المحاسبي قبل المعري ودانتي محمد علي دقة

المحاسبي قبل المعري ودانتي

من أقدم أسئلة الأدب المقارن ذلك السؤال حول تأثر شاعر إيطاليا الكبير دانتي، عند إبداعه للكوميديا الإلهية، برسالة الغفران لأبي العلاء المعري. ثمة من أكد وثمة من نفى، لكن هذه المقالة تتجاوز النفي والإثبات إلى إضافة سؤال أكبر حول تأثر المعري ودانتي معا برائد عربي أسبق هو المحاسبي في كتابه "التوهم". والمقالة لا تقف عند حد السؤال إذ إنها تقترح الإجابة.

يرى الغربيون في الكوميديا الإلهية، التي أبدعتها مخيلة الشاعر الإيطالي الكبير دانتي (ت 1320 م = 720 ه)، قصيدة مقدسة ومجدا أوروبيا، وقد روى دانتي الليغيري Dante Aligheeri في هذه الملهاة أنه رأى فيما يرى النائم أنه زار الجحيم، فوصف ما شاهده هناك من عذاب الخطاة، ثم مر بجبال المطهر فتطهر بنهر "ليثي" أي النسيان ونهر "إينووي" أي ذكرى الخير والأعمال الحميدة، وشرب من مائهما فتطهر قلبه، ثم صعد إلى الفردوس، فوصف ما شاهده من الأمجاد السماوية حتى بلغ حضرة الخالق.

وكتب في هذا اللون من الفن الشاعر الإنكليزي ملتن (ت 1674 م = 1084 ه) روايتيه (ضياع الفردوس) و (استرجاع الفردوس) بعد دانتي بثلاثة قرون ونيف.

ويرى نقاد عرب ومستشرقون أن الشاعرين الغربيين اقتبسا أسلوبهما عن حكيم المعرة أبي العلاء، يقول جرجي زيدان: "فإن أقدمهما دانتي ظهر بعد أن احتك الإفرنج بالمسلمين في الحروب الصليبية، ونقلوا كتبهم في العلم والفلسفة والطب إلى ألسنتهم، والطليان أسبق الإفرنج إلى الاقتباس من المسلمين بما أنشأوه على مثال مدارس المسلمين، وأدخلوا فيها الكتب المترجمة عن العربية". ويذكر محمد كرد علي: "إن بعض الباحثين من المستشرقين يذهبون إلى أن دانتي في روايته الإلهية التي ألفها بين سنتي 1300 - 1318 م، قد اقتبسها، ولا سيما رواية جهنم، من رسالة الغفران للمعري، ونسج على منواله في التصور".

وإذا كان بعض النقاد العرب كبنت الشاطئ، وكثير من المستشرقين، ينكرون اطلاع دانتي على رسالة الغفران فإنه من الثابت أن دانتي اطلع على الترجمة اللاتينية لإحدى قصص المعراج التي كتبها أديب أندلسي مجهول، وكانت هذه القصة قد ترجمت إلى القشتالية ثم ترجمت في عصر دانتي من القشتالية إلى اللاتينية والفرنسية، ولاتزال مخطوطة منها محفوظة في مكتبة الفاتيكان. ورأى المستشرق الإسباني فرانسيسكو غابريلي أن دانتي سطا على ما في هذه القصة من تصوير وخيال وتنكر لينبوع إلهامه، ومنهل خياله.

وإذا افترضنا أن ليس للمعري (ت 449 ه) فضل التأثير في الشاعرين دانتي وملتن فإنه مما لا خلاف فيه أن له عليهما فضل السبق إلى ابتكار هذا اللون من الفن الأدبي، إذ أملى رسالته سنة 424ه أي قبل كوميديا دانتي بنحو ثلاثة قرون، وتخيل فيها أن الشيخ الحلبي علي بن منصور المعروف بابن القارح انتقل إلى العالم الآخر، فوصف وقوفه في الحشر وعبوره الصراط ودخوله ودخول غيره من المغفور لهم جنان الخلد، وتنزهه بالجنة وتمتعه بنعيمها الخالد، وأخباره مع الحور العين، وأحاديثه مع الشعراء وأسباب دخولهم الجنة ثم زيارته أهل النار وسؤالهم عن السبب الذي جرهم إلى هذه العقبى السيئة، ووصف عذابهم في جهنم.

