تايلاند: الانطلاق من أسر المعبدالذهبي محمد المنسي قنديل تصوير: طالب الحسيني

تايلاند: الانطلاق من أسر المعبدالذهبي

" مدينة الملائكة . المستودع السامي لمجوهرات الآلهة. الأرض العظيمة التي لا تقهر. العلامة الواضحة على مر العصور للعاصمة الملكية التي تحوي الأحجار التسعة المقدسة والأنهار التسعة التي لا تكف عن الجريان. موطن القصر الملكي ، والمهد الذي تتناسخ فيه الأرواح ".

كل هذا اسم واحد لمدينة واحدة ، قالت عنها موسوعة "جينس " للأرقام القياسية إن هذا هو أطول اسم لمدينة في العالم. إنها "بانكوك" عاصمة تايلاند.

مدينة الأقنعة الكثيرة التي لا تنكشف بسهولة أمام أي غريب. ضفيرة مجدولة من التقاليد الآسيوية القديمة والنمط الغربي الصاخب. الحكمه البوذية والابتذال الجنسي الغريب. الزهد الفائق والغنى الفاحش. إنها المفتاح لواحدة من أقدم ممالك العالم . تغيرت فيها الأسماء وأشكال المدن كأنها تستمد ذلك من، أرواحها المتناسخة الكثيرة.


مكان أخير بجوار المحيط

ذات مرة كان هناك أناس لا يحبون الحرب، ولكن "قبلاي خان" إمبراطور الصين العظيم الذى كان يحلم بفتح العالم لم يكن يحب هذا النوع المسالم من البشر، لذلك فقد أجلاهم عن أرضهم. اضطروا للرحيل، ولكن في كل مكان كانت القبائل تناوشهم وتتحرش بهم. كان العالم متوحشا في تلك الأيام - وما يزال- لدرجة أ نهم رفضوا الحرية لأناس يميلون إلى السلام؟ لذا فقد واصلوا الرحيل جنوبا.. جنوبا حتى لم يكن أمامهم مكان يذهبون إليه إلا جوف البحر . حطوا رحالهم على الشواطئ الجنوبية وصنعوا حضارتهم الخاصة وتراثهم الشخصي. تعرضوا لأكثر من غزوة، وأكثر من عملية إبادة. ولدهشتهم استطاعوا الصمود حتى مشارف زماننا ، بل إنهم كانوا الوحيدين تقريبا الذين لم يتعرضوا للاحتلال الأوربي في الوقت الذي سقطت فيه كل الدول التي تحيط بهم تحت وطأة هذا الاستعمار. لقد نجوا من كل الفخاخ ، واستفادوا من أشد الفرص ضآلة ، وحافظوا بدأب مدهش على سلامهم الداخلي ، وببطء شديد نمت لهم أنياب صغيرة وتحولوا إلى نمر صغير .

هل يمكن أن نلخص تاريخ تايلاند في هذه الصورة المجتزأة ، وهل استطاع هذا الشعب أن يحافظ على صفاته المسالمة وأن يبقي أسطورته الذاتية طوال هذه المدة. يقول لي البروفيسور راجابرويت أستاذ التاريخ في جامعة سولانج كورن إجابة عن هذا السؤال : " إنها أسطورة نبرر بها هذه الهزائم الكثيرة التي تعرضنا لها، رغم أن هذا لا يمنع أننا كنا دائما نحارب ببسالة ولكننا كنا في الوقت نفسه نؤثر مبدأ السلامة. خذ مثلا لذلك أثناء الحرب العالمية الثانية ، ماذا كان يجدينا من معاداة اليابان وهي تمثل تلك القوة الضاربة والعدوانية في آسيا. لقد اضطررنا لمجاراتها، وكان وجودها العسكري في البلاد بشكل رمزي ، بل إنهم صنعوا لنا ذلك القطار المعلق الذي ينتقل وسط جبال تايلاند. لقد أخذنا غنائمنا من الحرب بطريقتنا الخاصة. إن لهم أيضا طريقتهم في التنفس عن العنف والعدوانية التي لا بد أنهم يشعرون بها في أعماقهم خلف انحناءاتهم المهذبة . بدا ذلك واضحا عندما ذهبت أنا وزميلي المصور لمشاهدة الرياضة التايلاندية المفضلة ، رياضة الملاكمة ، ملاكمة خاصة بالغة العنف والشراسة يستخدم فيها كل شيء ، اللكمات بالأيدي ، والركلات بالأرجل ، لا توجد منطقة محرمة في الجسم ، اضرب في كل مكان على أن تصيب خصمك بالعجز . لم تدهشني شراسة الملاكمين المحترفين بقدر ما أدهشني مراقبتي للجمهور. كانوا يتابعون المباراة وهم يجأرون مثل الحيوانات الجائعة ، تنبعث منهم صيحات الإعجاب مع كل ضربة عنيفة. يخرجون نقودهم ويتراهنون على من سيسقط أولا ، وكلما ارتفعت درجة العنف ارتفعت درجة نشوتهم . كان من الصعب علي أن أقارنهم بالناس الوديعين الذين أشاهدهم في شوارع المدينة.

ولكن .. دعنا لا نبتعد كثيرا عن تاريخ هذا البلد الذي يبدو مهملا رغم أهميته الاقتصادية ، إنه نمر ينمو في صمت ، وسوف نفاجأ بزئيره ذات يوم.

تايلاند بلد استوائي يقع على المسافة نفسها بين الهند والصين ، لذا يتعادل تأثير هاتين الثقافتين عليه ، مساحتها تقارب مساحة فرنسا ، تمتد حدودها مع لاوس في الشمال وبورما في الغرب وكمبوديا في الشرق تشبه على الخريطة رأس فيل له خرطوم قصير ملتو . أرض خصبة ، حضارتها قامت على الأرز، وأحمالها نشأت على ظهور الأفيال . يبلغ تعدادهم 95 مليونا . خليط من الجنسيات الصينية والملاوية والبورمية والكمبودية .

لقد سميت بأكثر من تسمية، على المستوى الرسمي كانت تسمى بدولة "سيام" حتى عام 1935. ويعرفها الناس بأرضية الابتسام. ويقول عنها الرحاله إنها أشد بلاد أسيا غرابة، ظهرت إلى الوجود في القرن الثالث عشر عندما صعد نجم مملكة سوخوثاي.

