أرقام محمود المراغي

أرقام

المعادلات المطوبة
هناك ثلاثة افتراضات أصبحت غير صحيحة. الافتراض الأول، أن هناك رشدا لـدى الدول والحكومات، خـاصة عندما تتصرف في أمـوالها فتتجه بالإنفاق للغذاء والكساء والصحة والتعليم، بينما توجه لشراء الأسلحة وأدوات التدمير القدر الأقل.

الافتراض الثـاني أن هناك شمالا وجنوبا، أغنياء وفقـراء، وأنه من الطبيعي والشائع أن الشمال يساعد الجنوب، وأن الأغنياء يوفرون للفقراء ما يساعدهم على التنمية ومواجهة الأزمات.

أما الافتراض الثالث، فهو يتعلق بالأغنياء والفقراء في الوطن الواحد حيـث تعودنا أن نقول إن الاعتمادات الحكومية المخصصـة للخدمات الاجتماعية- كالصحة والتعليم- تتجه في معظمها للفقراء لأنهم أكثر حاجة.

بالأرقام، اتضح أن الافتراضـات الثـلاثـة غير صحيحة.

السلاح أولا

في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة 1992 أن 38 بـالمائة من الإنفاق الحكـومي المركزي للـدول الناميـة يجري تخصيصه للنفقات العسكرية وخـدمة الـديون، بينما لا تزيد نفقات سائر أوجه الحياة من صحة وتعليم وإسكان وثقافة وبنية أساسية واستثمار على 62 بالمائة.

في التفاصيل أن الأكثر فقرا أكثر إنفاقا على الدفاع وخدمة الـدين، فالنسبة في جنوب الصحـراء الكـبرى بإفريقيا تصل إلى 35 بالمائة، وفي جنوب آسيا 38 بالمائة .. و..، ذلك مقـابل 21 بـالمائة في الأمـريكتين. وفي مقابل 23 بالمائة فقط تنفقها البلدان النامية على الصحة والتعليم.

وبمزيد من التأمل نجد أن نمط الإنفاق العسكري في الدول النـامية لا يتغير، فقـد انتهت المواجهة بين الشرق والغـرب، ونجحت محاولات الحد من التسلح في دول الشمال، وانتقل خطر الحروب من (شمال- شمال) إلى جنـوب- جنـوب ، والـدليل هي تلـك التـوتـرات والصراعات الإقليمية الممتدة من آسيا إلى إفريقيا، ومن الخليج العربي للشرق الأوسط بمجمله.

خطر الحروب انتقل جنوبا، وكـان ذلك ملمحا أول لحقبـة ما بعـد الحرب الباردة. أما الملمح الثاني فهـو أن الحروب لم تعد بالضرورة عابرة للحدود السياسية، بل إنها تتم في داخلها، إنها حروب أهلية وطائفية وعرقية. وبما يفرض ملمحا ثالثا هو تغـير نوعية السلاح المطلوب والرائج، فالحروب الصغيرة قد لا تحتاج الأكثر تقدما في فنون الدمار لكنهـا تحتـاج السلاح الصغـير والمتوسط الـذي ينتشر سماسرته في معظم بلـدان العالم الثـالث، بعضهم يرتدي زي الجنرالات، وبعضهم يرتـدي زي السياسي، والقليل منهم تاجر مشهود له بالتجارة.

إنها خريطة الموت والتوتر التي تستنزف النفقـات مما يدفع الحكومات للاستدانة، ولتجـد نفسها بعد حين وقـد تـوجهت بما يقرب مـن 40% من نفقاتها للـدفـاع والديون.

الجنوب يدفع أكثر

الأزمات تـم ترحيلها مـن الشمال إلى الجنوب- عدا استثناءات في شرق أوربا- ومع الأزمات الجنوبية قلت معونات الشمال، وسقط الافتراض الثاني وهـو أن التمويل يتجه جنوبا.

طبقا للمصدر نفسـه، ومنذ عام 1984 كان صافي التحويلات المالية لصالـح الدول الصناعية على حساب البلدان النامية.

تاريخيا، كان العكس هـو الصحيح، فـالدول الصناعيـة هـي التي كـانت تساعد الـدول النامية بالقروض والمنح والتكنولوجيـا الحديثة، والقروض كانت بين سهلة وصعبة، بفوائد صغيرة وآجال طويلة، أو بفوائد كبـيرة وآجـال قصيرة أو متـوسطة، وكـان الرهان واضحا وهو أن الـدول النامية تقترض لتستثمر وتصلح الاقتصاد وتـزيد الإنتاج، ومن عائد ذلك كله تسدد ديونها ويبقى لها هامش لتحسين وجه الحياة.

في الـواقع الفعلي اختلت هذه النظرية وتراكمت الـديـون وزادت مستحقـاتها، وبينما كـان صـافي التحويلات الماليـة قـد بلغ 19 مليار دولار عام 1980، فقد انخفض هذا الصافي والمتجه من الدول الصناعية للدول النامية إلى 6 مليارات عام 1982، وما لبثت أن تحولت المعادلـة لتصبح الـدول الناميـة هي التي تمول الـدول الصنـاعية، بمعنى أننـا إذا أجـرينا مقاصة بين ما تـأخذه الـدول النامية وما تسدده للـدول الصناعية من فوائد وأقساط قروض سابقة فإننا نجـد الصافي 22 مليار دولار لصالح الدول الصناعية عام 1984.

وتستمر حقبة الثمانينيات على المنوال نفسه ليصل صافي التدفق النقدي المتجه من الجنوب للشمال إلى 53 مليارا عام 88 و 44 مليارا عام 89.

لقد أصبح الجنوب يمول الشمال، وسقط الافتراض القديم الذي كان يقول: العون يتجه جنوبا.

والأغنياء أولى بالرعاية

الأمر نفسه شهـدته المجتمعات النامية من الداخل، فالفقـراء الذين هم أولى بالرعاية أصبحوا يأخـذون أقل.

تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف):

" لقد أصبح من المألوف أن نرى ما يعادل 75% من الإنفـاق العـام (الحكـومي) على الصحـة يخدم أغنى 25% من الناس، كـما أنه من المألـوف أن نرى قدرا أكـبر من المال ينفق على عمليات معقدة بدلا من أن ينفق على إجـراءات زهيـدة التكلفـة قـادرة على القضـاء على الأمراض العامة، بل وكثيرا ما تنفق نسبة مئوية مالية على العلاج في الخارج للقلة المترفة ".

الشيء نفسـه في مجال التعليم الذي يتجه معظم الإنفاق فيه للتعليم العالي وليس للتعليـم الأولي الذي يمثل قاعدة اقتصادية وثقافية مهمة في المجتمع. والنموذج لذلك: الهند، حيث يتكلف الطالب الجامعي بين 60- 70 مـا يتكلفـه طفل في التعليم الإبتـدائي، والنتيجـة أن نصـف الطلاب لا ينهـون تعليمهم الإبتدائي، بينما تقوم الجامعات بتخريج أعداد بلا عمل حقيقي.

إنه التشـوه في نمط الإنفاق، لكنها أيضـا قصة المعادلات المقلوبة، والافتراضات التي سقطت مع الزمن. ألسنا في عصر الانقلابات السياسية والاقتصادية والفكريـة؟، ألسنا في عصر جديد نشهد ملامحه يوما بعد يوم؟

هـذه هي بعض الملامح: السـلاح أهم من التعليم والصحة. الجنوب يساعد الشمال، والأغنياء أوفر حظا في نفقات الحكومات واهتماماتها.

 

محمود المراغي