وعبر المعري في محاوراته مع أهل الجنة وأهل النار عن آرائه في نقد الشعر والشعراء وفلسفة اللغة، وفي الموت والحشر والعذاب في أسلوب يحمل قدرا كبيرا من الدعابة والطرافة.

غير أن السؤال يطرح نفسه: هل كان المعري أول أديب عربي تخيل رحلة إلى العالم الآخر؟

معذرة للعملاقين

يجيب عن هذا السؤال عباس محمود العقاد، فيقول: "رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شائق ونسق طريف في النقد والرواية، وفكرة لبقة لا نعلم أحدا سبق إليها".

ويقول طه حسين: "إن أحدا من كتاب العرب وشعرائهم لم يسبق أبا العلاء إلى هذا الفن من الكتابة والفهم والخيال، ولم يلحقه فيه، وإنما انفرد به أبو العلاء انفرادا في كل هذه الآداب، وفي كل هذه الحضارات التي عاشت هذه القرون المتصلة، وأزهرت فيها هذا الإزهار الغريب. نعم، رسالة الغفران هي آية الأدب العربي من هذه الجهات كلها".

على هذا النحو القاطع يجيب عملاقا الأدب العربي الحديث العقاد وطه حسين إجابة تفتقر إلى التروي والتمحيص والتدقيق، وتتفق تماما مع ما هو شائع مألوف في أذهان المتأدبين ومحبي الأدب.

والحقيقة أن حكيم المعرة مسبوق إلى هذا اللون من الفن في الأدب العربي بنحو قرنين من الزمان، سبقه إليه أبوعبدالله الحارث بن أسد المحاسبى في كتابه "التوهم". والمحاسبي من أكابر الصوفية، وأوائل علماء الكلام، وأعلام الوعاظ البلغاء، يبكي الناس بوعظه، وهو عالم بالأصول والمعاملات، وكان أستاذ أكثر البغداديين في عمره، ولد بالبصرة نحو عام (165ه = 781م)، ونشأ بها، ثم انتقل إلى بغداد، حيث توفي فيها بعد حياة حافلة بالعلم والتقوى عام (243 ه = 857 م).

أما كتابه "التوهم" فهو رسالة وعظية بنيت على أساس ديني يقوم على الخوف والرجاء أو الترغيب والترهيب، وقد نهج الوعاظ والقصاص المسلمون هذا النهج في مواعظهم وأقاصيصهم، غير أن أبا عبدالله نحا في كتابه الوعظي منحى طريفا، فلم يقتصر على ما ورد من الأخبار في الخوف والرجاء، كما فعل غيره، بل استعمل خياله في وصف الجنة والنار وشعور أهلها، وأسلس لخياله القياد فتخيل ما تخيل وصور ما صور، فجاءت رسالته رواية رائعة لكاتب فضل مواقفها وصقل لغتها وجمل مناظرها حتى يؤثر في نفوس القارئين والسامعين أكبر الأثر وأبلغه.

التوهم في موضع العذاب

والتوهم يعني التخيل والتصور، وقد ردد المحاسبي هذه اللفظة في كتابه كثيرا، فهو يخاطب سامعه أو قارئه فيقول له: توهم كذا وكذا، أي تخيل ذلك.

وتوهم أبوعبدالله في هذا الكتاب رحلة إلى العالم الآخر، إذ طلب من قارئه أن يتوهم أنه صرع للموت صرعة لا يقوم منها إلا إلى الحشر، فيتوهم نفسه في نزع الموت وكربه، وقد بدأ ملك الموت يجذب روحه من قدمه، ثم يتوهم نفسه بفترة القبر وهول مطلعه وروعة الملكين وسؤالهما فيه، ثم يتوهم يوم البعث إذ انفرجت الأرض عن رأسه فوثب مغبرا من قرنه إلى قدمه بغبار القبر. ويتخيل نفسه في زحمة الخلائق حفاة عراة، وقد أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال منكسة رءوسها، وأقبلت الشياطين، "حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها، واستووا جمعيا في موقف العرض والحساب تناثرت نجوم السماء من فوقهم، وطمست الشمس والقمر، وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نارها.... ".

ثم صور وقوف الإنسان بين يدي رب العرش يسائله، فإما أن يغضب عليه فلا يغفر له عظيم ما أتى فينادي الزبانية أن خذوه، فيأخذوه إلى الصراط، وهنا يصور الصراط دقيقا مضروبا على جهنم، وهي تخفق بأمواجها من تحته، وهو يسير عليه مثقلا بأوزاره، ثم تزل قدمه ويسقط.