وبدأت رحلة الملكية فيها فأدارتها بيد حنون وحازمة، وكان الملك يعرف دائما بأنه سيد الحياة. الهزات السياسية التي تعرضت لها كانت قليلة إلى حد ما. لم تؤرقها أفكار الجمهورية أو الشيوعية التي أقلقت جيرانها ولم تغرق في بحار الحرب الأهلية. وعندما ثار الجنرالات على الملك راما الثامن تخلى لهم عن سلطاته السياسية عام 1932 وبقي ملكا لا يحكم ولكنه يملك كل القدسية التي تبقيه رمزا دائما بعيدا عن صغائر السياسة. لم تأخذ تايلاند من الحضارة الأوروبية الاستعمار، ولكنها أخذت أفضل ما فيها. ولعلنا نذكر المسرحية الشهيرة "أنا وملك سيام" عن تلك المدرسة الغربية التي جاءت تعلم أولاد الملك. هذا هو المعنى الرمزي .لقد أخذوا من أوروبا نور العلم وابتعدوا عن نيران الاحتلال.


رهبان.. وبائعات هوى

في بانكوك صنفان من البشر لا تخطئهما عين ، رهبان بوذا وبائعات الهوى ، علامتان بارزتان ومتناقضتان في هذه المدينة المتناقضة. يقدم الصنفان نفسيهما بنفس القاليد الآسيوية التي تتفانى في عمل الشيء مهما كان قدره.

رهبان تايلاند في كل مكان ، مختلفون في الأعمال ومتشابهون في أرديتهم الأرجوانية التي تلتف على أجسادهم العارية ، يضمون أيديهم وينحنون في تواضع. هناك نوعان من الرهبان ، رهبان دائمون وآخرون مؤقتون ، وهذا النوع يشمل كل الناس في تايلاند تقريبا ، فيجب على كل رجل أن يصبح راهبا ولو لمرة واحدة في العمر قبل الزواج ولمدة ثلاثة شهور على الأقل ، وعليه أن يعيش داخل المعبدوأن يقتات على التسول من الآخرين . وهكذا ينهضون كل يوم مع الفجر كي يتلقوا هبات الناس ، وإذا لم يعطهم أحد شيئا ظلوا جائعين حتى اليوم التالي .

وبوذا - أي المستنير - عاش منذ حوالي 500 عام قبل الميلاد ومازالت تعاليمه سارية حتى الآن وسط أكبر كتلة من التجمعات السكانية في آسيا . إن البوذية لا تعتمد على إله مطلق القوة بقدر ما ترفع البشري الذي تسامى بنفسه إلى مرتبة الإله. يتجمع رهبانه أمام المعبد الذهبي في وسط العاصمة بانكوك . يقفون في صمت وتبتل وهم يمسكون أكياسا طويلة من القماش يتطلعون أن تعطيهم شيئا دون أن يطلبوا ذلك أبدا . نخاف من شدة الجوع لأن هذا الجوع هو طريقهم إلى الألم . لكن تماثيل بوذا التي كانت متناثرة في كل مكان لا توحي بهذا الجوع . كان يبدو شخصيا سمينا بعض الشيء ، هادئ الملامح ، تبدو عليه سكينة الشبع وليس شظف المسغبة . لا يبدو هذا الزهد في تكوينه الجسماني، ولا يبدو أيضا في معابده الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة خاصة ذلك المعبد الفخم الرائع الجمال .

معبد الفجر هو أقدم وأكبر معبدفي بانكوك ، أنشئ مع المدينة في القرن السابع عشر ، مغلف بالذهب، تحوطه التماثيل التي تمثل آلهة الشر التي تحرسه. كلها ضخمة شرسة الملامح بارزة الأنياب ، يبدو وسطها تمثال بوذا الزمردي صغيرا نسبيا ، ويتكون المعبدمن عدة مبان، واحد لإقامة الرهبان، وآخر للتعاليم وللعلاج بالطرق التقليدية القديمة وأهمها التدليك بالأعشاب (في شوارع بانكوك هناك تدليك عن نوع آخر)، أما في المنتصف فيوجد المعبد الرئيسي حيث يتجه الجميع كي يجلسوا في حضرة تمثال بوذا الزمردي الصغير.

كنا في الصيف، وكان التمثال عاريا إلا عن غلالة رقيقة تغطي إحدى الكتفين وتترك الأخرى عارية في الشتاء يرتدي بوذا ثيابا أكثر دفئا وثراء، ويظل يغير في ثيابه مع توالي الفصول. تعود جذور التمثال الأولى إلى "أيوتيا" العاصمة القديمة عندما اكتشفت قطعة الزمرد راقدة في عروق الأرض. كان فيها نوع من الإشعاع جعل الفنان يكرس فنه من أجل تحويلها لهذا التمثال الذي أحيط بعد ذلك بمهالة كبيرة من القدسية. وعندما هجمت جيوش بورما على المدينة وأحرقتها في القرن السادس عشر استولت أيضا على التمثال ونقلته إلى بورما. ورغم أنهم كانوا أيضا يدينون بالبوذية إلا أن زمردة بوذا رفضت البقاء بينهم وعادت بقوتها الذاتية إلى تايلاند، إلى المكان الذي يوجد فيه المعبد الذهبي الآن.


مقابلة مع الراهب الأكبر

ولكن هل يمكن أن نرى العالم الداخلي للمعبد، أن نرى هؤلاء الرهبان الذين وهبوا حياتهم من أجل العقيدة وأن نعرف كيف يفكرون؟.

