طب المسنين: طريق من الحرير .. لأبائنا علاء غنام

طب المسنين: طريق من الحرير .. لأبائنا

طويلة هي رحلة الإنسان من الطفولة إلى الكهولة ثم الشيخوخة، فهل يمكن التخفيف من مشاق هذه الرحلة الطويلة لتصير طريقا من الحرير يسير عليه آباؤنا؟ هذا ما يبحثه علم جديد في الطب هو "طب المسنين"، وهو موضوع هذا المقال.

أعلنت منظمة الصحة العالمية أن أعداد من يندرجون تحت صفة الشيخوخة من الناحية العمرية سوف يصل بحلول عام 2000 إلى قرابة 30% من سكان المعمورة.

وقرر علماء طب المسنين أن الشيخوخة مرحلة طبيعية من مراحل الحياة لا يمكن لأحد أن يتفاداها، والذين لا يمرون بها هم فقط من يتوفون مبكرا. وقد أشار "روبرت اتشلس" أنها لا تعني مجرد تزايد سنوات العمر، لأنها تشمل تغيرات جسمانية ونفسية واجتماعية وبالرغم من أنها أصبحت مقبولة سيكولوجيا عند أغلب البشر إلا أنه يصعب تحديد متى تبدأ بدقة. وعلى سبيل المثال فقد اقترحت الحكومة الأميريكية جزافا تحديدها من الخامسة والستين حيث يستحق الفرد الضمان الاجتماعي عند هذه السن، وبذلك ربطت العمر الزمني بالقدرة العملية كعلامة مميزة للشيخوخة، ولكن أستاذا مثل ريتشارد كراندال بجامعة ميتشجان يرى أن الشيخوخة عملية ضرورية مستمرة منذ انتهاء آليات النمو (سن الثامنة عشرة) ولذا فهو يقرر أننا نقضي ربع العمر في النمو وثلاثة أرباعه في عملية الشيخوخة.

ويؤكد اتشلي أن العمر الزمني قد لا يكون العامل الوحيد في عملية الشيخوخة، فالبالغون الذين يتصرفون. بعناد وسوء توافق سوف يعانون من الضعف الجسماني المرتبط في أذهاننا بكبر السن بغض النظر عن عمرهم، فخبرات السنوات المبكرة من العمر بالإضافة إلى الأوضاع الحياتية الآنية يشكلان السلوك في سنوات العمر الأخيرة، إذ لا توجد ظاهرة تسمى "شخصية المسن" بل على العكس كلما كبر الفرد، فإنه يميل للحفاظ على شخصيته الملازمة له منذ النضج، ولذا فسوف يبرز السؤال: بما أنه لا يمكن تفادي الشيخوخة كمرحلة طبيعية من الحياة، فما هي السبل لأن نحياها في صحة وسعادة؟

علم الشيخوخة وطب المسنين

شغلت المعرفة العلمية بموضوع الشيخوخة فكر الإنسان منذ القدم، إلا أنها لم تصبح موضوعا للدراسة والبحث المقنن إلا حديثا.

وقديما جدا كانت الشيخوخة ينظر إليها كشر أو كمرض في (ألف ليلة وليلة مثلا) وحتى عصور النهضة الأوروبية الأولى ظلت تعتبر مرضا نتيجة فقدان الحرارة، وكان يتم تشجيع كبار السن على الغطس في نافورة الشباب حتى يعودوا شبابا مرة أخرى، وقام العديد منهم بمحاولات للبحث عن تلك النافورة. كما كان ينصح بتناول بعض المشروبات مثل الماء الساخن والماء البارد والخمور ظنا أنها وسائل تسهم في علاج الشيخوخة. ومع بدايات القرن الحالي أصبح للشيخوخة علماء يتمثل هدفهم في إطالة العمر وتحسين نوعية الحياة عند المسن. وحسب المنهج المتبع في علم الشيخوخة بجامعة بنسلفانيا مثلا: فهو علم يشمل تكامل العديد من فروع العلم حيث تصبح مزيجا مركبا من مجالات الدراسة النظرية والعملية في الخدمة الاجتماعية والطبية، التي تلاحظ تأثير تقدم السن على مناعة الجسم ضد الأمراض، وعلم النفس والأعصاب الذي يبحث تغيرات السن في إطار تناسق الجهاز العصبي الحركي، ولدى أخصائيي المعالجة التأهيلية الذين يبحثون وراء إيجاد سبل لإعادة تدريب كبار السن. وعلماء الاجتماع الذين يبحثون كيفية تأثير الشيخوخة على الدور الاجتماعي.. إلخ. إنها باختصار الدراسة العلمية الشاملة لعمليات وظواهر الشيخوخة.

العوامل المؤثرة على صحة المسن

أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الصحة ليست الخلو من الأمراض ولكنها حالة شاملة من الكفاية البدنية والنفسية والاجتماعية، ولذا يبرز السؤال: كم يبلغ عدد من نعتبرهم أصحاء بين البشر بناء على هذا المفهوم؟ وعلى وجه الخصوص كيف تتفاعل تلك المعادلة (النفس والبدن والوضع الاجتماعي) بين من نعتبرهم مسنين؟

العوامل البدنية:

إنها العوامل التي تتمثل في ضعف الوظائف الجسدية نتيجة الشيخوخة إلا أنه من غير المعروف متى تبدأ هذه العوامل في الظهور وإلى أي مدى تكون مؤثرة، ويرى بعض العلماء أنه بعد الستين مثلا يبدأ الإنسان في الإحساس بضعف قدراته الجسدية ولكن البعض الآخر يعارض هذا المفهوم من زاوية أن كل فرد له قدراته الجسدية المختلفة كما يتفاعل بصورة خاصه مع البيئة المحيطة، لذا من المحتمل أن يتمتع فرد في الثمانين من عمره بقوة وقدرة فرد فى الأربعين، خاصة إذا كان الأخير يعاني من مؤشرات الشيخوخة المبكرة مثل: سوء التغذية أو الإفراط في الطعام والتدخين والشراب مع سوء استخدام العقاقير والتعرض للحوادث والإجهاد العصبي.