التوهم عند الغفران

أما إذا غفر الله لعبده في موقف الحشر فإنه يأخذ كتابه بيمينه ويتخطى المخلوقات، فيمر على الصراط خفيفا، يقول: "فتوهم نفسك وأنت تمر خفيفا مع الوجل، فتوهم ممرك على قدر خفة أوزارك.. وقد انتهيت إلى آخره، فغلب على قلبك النجاة وعلا عليك الشفق وقد عاينت نعيم الجنان وأنت على الصراط، ثم خطوت آمنا إلى باب الجنة قد امتلأ قلبك سرورا وفرحا..".

ويتطهر أحباء الله على باب الجنة تمهيدا لدخولها، وقد بهرهم حسن بابها ونوره وحسن جدرانها، وفرحوا بالعين التي أعدها الله لتتطهر أبدانهم فيها والعين الأخرى التي تتطهر قلوبهم من مائها، فقال: "فتوهم فرحة فؤادك لما باشر برد مائها بدنك بعد حر الصراط، ووهج القيامة، وأنت فرح لمعرفتك أنك إنما تغتسل لتتطهر لدخول الجنة والخلود فيها، وأنت تغتسل منها دائبا ولونك متغير حسنا وجسدك يزداد نضارة وبهجة ونعيما، ثم تقصد إلى العين الأخرى فتتناول من بعض آنيتها، وأنت مسرور بمعرفتك أنك إنما تشرب هذا الشرب لتطهر جوفك من كل غل، حتى إذا استكملت طهارة القلب والبدن، واستكمل أحباء الله ذلك معك، أمر مولاك الجواد المتحنن خزان الجنة من الملائكة، وأمرهم أن يفتحوا باب جنته لأوليائه... ".

ويبدأ المحاسبي بوصف نسيم الجنان ومائها ورياضها وكثبانها وقصورها، ويصور المغفور له وهو يسير في عرصات الجنان في رياض الزعفران وكثبان المسك وينظر بعينيه، فيعاين "حسن قصورها وتأسيس بنيانها من طرائق الجندل الأخضر من الزمرد والياقوت الأحمر والدر الأبيض قد سطع منه نوره وبهاؤه وصفاؤه... ".

ثم ينادي في أزواجه وولدانه وخدامه وغلمانه. وقهارمته: إن فلانا أقبل فيستبشرون بقدومه، وتثب زوجاته من فرشهن لملاقاته. يقول المحاسبي: "فنظرت إلى وثوبهن مستعجلات قد استخفهن الفرح والشوق إلى رؤيتك، فتوهم تلك الأبدان الرخيمة الرعبوبة الخريدة الناعمة يتوثبن بالتهادي والتبختر، فتوهم كل واحدة منهن حين وثبت في حسن حللها وحليتها بصباحة وجهها وتثنى بدنها بنعمته، ثم نادمتك كل واحدة منهن: يا حبيبي ما أبطأك علينا؟.... ثم مضيت معهن، فياحسن منظرك وأنت في موكبك من حورك وولدانك وخدامك، حتى انتهيت إلى بعض خيامك فنظرت إلى خيمة من درة مجوفة مفصصة بالياقوت والزمرد... ".

ويمضي أبوعبدالله في تصوير نعيم اللذات مع الزوجات من الحور العين، وفرح القلب ببهجة الجنان، وروعة مشاهدها بتفصيل وإسهاب فيرسم ببراعة فائقة دقائق المشاهد والمواقف وحركة النفس البهيجة، بلغة متدفقة وبيان عذب فتأتي لوحة غاية في الجمال والإتقان.

الكشف والتجلي

وبعد أن ينتهي من وصف متع الجنان ومسراتها تأتي المرحلة الأخيرة من التوهم، وهي الكشف والتجلي، فيرسم بشاعرية مرهفة ووجد صوفي تجلي الذات الإلهية لأحبائها وأوليائها، إذ يأمر الله سبحانه وتعالى مناديا يدعو أحباء الله إلى وليمة ربانية، فتقبل عليهم الملائكة تقود نجائب من الياقوت، ذاوت أجنحة، مزمومة بسلاسل من ذهب، وعليها خز أحمر ومرعز أبيض فيمتطي أولياء الله النجائب مجيبين دعوة ربهم، ويصف المحاسبي مشاهد الطريق حتى إذا وصلوا، وجلسوا على المائدة، وأكلوا بصحاف الذهب والفضة، وقام الملائكة على خدمتهم، وخلعوا عليهم الخلع، وطيب ماء السحاب شخصت أبصارهم وتعلقت قلوبهم، ثم رفعت الحجب، فبدا لهم ربهم بكماله، فنظروا إليه وإلى ما لم يحسنوا أن يتوهموه "فما ظنك بنظرهم إلى العزيز الجليل الذي لا تقع عليه الأوهام، ولا تحيط به الأذهان، ولا تكيفه الفكر، ولا تحده الفطن... ".

أبو العلاء عرف التوهم

ومما لا شك فيه أن أبا العلاء المعري اطلع على كتاب "التوهم" وهو المعروف بسعة اطلاعه، ليس على التراث العربي وحسب، بل على تراث الأمم الأخرى. ومن غير المستبعد أنه استلهم من هذا العمل الأدبي البارع الإطار الفني لرسالة الغفران، غير أن الناس نسيت الأصل وذكرت المستبعد أنه استلهم من هذا العمل الأدبي البارع الإطار الفني لرسالة الغفران، غير أن الناس نسيت الأصل وذكرت التبع، فجحد توهم المحاسبي واشتهر غفران المعري.

ومن الملاحظ أن رسالة الغفران والكوميديا الإلهية تختلفان في مراحل الرحلة، إذ وصف المعري الصراط فالجنة ومن أطراف الجنة أشرف صاحبه على جهنم فوصفها. أما دانتي فوصف الجحيم فالمطهر فالفردوس حتى انتهى إلى الخالق المبدع، وهو من هذه الناحية تبع لرسالة التوهم، إذ وصف المحاسبي الحشر فجهنم فالتطهر فالجنان وانتهى بالغبطة الكبرى بالنظر إلى الله. والتطهر عند دانتي شبيه بالتطهر عند المحاسبي، فدانتي اغتسل في نهرين فتطهر بدنه، وشرب من مائهما فتطهر قلبه، والمحاسبي تطهر بعيني ماء، اغتسل بالأولى فتطهر بدنه، وشرب من الثانية فتطهر قلبه. ومن الجدير بالذكر أن المستشرق الإسباني أسين بلاسيوس ذهب إلى أن دانتي اقتبس فكرة التطهر من الأدب الإسلامي.

تأثر، لا انتقاص من قيمة

غير أننا لا نملك الوثائق الدالة على اطلاع دانتي على توهم المحاسبي، وإن كان من المرجح أن كتاب التوهم عرف بالأندلس كغيره من كتب التراث المشرقي التي شغف بها الأندلسيون وربما ترجم إلى القشتالية أو اللاتينية أو غيرهما، واطلع عليه دانتي. وليس ببعيد أن يكون "التوهم" ترك أثره في بعض كتابات الأندلسيين ممن وصفوا العالم الآخر في قصص المعراج وغيرها، وأن بعض هذه القصص ترجم إلى اللاتينية فاطلع عليها دانتي، وهذه مسألة تحتاج إلى بحث وتدقيق. وإذ نميل إلى تأثر حكيم المعرة وشاعر الطليان بأبي عبدالله المحاسبي، فإننا لا نقلل من عبقرية أي منهما وأصالة إبداعهما، فمن البين أن رسالة التوهم أراد بها مبدعها وعظ الناس، أما رسالة الغفران فرسالة أدبية لغوية نقدية فلسفية ساخرة، عبرت عن آراء أبي العلاء في قضايا كثيرة.

وأما كوميديا دانتي، وإن كانت تتفق مع توهم المحاسبي في أنها ذات طابع ديني، فإنها حوت نحو أربعة عشر ألف بيت من الشعر العظيم، في قضايا كثيرة. وأما كوميديا دانتي، وإن كانت تتفق مع توهم المحاسبى في أنها ذات طابع ديني، فإنها حوت نحو أربعة عشر ألف بيت من الشعر العظيم، تجلت فيها عبقرية دانتي وروعته وأصالته.

تجلت فيها عبقرية دانتي وروعته وأصالته.

 

محمد علي دقة






أبوالعلاء المعري





دانتي