كنا نقف مترددين كل أبوأب، المعبد الداخلي، لم يمنعنا أحد عندما توغلنا، كان الرهبان الذين يقابلوننا يضمون أيديهم وينحنون في صمت ، كأنهم يشجعوننا على مواصله الدخول. أروقة المعبد المعتمة تأخذنا في أعماقها وغلالات البخور تكون في الهواء كلمات غامضة. إنه المنزل الذى تهجع فيه الأرواح، وعلى كل أسرة أن تصنع نموذجا من هذا المعبد كي تسكن فيه أرواح المنزل الهائمة، وكان الراهب الأكبر يجلس أمامنا، صامتا وناحلا، لا أدعية ترتفع ولا تراتيل تسمع . هناك امتزاج تام بصمت الأبدية اللانهائي. والراهب الأكبر يضع أمامه رموز البوذية الثلاثة؟ الشموع وزهور اللوتس وأعواد البخور. ترمز الشموع لنور العقل والمعرفة ، واللوتس هي زهرة الرفعة والتسامي، أما أعواد البخور الثلاثة فترمز لأعمدة الحكمة البوذية. جلسنا أمامه صامتين خائفين من أن نخدش هذا الصمت المهيب، رفع رأسه أخيرا ونظر إلينا كأنه يرانا من خلال حياة أخرى وقال: "ربما لا يفهم أحد البوذية على حقيقتها، ولكن يمكن تلخيصها في حقيقه واحدة هي الألم.. الألم هو الطريق إلى النيرفانا..".

لقد نشأت البوذية في الهند ، وانقسمت إلى قسمين، الأول هو المدرسة الشمالية التي رحلت عن شمال الهند إلى الصين وكمبوديا ولاوس وفيتنام واليابان وتسمى "ماهيايان" أو العجلة الكبرى وهي أقرب في تصوراتها للمفهوم الغربي عن السماء والثواب والعقاب. والثاني هو المدرسة الجنوبية التي رحلت إلى تايلاند وسنغافورة وسير لانكا. وتسمى "النيرفانا" أو العجله الصغرى. كان صوت الراهب الأكبر يحول الصمت إلى كلمات متصلة "الألم هو طريق الخلاص للروح، وسبب الألم هو الرغبة، والخلاص من الألم هو استئصال هذه الرغبة.. ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا باتباع الطرق النبيلة الثمانية لبوذا وهي: الفهم الصحيح؟ الانتباه الصحيح، الكلام الصحيح ، الفعل الصحيح، أسلوب الحياة الصحيح ، الجهد الصحيح، التركيز الصحيح، إعمال العقل الصحيح..".

ولكن ما هو الجزاء، هل توجد الجنة والنار وهل يوجد الثواب والعقاب؟.
يوجد الألم، الطريق الوحيد لدخول الدورة الطويلة للموت وإعادة الميلاد. إن كل واحد يطمح أن يعش حياة أخرى أفضل وأجمل. بوذا نفسه عاش أكثر من حياة ، كان ملكا ذات مرة، ثم أصبح لصا، ومرة كان طائرا ثم أصبح زهرة، إن الكون يتجدد داخل الروح الواحدة التي لا تفنى، في كل مرة يؤهلها الألم من أجل بعث جديد، إلى سمو أخر وحياة أرقى.

غادرنا المعبد، كان الكون على وشك الإظلام، وبدت أمامنا أبراج القصر الملكي الأرجوانية ترتفع منها أشكال الثعابين المذهبة التي تحرسها. من هنا يحكم الملك بوهيمبول دول أوج أو راما التاسع، واحد من أقدم ملوك آسيا، تولى الحكم منذ 46 عاما. ووجود القصر الملكي والمعبد الذهبي في مكان واحد ليس مجرد مصادفة جغرافية، ولكنه رمز للتداخل بين السلطة الأرضية والسلطة المطلقة، فالملك هو سليل بوذا؟ وهو الذي تتجسد فيه روحه أو أحد أرواحه المتعددة. ورغم أن الملك قد فقد سلطاته السياسية فما زال يمتلك سلطته الروحية المطلقة.


نفس الأغنية الحزينة

وتقودنا بانكوك رغما عنا إلى الصنف الآخر من البشر، بائعات الهوى، أجل رغما عنا لأن الاتجار في الجنس هنا يطارد الغريب في أي مكان يحل فيه. ما أن تهبط من المطار حتى تجد عشرات المجلات والمطبوعات التي تحدد لك أماكن منازل المتعة.

بيوت النساء تجارة رائجة في شوارع المدينة الخلفية، وهي مأساة بشرية أيضا، تجارة الرقيق الأبيض ما زالت تواصل عملها بنشاط على مشارف نهاية القرن العشرين. قال لي برداد شيراياني من حزب العدالة: " إنتا ندرك أنها قدر تحولت إلى تجارة بشعه شيء إلى سمعتنا في الخارج. إنهم يعدون النساء بالثراء ثم يحولوهن إلى رقيق، الدولة تحاول التدخل ولكن المستفيدين من وهذه التجارة يصرحون: إن هذا سوف يقضي على السياحة، إنهم يحولون السياح إلى وحوش ويحولون نساءنا إلى فرائس.".

في هذه البيوت تتجمع عشرات البنات الصغيرات في السن الجميلات في المظهر. كل واحدة منهن تمثل مأساة حية ، نفس القصة الحزينة المكررة. إن تجار الرقيق الأبيض يهبطون إلى القرى النائية وسط الجبال والجزر المنعزلة. يبحثون عن البنات الصغيرات، أكثرهن جمالا وفقرا. ويذهب التاجر إلى أهل الفتاة التي يقع عليهما اختياره يساومهم على شرائها. أجل، بيع البشر وشراؤهم أمر عادي جدا. وفتاة في مثل هذا العمر يصل ثمنها إلى حوالى ألف دولار أو ألف وخمسمائة إذا كانت بالغة الجمال أو كان أبوها بارعا في المساومة؟ ثم يأخذها معه إلى أحد بيوت العاصمة ، مستسلمة تماما وهي تحلم بكتل أحلام الثراء، ويتم تعليمها ممارسة الحياة الحديثة التي أعدت لها. والأجر الذي يدفعه الزبون يقسم إلى عدة أقسام. الجزء الأكبر تأخذه السيدة صاحبة المنزل لأن معظم هذه المنازل تديرها النساء . وجزء آخر يأخذه سائق التاكسي الذي اصطاد الزبون من الشارع أو الفندق . وجزء تسد به الفتاة دين أبيها الفادح وفي النهاية يبقى لها مبلغ غاية في الضآلة. وعليها أن تدور في نفس هذه العجلة كل ليلة ، ولأن العائد ضئيل فهي لا تكف عن العمل في هذه السن المبكرة ، وعندما تصل إلى الخامسة والعشرين تكون قد استهلكت تماما ، وإذا كانت قد سددت دين أبيها يلقى بها في الطريق بلا شفقة ولا عزاء.


جميلة ليلا .. ملعونة نهارا

وبانكوك في النهار تختلف عنها في الليل ، إن الضوء يكشف عن وجهها التجاري الصارم وعن الأبراج الخرسانية التي تحتلها عشرات المتاجر والمؤسسات. الطابع الغربي الذي أضاع ملامحها الآسيوية وجعل عمارتها التقليدية تنزوي في حارات الأحياء القديمة. إن سنوات التقدم الاقتصادي تبدو واضحة فوق قسمات المدينة ، وإن لم تكن بنفس الوضوح لحياة الناس. فمنذ عشر سنوات وتايلاند من ضمن النمور الآسيوية الخمسة التي تحقق تقدما اقتصاديا يبلغ 8 % وهو معدل كبير بالنسبة لبلد نام. ورغم أنها في الأساس بلد زراعي فقد اقتحمت الكثير من الصناعات بل وتخصصت في صناعة أشباه الموصلات الإلكترونية وهي صناعة مهمة ، اليابان نفسها تعتمد على استيرادها من تايلاند.

كانت أول ملاحظة في الشوارع هي ذلك الزحام الرهيب في الطرقات ، فالمسافة من المطار إلى قلب المدينة لم تكن تتجاوز الثمانية كيلو مترات ، ومع ذلك فقد قطعتها السيارة في ساعتين كاملتين. وكما يقولون فإن كل الطرق تؤدي إلى بانكوك ثم توقفها حركات المرور. قابلت الشاعر الأمريكي وليم كلوستر الذي يعمل مندوبا لمؤسسة فورد في تايلاند وأراني ديوانه الشعري الجديد كان إهداؤه إلى " زحام المرور في بانكوك هو الذي ألهمني كل هذه القصائد ".

في شوارع بانكوك تسير حوالي 2.3 مليون سيارة ودراجة بخارية . وفي كل يوم تضاف ألف مركبة جديدة . لقد أصبح هواء المدينة ملوثا إلى حد كبير حتى أن ضباط المرور يلبسون أقنعة الجراحة ، ومع ذلك فإن 40 % منهم مصابون بأمراض تنفسية . وتناقص السرعة في أوقات الذروة حتى تبلغ 5 كيلو مترات في الساعة . وقد أخبرني سيماف يكران وهو أحد الأطباء أنه يستيقظ هو وأولاده وزوجته عند مطلع الفجر ويهبطون إلى الطريق حيث يغيرون ملابسهم ويتناولون طعامهم وهم داخل السيارة حتى يستطيع الأطفال اللحاق بالمدارس في الموعد المحدد . رجال الأعمال وضعوا في سياراتهم الفخمة أجهزة تليفون إضافية وماكينات الفاكس وأجهزة التكيف القوية حتى يستطيعوا تسير أعمالهم وسط زحمة المرور . الكثير من سيارات الأجرة تضع تلفزيونا يتسلى به الزبائن ولا يتركون السيارات ليسيروا على أقدامهم.

إنها مشكلة مهمة وخطيرة تضعها الأحزاب على قائمة اهتماماتها ، ولا أحد يدري كيف يمكن أن تحل، إنها في حاجة إلى مشاريع جديدة سوف تتكلف 15 بليون دولار لإنشاء طرق علوية ، ولكن سرعة تزايد السيارات أكبر بكثير من بناء الطرق.

والصخب على الأرصفة لا يقل عن صخب الطريق ، فهي تزدحم بالباعة الذين يبيعون الأشياء المقلدة. جميع ماركات الساعات العالمية الفخمة ، الروائح ، المجوهرات ، الحقائب الجلدية ، الثياب، يضعون أمامك كل هذه الأشياء بأسعار رخيصة لدرجة تثير الريبة ولكن عليك أولا أن تجيد لعبة المساومة التي يبدو أن أهل المدينة يستمتعون بها كثيرا، كما أن عليك أن تحذر من اللصوص ، فالمرة الأولى التي نشلت فيها كل نقودي كانت على هذه الأرصفة.

ولكن شريان التجارة الأكثر غرابة هو تلك الأنهار والقنوات التي تخترق المدينة، إنها تجارة القوارب، عشرات من القوارب الرخيصة المدببة تمرق حاملة كل شيء ، الفاكهة والثياب والبضائع ، بل إن بعضها يقدم وجبات ساخنة للمتسكعين على حافة النهر ويتم الطهي في القارب نفسه . مزيج من قطع السمك والخضراوات والأعشاب والتوابل ، وإذا كنت بارعا تستطيع أن تلتقط كل هذا بواسطة العصي.

لقد أصبحت بانكوك عاصمة البلاد في عام 1782 بعد أن دمرت أيوتبا على يد جيش بورما. لم تكن بانكوك في هذا الوقت أكثر من محطة للتجار الصينيين، تطل على تفرعات نهر شابوفارا المتعددة وأراد حكامها أن يعيدوا إليها مجد العاصمة القديمة. وهكذا تحولت المدينة ذات القنوات وامتلأت بالقصور والمعابد وأطلق عليها الرحالة " فينيسيا الشرق " لقد ردمت معظم هذه القنوات الآن وتحولت إلى طرق للسيارات السريعة ، ولكن حركة القوارب في بقية شرايين المدينة لا تهدأ حتى بعد أن تحولت إلى مدينة عصرية .

مثل أي مدينة كبيرة تجمع بانكوك خليطا من كل جنسيات العالم وتجمع أيضا كل متناقضاتهم. وفي قلبها تماما يوجد ما يمكن أن نطلق عليه الحي العربي. تسير في الشوارع فلا تسمع إلا أغاني أم كلثوم والأغاني الخليجية. كل اللافتات ناطقة بالعربية ، التجار الصينيون أيضا يحاورنك ويساومونك بكلمات عربية متكسرة . طبيب يعلن في لافتة عريضة أنه خريج من مصر ليؤكد حسن أدائه .. تنبعث من المطاعم رائحة الشواء والفول والطعمية .. سائقو التاكسي يعرضون تغيير العملة والاتصال بالأهل. سواح مؤقتون ، وعمال مقيمون دفعهم الشظف في أوطانهم العربية للاستقرار هنا . يبدو الحي خاليا في النهار ، ولكنه يشتعل بالحركة طوال الليل وتظل أبواب المحلات مفتوحة حتى ساعات الصباح الأولى ، فالعرب هنا لا يجيدون سوى سياحة الليل .. وهذه مشكلة أخرى.


سياحة تحت الشمس

هناك وجه آخر من وجوه السياحة لا يعرفه أغلب المواطنين العرب الذي زاروا تايلاند هو سياحة النهار.

لقد استطاعت تايلاند أن تحول السياحة إلى صناعة. استغلت في ذلك كل مفردات البيئة والطبيعة الخاصة الذي ينفرد بها هذا البلد. فهي لم تكتف باستغلال الآثار القديمة والمعابد الغربية الموجودة لديها. ولم تكتف بشواطئها الرملية وجزرها الاستوائية ولكنها أضافت لمسة الابتكار الإنساني إلى كل هذا..

الأفكار السياحية لم تقم بها الدولة ولكن قام بها الأفراد كنوع من الاستثمار الطويل المدى. ولعل أهم هذه الأفكار هو " المدينة القديمة ".. إنها محاولة لإعادة وتجسيد كل الدورات الحضارية التي شهدتها تايلاند. ملخص لكل معالم المدن والأماكن التذكارية تجمعت كلها في مكان واحد . أقيمت المدينة على مساحة عشرين فدانا تتخللها البحيرات والغابات . تدخل من البوابة الرئيسة فينقلك المكان عبر الزمان إلى عصور سحيقة . تدخل شوارع المدن القديمة وأسواقها . ترى حوانيها وتزور معابدها ، تحيط بك تماثيل الآلهة والأبطال والمواقع الشهيرة . تفقد أشهر القصور والمزارات . متحف مفتوح تحت الشمس. بنيت كل النماذج التي فيه بدقة متناهية وأخذت نفس الأوضاع الجغرافية للأصل وتبارت فيها أيدي كل الفنانين المعاصرين لإحياء ذلك الزخم الهائل من التراث .

هناك أيضا " مزرعة التماسيح ".. واحدة من أكبر المزارع في العالم تحتوي على عشرات الأنواع من تلك المخلوقات الشرسة ذات الجلد الثمين . في المزرعة توجد عشرات الأنواع النادرة التي انقرضت . ولا يتم الاستفادة من جلود هذه التماسيح في المصنوعات الجلدية. ولكن تقدم عروض حية وخطرة يقوم بها لاعب مفرد في مواجهة عدة تماسيح من الواضح أنه أحسن ترويضها لأنه يستطيع أن يضع رأسه في ثقة بين أنيابها دون أن تلتهمه.

نفس الشيء في مزرعة الثعابين حيث تتلوى "الكوبرا" على أجساد اللاعبين . وتنفث سمها الزعاف في أكواب زجاجية أمام أعين الجمهور. وفي مزرعة الأفيال يقوم البشر والأفيال بتجسيد إحدى المعارك القديمة بينهم وبن بورما عدوهم التقليدي بكل ما في الحرب القديمة من صور الإثارة . أما في مزرعة الزهور وهي أكبر هذه المزارع وتقع على ضفة نهر " تاشين" فهي تقدم عروضا واقعية تتضمن كل جوانب الحياة .. طقوس الميلاد والحب والزواج والزرع والحصاد، عروضا للملاكمة ومصارعة الديكة ، صور لجمال الفتاة التايلاندية - وهو جمال مميز كما تكشف عنه الصور المختلفة - بطقوسها الدينية وأزيائها.

أفكار سياحية لا تنتهى .. تحمل المتعة والإثارة والجمال .. ولكنها تحتاج فقط لنوع من اليقظة المبكرة والإحساس بأهمية سياحة النهار.


مخاوف النمر الصغير

ولكن تايلاند تخاف .. لها أحزانها الخاصة ومخاوفها الخاصة أيضا.. ومشكلتها أن هذه المخاوف تأتي من صميم قلبها.

شاهدت صورة هذه المخاوف والأحزان ذات صباح في شوارع بانكوك المزدحمه . أفواج النساء الباكيات وهي تسعى وسط السيارات تحاول أن تجد لها طريقا . ساد الصمت فجأة فوق المدينة الصاخبة. وبدا خلف النساء موكب آخر من الأطفال والعجائز. بعضهن كن يمسكن اللافتات والبعض الآخر يحملن عقود الياسمين. كانت وجهن تلمع من الدمع وشعورهن مبللة من ندى الصباح . بدأ بعض المارة ينضمون إليهن ، كذلك انضم إليهن الرهبان، وتوجهوا جميعا إلى مقر رئيس الوزراء.. وبدأ الصخب يعلو والصرخات تتوالى. كانوا يطرحون عليه السؤال الذي لم يجد إجابة منذ مايو 1992 وحتى الآن .. أين ذهب أولادهن وأزواجهن .. ما هو مصير أكثر من 700 مفقود لا أحد يعرف عنهم شيئا حتى الآن .

لم يكن رئيس الوزراء نفسه يملك الإجابة عن هذا السؤال ، كان هو أيضا مغلول السلطات خائفا من شراسة العسكر الذين مازالوا متربصين رغم ابتعادهم المؤقت عن الحكم.

بدأت خيوط هذه المأساة عندما قام الجيش بانقلابه الثامن والأخير حتى الآن في فبراير 1991 قام به قائد الجيش الجنرال "سوشيندا كرابرايون" فأطاح بكل الساسة وتولى هو رئاسة الوزراء مع وعود العسكر التقليدية بإعادة الديمقراطية في أقرب فرصة وحل كل المشاكل المزمنة التى عجز الساسة عن حلها. ولكنه كعادة العسكريين أيضا تحول إلى حاكم مطلق استولى على كل شيء وأعطى المناصب المهمة والامتيازات السخية لأقاربه وأصدقائه وخاصة دفعته في الأكاديمية العسكرية ، وتحول التقدم الاقتصادي الذي تحققه البلاد إلى مكاسب شخصية له.

وعندما اشتدت المعارضة لنظام الجنرال وعد بالانتخابات الديمقراطية ثم أخذ يؤجلها حتى أوشك أن يلغيها ، وبدأت أحزاب المعارضة في التجمع والتمرد على إعطائها دورا هامشيا في حكم البلاد، وارتفعت حدة الأمر عندما أعلن واحد من أشهر السياسيين في تايلاند هو "شاملونج سيرمانج" محافظ بانكوك السابق الإضراب عن الطعام حتى الموت ما لم ينفذ الجنرال وعوده بإعادة الديمقراطية.

وازداد التوتر وبدأت المظاهرات تتوالى في الشوارع. وكان رد العسكر عنيفا على المواطنين العزل ففتحوا عليهم النيران وسقط في ليلة واحدة أكثر من خمسين قتيلا وبقي أضعاف هذا العدد مفقودا حتى الآن .. ولم تهدأ حدة الاضطرابات إلا بعد أن تدخل الملك وأحضر جميع الأطراف كي تركع أمامه وتقدم اعتذاراتها.

قدم الجنرال السفاح استقالته وانسحب الجيش مؤقتا من السلطة ولكن كل القضايا الملحة لم تحل والمخاوف الداهمة لم تتبدد . ففي كل بلاد الدنيا تملك الدولة جيشا ، ولكن في تايلاند فإن الجيش هو الذى يمتلك الدولة .. وهذه هي المأساة؟

منذ عام 1932 أي منذ أن ثار الجنرالات على حكم الملك راما الثامن المطلق ونزعوا منه سلطاته الدستورية وقد استأثروا هم بالحكم . مشكلة العسكر أنهم كانوا يهوون الانقلابات ويهوون الديمقراطية في نفس الوقت. وهكذا حاولوا عبر ثمانية انقلابات أن يأتوا بقوة السلاح وأن يبقوا مستمرين في الحكم بواسطة صناديق الانتخابات ، ولما كان هذا الأمر مستحيلا فقد اقتصرت جهودهم على الوعد بالديمقراطية والنكوث عن هذه الوعود . إن الأمر كما قال لى "بارواس واس" المسؤول في حزب الإصلاح الديمقراطي :" سوف يمر عقد من الزمن قبل أن نحصل على ديمقراطية مدنية حقيقة ، فالعسكر ما زالوا أقويا .. إنهم يملكون الرجال والسلاح والأهم من ذلك يملكون المال وبالتالي يملكون قوة فرض قانونهم الخاص ".

بالإضافة لذلك فإن لدى العسكر رغبة جارفة في الحكم - مثلهم مثل بقية بلاد العالم الثالث - لقد ساهموا في إنشاء تايلاند الحديثة ويعتقدون أنها تخصهم أكثر مما تخص أي مجموعة أخرى. لذلك فإن سلطتهم مطلقة لا تسمح لأي مدني بالتدخل فيها أو مناقشتها. ميزانية الجيش الرسمية حوالي 2.7 بليون دولار ولكنها في الواقع تتجاوز هذا الرقم بكثير.

والجيش هو أكثر من آلة عسكرية لحماية البلاد. إذ إن له قوته السياسية والاقتصادية . فهو يمتلك ويشرف على العديد من المشروعات الزراعية وبناء الطرق وشركات التليفونات والطيران المدني والمناجم والبنوك الكبرى ، بل وتتبعه شبكتان تليفزيونيتان من أربع شبكات تملكها الدولة وحوالي 200 محطة إذاعية وتبلغ استثمارات الجيش في الحياة المدنية حوالي 15 بليون دولار وهو رقم بالغ الخطورة .

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد ذلك أن قوات الجيش التي تتمركز على حدود الدولة مع كل من بورما وكمبوديا ولاوس تفرض الضرائب والمكوس على كل الواردات والصادرات مع هذه البلاد . بل وتؤكد الشائعات القوية أن كبار القواد ضالعون في تهريب الأفيون والهروين من هذه البلاد التي تعرف بالمثلث الذهبي لهذه التجارة ، وعن طريقهم تتسرب هذه البضاعة الخطرة إلى بلاد الشرق الأوسط وأوربا.

السؤال في تايلاند الآن .. كيف يمكن أن نؤقلم هذا النمر الشرس؟ .. المعارضة تطالب بخطة لإبعاد الجيش عن السياسة .. ويجب أن يتم التدريس لطلاب الأكاديمية العسكرية كيف يحترمون حقوق الإنسان، وأن يغيروا من طموحاتهم في حكم البلاد إلى الدفاع عنها . كما يجب إبعاد كبار الجنرالات عن المواقع الاقتصادية التي يتحكمون فيها وتنظيف الحياة السياسية من الآثار السيئة التي تركتها سنوات حكم العسكر الطويلة .

لقد شهدت البلاد في أواخر العام الماضي أول انتخابات ديمقراطية . وقدم 200 من ضباط الجيش المتورطين استقالاتهم . وبدأت ملامح الحياة المدنية الجديدة ، ولكن مصير المفقودين ما زال غامضا . وما زال العسكر في الانتظار .. فهل يقنعون من الغنيمة بالإياب أم يعاودون الانقضاض على الحكم مرة أخرى ؟ خاصة أنهم لم يفقدوا أسلحتهم أو مصالحهم .. لا أعتقد أنهم سيقنعون .. فالعسكر ماداموا ذاقوا طعم الحكم فلا أمان لهم في أي مكان.


المسلمون .. غجر البحر

ولكي نقابل مسلمي تايلاند كان علينا أن نرحل جنوبا ، إنهم يمثلون أغلبية ضئيلة نسبيا لا تتجاوز 3% وبعضهم موجود في العاصمة بانكوك ولهم عدة مساجد ومركز إسلامي . انتشر الإسلام بينهم من شبه جزيرة الملايو ووصل أحدهم وهو الشيخ أحمد إلى أن يكون في مرتبة رئيس الوزراء في عهد إمبراطورية "ايوتبا" حوالي عام 1590 .

ولكن الأغلبية العظمى من المسلمين يكثرون بالقرب من حافة المحيط الهندي وعلى الحدود مع ماليزيا حيث تتغير الملامح قليلا وتختلف العادات والثقافات تماما.

حملتنا الطائرة إلى جزيرة "بوكيت" في خليج تايلاند. جزيرة صغيرة وإن كانت في نفس مساحة سنغافورة. يربطها بالأرض الأم جسر طويل وضيق . ولكنها جنة استوائية خالصة . تكسوها غابات أشجار المطاط والمانجو ونخيل جوز الهند وتمتد الشواطئ التي تنام عليها أمواج المحيط .

أخذنا القارب في رحلة بحرية إلى قرية المسلمين. طاف بنا وسط الممرات الضيقة والكهوف المائية ووسط الجزر التي تتكون من صخرة وحيدة منتصبة ومتفردة وخضراء. يبدو المحيط الهندي بجماله الخلاب الذي فتن كتابا كبارا أمثال سومرست موم وجراهام جرين وجوزيف كونراد . كنت أحس أنني أطأ نفس الأرض التي وطؤوها ، تناهى إلى كلماتهم وهم يحاولون فهم أسرار ذلك الشرق الغامض الغريب. كنت أنا أحاول أن أفهم نفس الشيء بطريقتي الخاصة . أمد جذوري مع هؤلاء المعزولين الذين يشتركون معي في نفس الدين .

أشار مرافقي إلى حافة الأمواج وهو يقول :" انظر ها هي قرية المسلمين .. والمسجد يبدو واضحا في أعلى الأكواخ" .. هكذا الأمر إذن . إنهم لم يختاروا قطعة من الأرض ولكنهم هبطوا إلى عرض المحيط وأقاموا قريتهم الخاصة بعيدا عن رباط يربطهم باليابسة . حدقت بعيني جيدا دون أن أصدق ما أراه. الأكواخ المتراصة، ومئذنة المسجد الخضراء تبدو كأنها تتراقص فوق أمواج المحيط. لقد جاءوا إلى هذا المكان ودقوا أعمدتهم الخشبية الضخمة ثم بسطوا فوقها مسطحا من الأخشاب كي يقيموا قرية مكونة من ألف وستمائة شخص. صيادون فقراء ولكنهم يتمتعون بنوع غريب من الجلد. اختاروا هذه البقعة من المحيط بحيث يكون خلفهم أحد الجبال النائمة فوق المياه ثم بنوا قريتهم بدأب النمل.

توقف القارب وطلب مني مرافقي أن أقفز ولكني ترددت. كنت لا أزال مذهولا خائفا من الحركة فوق هذا الطوف الكبير، ولكني رأيتهم وهم يمارسون حياتهم في بساطة آسرة. فيما بعد قال لي البروفيسور ثاواتشاي أستاذ علم الاجتماع "إن هؤلاء هم غجر البحر الذين ينتشرون في الكثير من جزر آسيا. حياتهم الوحيدة هي البحر، لا يعودن لليابسة إلا للموت فقط".

خطوت خطوة واحدة في الطرقات الخشبية ثم رفعت يدى هاتفا بكلمة الإسلام السحرية "السلام عليكم" .. وهتفوا جميعا - الرجال والنساء والأطفال - " وعليكم السلام" فزالت وحشة البحر من قلبي وخطوت خطوتي الثانية داخل طرقات القرية.

كان المدخل مليئا بالمحلات الصغيرة المتجاورة تعرض الثياب والمنتجات الشعبية ومشغولات المحار والأصداف. أخذت أتأمل كل شيء في إعجاب. وأتأمل وجوه الرجال التي تحدق في وترد تحيتي. يا إلهي. كم يتشابه المسلمين في كل مكان. كم تبدو عليهم من علامات الفقر والمعاناة والرضى بما هو كائن.. جلست وسطهم .. أخذوا يتحدثون عن البحر. لم أكن أفهم كلماتهم. وكان المترجم يبذل أقصى ما في جهده. ولكنني كنت أعرف طرف المعاناة الأساسية. إنه البحر ، في النوم واليقظة ، إنها العواصف حين تمتزج مع ضحكات الأطفال ومع استغاثات الموتي.

ذهبنا إلى مدرسة القرية. الفصول صغيرة والفناء واسع. أخشابه متآكلة مليئة بالثوب الواسعة. يبدو تحتها المحيط فاغرا فاه. سألت ناظرة المدرسة : كيف يمكن أن تأمنوا على الأطفال وهم يلعبون بين كل هذه الثقوب المغرقة ؟ ابتسمت في ثقة وهي تقول " لقد تعودوا على ذلك " ولكنها ثقة باردة كبرودة مياه البحر خاصة وأسماك القرش لا تكف عن الطواف وسط الأعمدة تحت القرية كأنها تنتظر سقوط فريسة في أي لحظة .. كان الأطفال يغنون .. رأيناهم وهم مجتمعون في أحد الفصول الواسعة ، يقيمون حفلة مدرسية متواضعة المستوى ولكنها حافلة بكل شقاوة الطفولة والضحكات الصافية .. ولكن ماذا عندما يعصف بهم المحيط؟


بقايا العواصف

قال لنا شيخ المسجد " ليس لنا إلا الصلاة .. فالعواصف توشك أحيانا أن تقتلعنا من جذورنا ولا يبقى معنا سوى الله ".

كل عاصف تترك آثارها المدمرة على بيوت القرية . ولكنهم ينهضون كي يعاودوا بناءها من جديد . كان شيخ المسجد صيادا عجوزا ، يجيد تلاوة القرآن بالعربية ويجيد أيضا نطق بعض المفردات . عمل بالسعودية لفترة من الزمن وقام بالحج مرتين وأكسبه هذا قدسية من نوع خاص في نظر بقية أهل القرية . قال لنا " المشكلة رغم إحساس الموت اليومي الذي نواجهه فإننا لا نستطيع الابتعاد عن رائحة المحيط . لقد عشت عدة سنوات وسط الصحراء وكن أبكي كلما شاهدت منظر الماء".


ولكن كيف تقيم الجزيرة أودها؟ صلتها الوحيدة بالعالم الخارجي هي القوارب. يعتمدون على الصي وأفواج السياح التي لا تنقطع . في مقدمة الجزيرة هناك مطعم فاخر للأسماك. يخرج ما تطلبه حيا على الفور من شباك موجودة في قاع المحيط . الماء العذب عزيز جدا. تأتي به القوارب وإذا هبت العواصف وانقطعت الطرق يمكن أن ينفد ما لديهم من مخزونه . الكهرباء بها ماكينة قديمة . تنير البيوت لفترات من الليل ولكنهم يقضون أغلب الليالي على ضوء المشاعل . ولكن أين تدفنون موتاكم ؟ أشاروا إلى مؤخرة القرية . في حضن الجبل توجد قطعة من الأرض لا تصلح سوى مقبرة مكتوب على بوابتها آية قرآنية يا أيتها النفس المطمئنة.


قال لنا طبيب العيادة الصغيرة " صدق أو لا تصدق. الأمراض قليلة جدا . المشاكل الصعبة نذهب بها إلى جزيرة بوكيت مثل الجراحات والولادات المتعسرة . أحيانا يموت المريض في الطريق . ولكن عدد القرية ثابت تقريبا .. كل موت هنا تقابله حياة جديدة ".



آخر الأساطير

تركنا القرية . وأخذنا نطوف في المحيط ، هناك جزيرة أخرى صغيرة جدا ولكنها مشهورة أيضا ، لذا يقصدها السياح ويزدحم فيها الباعة . إنها جزيرة جيمس بوند . أطلق عليها هذا الاسم بعد أن تم فيها تصوير فيلم الجاسوسية الشهير" الرجل ذو البندقية الذهبية ". ولكننا كنا نبحث عن جزيرة أخرى وجبل آخر . إنه جبل الأسطورة .. آخر الأساطير التايلاندية.

جبل " زينالو " هو مركز العالم . يقع بالضبط في منتصف الدنيا حيث تتساوى عند كل الأبعاد . جبل مهيب الشكل . يليق بمهابته الأسطورية . نصفه تحت الماء والنصف الآخر فوق الماء. تبدو جذوره الصخرية الثلاثة ضاربه في أعماق المحيط تقول الأساطير إنه حول الجبل تدور أسماك ضخمة اسمها" بلاانون" وحوش بحرية تبلغ من القوة بحيث تستطيع أن تحرك هذا الجبل . عندما تنام تهدأ الأرض . وعندما تثور تحدث الزلازل.


في الأعلى تنبسط قمة الجبل . وعلى الجوانب الأربعة توجد سبعة تلال متدرجة في الارتفاع . فوق كل تل منها توجد غرفة من غرف السماء . فوق التل الأعلى توجد أوسع هذه الغرف حيث تجلس روح بوذا وحوله الرهبان الذين أفنوا العمر في محاولة للتقرب إليه . وفي التل الثاني توجد غرفة واسعة أيضا فيها كل الرجال والنساء الذين شاهدوا بناء هذا العالم . وفوق التل الثالث توجد غرفة لكل الذين قاموا بالأعمال الجلية وأهلهم هذا لكل تقدير . وفوق التل الرابع يوجد هؤلاء الذين لم يقدموا شرا لأحد واحتفظوا بفضائلهم لأنفسهم . والتل الخامس يوجد فوقه الناس الذين كانوا ينشدون السلام الكامل للنفس وهم يمضون أوقاتهم في الموسيقى والغناء .. ولعل هذه هي إحدى مراتب الفنانين . والتل السادس للرجال والنساء الذين عملوا بجد من أجل إعمار هذا الكون دون أن يطلبوا الجزاء . أما التل السابع والأخير فهو للذين عرفوا سر ما في العالم من جمال . الذين استمتعوا بتقلب الفصول ، واختلاف الأصوات ، وتبذل الألوان. أسطورة أخرى . تجمع العالم كله في بؤرة واحدة . أسطورة تتراجع مثل غيرها من الأساطير أمام ضغوط الحياة المادية كي تحول هذه البلد الفريد في عاداته إلى نمر آخر له مطالبه واحتياجاته وعليه أن يدافع عنها حتى ولو تطلب ذلك أن يضحي بكل أساطيره القديمة .

 

محمد المنسي قنديل




صورة الغلاف



هذا الراهب الصغير يمسك كيسه في صمت لعل أحدهم يمنحه شيئا



المعبدالذهبي وسط العاصمة بانكوك حيث يوجد بداخله أهم تمثال لبوذا تحيط به التماثيل الحارسة



المعبدالذهبي من الخارج



وجه باسم من تايلاند



خريطة توضح موقع تايلاند



وجوه باسمة من مدينة الابتسام.. تلك الملامح الآسيوية الآسرة الجمال تتجلى في كل مظاهر الحياة العصرية داخل تايلاند



وجوه باسمة من مدينة الابتسام.. تلك الملامح الآسيوية الآسرة الجمال تتجلى في كل مظاهر الحياة العصرية داخل تايلاند



وجوه باسمة من مدينة الابتسام.. تلك الملامح الآسيوية الآسرة الجمال تتجلى في كل مظاهر الحياة العصرية داخل تايلاند



وجوه باسمة من مدينة الابتسام.. تلك الملامح الآسيوية الآسرة الجمال تتجلى في كل مظاهر الحياة العصرية داخل تايلاند



إحدى الرقصات المعاصرة حيث يحمل الراقصون أعلام بعض دول العالم



تتجاور الأزياء الحديثة مع الثياب التقليدية



تتجاور الأزياء الحديثة مع الثياب التقليدية



تمثال نابض بالحياة يصور ثورة الفلاحين التايلانديين في إحدى حروبهم ضد دولة بورما في القرن الماضي



بائعة الموز الصغيرة تكتب السعر على يدها حتى لا يرهقها الزبائن بالمساومة





البائعات على القوارب لا يكففن عن المساومة وترويج بضائعهن وهن يطفن كل قنوات المدينة



هدوء الليل



الليل في بانكوك له شأن آخر



في 12 أغسطس من كل عام تحتفل تايلاند كلها بعيد ميلاد الملكة سيركيت وهي مناسبة عامة تمتلئ فيها الشوارع بصورها تحيط بها الأزهار



مصارعة الديوك من الأفكار المبتكرة لترويج السياحة



مصارعة التماسيح



مصارعة الثعابين السامة



مصارعة الثعابين السامة



إعادة تجسيد لإحدى المعارك القديمة يشترك فيها البشر والأفيال



الملاكمة العنيفة بالأيدي والأرجل


الحي العربي وسط العاصمة بانكوك . معظم اللافتات باللغة العربية



الصيادون المصريون خارجون من المسجد بعد أداء الصلاة



حفلة غنائية داخل المدرسة الخشبية



ملامح إسلامية تتسم بالحشمة


شيخ المسجد يرتل القرآن لعله يدفع أخطار العواصف



صورة بصحبة سرطان البحر



جانب من جبل الأساطير وواحد من التلال السبعة التي تحيط بالجبل من كل جانب