف مذاهب التأويل للنص القرآني اختلاف مردود إلى آلية النص في تحديد طبيعته الخاصة، وهو اختلاف لا يـؤدي إلى التناقض، وإنما يؤدي إلى تحديد هويته وتمييزه عن غيره من النصـوص. ليس هذا فحسب، بل إنه يتجاوز ذلك " ليجعل من نفسه محورا في الثقافة عن طريق قـابليته للتفسيرات والتأويلات المختلفة في المكان والزمان على السواء ".

وكما يـرتبط " علم المنـاسبـة " بين الآيـات بعلم "أسباب النزول " ، فكذلك يرتبط به علم " العام والخاص ". وهو العلم الذي يهتم باكتشاف الطرائق التي يمكن أن يستجيب بها النـص لمتغيرات الواقع في حركته النامية المتطورة عبر التاريخ، هو العامل الأكبر وراء التركيز على " عموم اللفظ " دون الوقوف عنـد "خصوص السبـب ". لذلك نظر كثير من الفقهاء إلى " الوقـائع " الجزئية التي يمثلها علم " أسبـاب النزول " بوصفها نـماذج وأمثلـة لأحوال اجتماعية وإنسانية. وعلى ذلك فإن دلالة النص لا تقف عند حدود هذه الوقائع الجزئية بل تنسحب على كل الوقـائع الشبيهة. فالأصل في آليات اللغة إذن هو التعميم.

التفسير والتأويل

وفي تفرقة مهمة بين التفسير والتأويل يخلص المؤلف بعد تحليل الدلالة اللغـوية للكلمتين إلى أن " التأويل " يرتبط بـالاستنباط في حين يغلب على التفسـير النقل والروايـة. وعلى ذلك يكـون " التفسير " جـزءا من عملية " التأويل " ، وتكون العلاقة بينهما علاقة الخاص بالعام من جهة، أو علاقة " النقل " بالاجتهاد من جهة أخرى، وهـي العلاقة التي يعبر عنها القدمـاء بأسماء الرواية و " الدراية ". و " التفسير " ينتمي في مفهومه إلى أهل السنة، على حـين ينتمي التأويل إلى أهل الكلام ، وبخاصة المعتزلة- وإلى المتصوفـة. ولهذا كان موقف السنة من هؤلاء على طرفي نقيض، إذ يرى أهل السنة أن المعتزلة أخطأوا في الدلالات التي حملوا عليها ألفاظ القرآن فكان خطؤهم نابعا من خطأ المعاني ومن الخطأ في حمل ألفاظ القرآن عليها. أما خطأ المتصوفة فـيرتد إلى حمل ألفاظ القرآن على معـايير هي في ذاتها صحيحة ولكن الألفاظ لا تدل عليها. ورفع مكانة " التفسـير " على حساب " التأويل " يعد جزءا من هذا الخطأ في فهم " أهل السنة " وفي موقفهم الفكري قديما وحديثا.

ويـذهب المؤلف إلى أن التأويل الذي لا يعتمد على " التفسير " هو التأويل المرفوض والمكروه، فالاستنباط لا يعتمد على مجرد " التخمين " ولا على إخضاع النص لأهواء المفسر وأيديولوجيته مهما كانت النوايا حسنة، وإنما لا بد أن يستند الاستنباط إلى " حقائق " النص من جهة، والى معطياته اللغوية من جهة أخرى، ثم لا بأس بعـد ذلك من الانتقـال من " الـدلالـة " إلى " المغزى" دون الوثب مباشرة إلى " مغزى " يتعارض مع دلالة النص. والتفسير هنا هو العلوم الدينية واللغوية التي يحتاج إليها المفسر للكشف عن دلالة النص، وهي الدلالة التي ينطلق منها " المؤول " للغوص في أعماق النص من خلال حركة " الذهن " أو الاجتهاد ".

والموضـوعيـة التي يمكن تحقيقهـا في " تأويل " النصوص هي الموضوعيـة الثقافيـة المرهونة بالزمان والمكـان لا الموضوعيـة " المطلقـة " التي ثبت أنها مجرد "وهم " من إبـداع " أيـديـولـوجيـة " الغـرب الاستعماري. . ذلك أن حركة النص في الزمان والمكان ليست إلا حـركـة في واقع حي متطـور. واكتشاف دلالات جديدة للنصوص لا يعني إسقاط الدلالات التي اكتشفت قبل ذلك من هذه النصوص. وعلى هذا ينبغي أن يتسلح المـؤول بكل العلوم التي تساعده على فهم الواقع وإدراك حركتـه، وأن يكون منتميا لمصالح الأغلبية معبرا عنها.