هذا المفهوم يجعلنا نرى المشاكل الصحية عند كبار السن كنتائج حتمية لتقدم السن كما أن هناك مشاكل صحية أخرى ليست لها الحتمية نفسها، ويؤكد هذا المفهوم أن تقليل سرعة تقدم الشيخوخة يعتمد على عاملين هما: المحافظة على اللياقة البدنية وممارسة الرياضة الخفيفة كالمشي، بالإضافة إلى أساليب التغذية الجيدة المتوازنة.

وقد وجد أطباء المسنين أن التلفيات الجسمانية التي تصاحب الشيخوخة أو تسبب الشيخوخة تنحصر في أن الجلد يصبح أكثر جفافا وخشونة وتزيد التجاعيد، ويتحول الشعر إلى اللون الرمادي، وتبدأ الأسنان في السقوط، ويضمر الفك والعضلات والعظام، وربما يصبح العقل أكثر خمولا، وتبدو مظاهر ضعف عام تؤثر على السمع والبصر وحاسة الشم والجهازين الدوري والتنفسي والهضم، ويعود ذلك للتغيرات الباثولوجية الآتية: - زيادة في الأنسجة التوصيلية فقدان تدريجي لمرونة الأنسجة الضامة، اختفاء العناصر الخلوية من الجهاز العصبى، زيادة كمية الدهون وانخفاض عدد الخلايا الطبيعية، نقص الاستفادة من الأكسجين، ونقص كمية الدم الذي يضخه القلب في أوضاع الراحة.

ضعف القوة العضلية، نقص إفراز الهرمونات الكظرية والجنسية.

العوامل النفسية (قلوب جديدة - لمدن قديمة):

تلعب تجربة الحياة دورا كبيرا في تشكيل شخصية الفرد، فلا يشترك اثنان في تجربة واحدة، لذا فتجربة الشيخوخة أمر صعب عند بعض الناس أكثر من غيرهم، وأسلوب الفرد يعتمد إلى حد كبير على تركيب شخصيته واحتياجاته وأساليبه الدفاعية وقدراته على التكيف، وهناك بعض الحالات النفسية التي تبدو ناتجة عن عملية الشيخوخة (مع صعوبة التمييز بين الحالات الملازمة للشيخوخة وتلك الناتجة عنها) فقد يصاب المسن بضعف الذاكرة بالنسبة للأحداث الجارية كهروب من آلام الحاضر مع قوة تذكر للماضى خاصة فترات النجاح، الاتجاه إلى العناد كنوع من التعويض، الاكتئاب البسيط نتيجة العزلة والوحدة، الانطواء وفرط الحساسية مع بروز النزعات التشكيكية والاضطهادية، والقلق نتيجة وفاة الأقارب ورفاق العمر.

وتبرز المشاكل العاطفية ذات المنشأ النفسي وتسمى اضطرابات وظيفية كالقلق والمخاوف والوساوس القهرية، ويحدث اضطراب في الشخصية قد يؤدي إلى فصام عقلي يتمثل في ضعف الاتصال بالواقع.

وستظل برغم ذلك الاضطرابات العضوية المتصلة بالجسم والتي تسمى (متلازمة المخ العضوية) التي تصيب نسبة كبيرة من المسنين في دور الإيواء، وأكثرها شيوعا ما يعرف بداء "الزهايمر" الذي يسبب تلف نسبة تصل إلى 70% من خلايا عصب المخ.

عوامل اجتماعية

العديد من الصعوبات النفسية التي تواجه المسن، قد تكون ناتجة عن مواقف المجتمع تجاه الشيخوخة، فكل فرد يتمنى أن يطول عمره لكنه لا يحب أن يصبح كهلا، والشيخوخة الناجحة تعتمد على الاحتفاظ بقدر مناسب من التكيف في أداء الأدوار الاجتماعية، والعوامل التي تساهم في إطالة العمر تتمثل في الروابط الأسرية الوثيقة واستمرارية الحياة الروتينية اليومية، وعادات العمل والحالة الاقتصادية الجيدة، ونمط الحياة السهل والمنظم الخالي من الضغوط، وتبرز المتغيرات التى تؤثر على صحة المسن في تغير دوره الاجتماعي وأسلوب حياته. وستظل المسارات الحريرية الطويلة التي يمضي فيها المسن نحو المنبع المشرق، ترتبط بقدرته على التكيف في مواجهة الإحالة للمعاش بعد العمل طوال الوقت، وتخلي المرأة عن إدارة منزلها أو فقدان الحياة الأسرية المستقلة مع عدم الاهتمام بالمستقبل وتقبل المسن لحالة الإعالة المادية والمعنوية، الاشتراك في عضوية دار المسنين.

إنها الرحلة الطويلة الشاقة نحو المنبع، حيث الشمس والحرير، فهل نجعلها من أجلهم مشرقة ومنتجة؟

لعل طب المسنين يحيل تمنياتنا إلى واقع.

 

علاء غنام







طب المسنين طريق من حرير





ثلاثة أربع عمر الإنسان يقضيها في الشيخوخة. فلم لا يهتم بها الإنسان؟





معا على الطريق الطويل والصحبة تهون المشقة





أن يجد الإنسان ما يفعله هذا هو أهم مظاهر مقاومة الشيخوخة