الرؤية المضادة لفلسفة التأويل

وعملا بالحكمة القائلة بأن الأشياء تظهر بأضدادها، لجأ المؤلف إلى عرض الرؤية المضادة لرؤيته فيما يتعلق بفلسفة التأويل، وهذه الرؤية المضادة وجـدها عنـد الإمام الغزالي في فلسفته التصوفيـة عن التأويل والتي يضمها كتابه الشهير " جواهر القرآن"، وهذا هو موضوع الباب الثالث وعنوانه: " تحويل مفهوم النص ووظيفته ". إذ يرى المؤلف " أن حركة الوحي النازلة من الله إلى الإنسـان والتي تعني الكشف والإفصـاح والبيان قـد تحولت في الفكر الـديني المتأخر إلى حـركة صعـود من جـانب الإنسان سعيا إلى الله ذاته. وعلى حين كانت حركة الوحـي في بدايتها تستهدف الإنسان بما هو عضو في جماعة. ومن ثم تستهـدف إعادة بنـاء الواقع لتحقيق مصلحة الإنسان ولإشبـاع حاجاته المادية والـروحيـة، فقد كـانت الحركـة الإنسانية في التصورات الصـوفية حركـة للخلاص الذاتي الفردي بمعانقة المطلق والفناء فيه. ونتيجـة لذلك تم توجيه النص وتمت إعـادة تصوره في الفكـر لتحقيق هـذه الـوظيفة. . ولم يكن لمثل هذا التحـول أن يتم إلا بعـد حدوث تحول مواز في حركـة الواقع الـذي تفاعل مع النص ". ويلخص المؤلف تصـورات الغـزالي للنص ولأهدافه وغاياتـه من منطلقين أساسيين: أحـدهما أشعري كـلامي والثاني صوفي غنوصي- فالحقيقة أن الغزالي لم يتخل إطلاقا عن منهج المتكلمين والفلاسفة كـما يدعـي- أما المنطلق الأشعري للغزالي فيتحـدد من حقيقـة تصور الأشـاعرة للنص بوصفه " صفة " من صفات الذات الإلهية، في حـين يتحـدد منطلقه الصوفي من حصر غاية الـوجودي الإنسـاني على الأرض في تحقيق الفوز والفلاح في الآخرة. وفي المنطلق الأشعري ثنائية هي ثنائية الصفات والأفعال، والكلام الإلهي عند الأشـاعرة صفة وليس فعـلا. كما أن في البعد الصوفي ثنائية أخرى هي ثنائية الظاهر والباطن، فـالباطن هـو الأسرار، والجواهر هي الحقائق التي يتضمنها النص من حيث هو مضمون، أما الظاهر فهو الصدف والقشر، هـو اللغـة التي يظهـر بها النص لأفهامنا وعقولنا. ولهذا يصنف الغزالي العلوم القرآنية- إلى علوم القشر والصدف وهي علوم اللغة والقراءات والتفسير وعلـوم اللباب هي العلـوم التي تهدف إلى معرفة الله سبحانه وتعالى في صفاته وأفعاله، والوصول إليه هو الهدف الأسمى من الحياة والمعرفـة والعلم. فهناك أولا: علم الذات والصفات والأفعال، ويتلوه ثانيا علم الآخرة وهو علم المعاد، ثم يأتي بعد هذا كله علم السلـوك إلى الله أو علم التعـريف بـالصراط المستقيم.

وتأويل النص القرآني يتم بالعبور من علوم القشر والصدف إلى علوم اللباب والجواهر، ويوازي هذا العبور عمليـة العروج الخيـالية بالقلـب من عالم الحس والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت.

وينتهي المؤلف إلى أن تصـورات الغـزالي كلهـا تعارض المقاصد الأولية للوحي والشريعـة معا، رغم ما لقيته من شيوع وانتشار، كما أنها ساعدت على تحويل النص تدريجيا إلى " شيء " ثمين في ذاته، بحيث تم " تشييئه " في الثقافة فصار " حلية " و " أيقونة".

ونحن نرى من جـانبنا أن هذه الـدعوى الأخـيرة في حاجة إلى مزيد من التوضيح والتفسير، وربما احتاجت في نهايـة الأمر إلى كتاب آخر من المؤلف صاحب كل هذه الاجتهادات.

 

نصر حامد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب