طبائع الأطفال في التراث العربي والإسلامي عرفان عبدالباقي الأشقر

طبائع الأطفال في التراث العربي والإسلامي

لم يكن الاهتمام بالطفل وعالمه وليد السنوات الأخيرة ، وإذا كانت المؤسسات المعنية ، على مستوى العالم ، قد كثفت من هذا الاهتمام حتى صارت تطالعنا بمسميات مثل ( عام الطفل العالمي ) و ( عقد الطفولة ) وما إلى ذلك ) فإن الطفل العربي قد شغل مساحات من اهتمام الكتاب والشعراء العرب ، الذين التفتوا إليه في سياق اهتماماتهم بالحياة الاجتماعية العربية ، وخلال مصنفاتهم الأدبية والعلمية . إلا أن هذه الشذرات جاءت متناثرة في ثنايا سطور التراث العربي الضخم ، بحيث لم يعطها الدارسون المحدثون ما هي جديرة به من التحليل والإضاءة.

للطفل طبيعة خاصة عرفها الأقدمون معرفة عفوية من خلال ما شاهدوه منه ، وعرفوه له ، فوصفوا جانبا مما شاهدوه أو عاينوه من غير تعليل أو تحليل ، وأدرك آخرون منهم في عصر متأخر جانبا من هذه الطبيعة فعللوا بعض ما عرفوه عنه ، معتمدين الخبرة والمعايشة حينا ، والنقل حينا آخر، إلا أنهم لم يعنوا بالبحث والتدقيق فيها ، أو لم يحاولوا سير أغواره ، وعلى الرغم من ذلك لم يجانبهم الصواب في كثير مما عرفوا وذكروا .

عرفوه أكذب الناس ، وأنمهم ، وأشرهم ، وأبخلهم ، وأقلهم خيرا، وأظلمهم لأنه يسأل ما لا يقدر عليه ، وبذلك ضربوا المثل "لك حكم الصبي على أهله" ، ويقول الشاعر :

ولا تحكما حكم الصبي فإنه

كثير على ظهر الطريق مجاهله

و"أعطاه حكم الصبي" إذا أعطاه ما شاء.

النساء .. والصبيان

يقول الجاحظ : "ولا نعلم في الأرض شرا من صبي ، هو أكذب الناس ، وأنم الناس ، وأشر الناس قسوة "وهو أغزر الناس دمعة بعد النساء، محب للعبث واللعب ، سريع الغصب ، سريع الرضا ، يقول الجاحظ في كتابه الحيوان : "فإنه ليس بعد الصبيان أغزر دمعة من النساء ، ويعرض للخصي العبث واللعب بالطير ، وما أشبه ذلك من أخلاق النساء ، وهو من أخلاق الصبيان أيضا .

ويعرض للخصي سرعة الغضب والرضا وذلك من أخلاق الصبيان والنساء ، ويعرض له حب النميمة وضيق الصدر بما أودع من سر وذلك من أخلاق الصبيان والنساء".

ويقول في موضع آخر من الكتاب : "الصبيان أقسى الخلق وأقلهم رحمة".

وقد ضربت العرب المثل بسوء تصرف الطفل فقالت :"أخرق من صبي" وهو لا يحتشم ولا يعرف الخجل ، سفيه جاهل ضعيف الرأي ، قليل المعرفة ، قال الطبري في ( جامع البيان ) في تفسير قوله تعالى "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" "وعامة أهل التأويل : النساء والصبيان لضعف آرائهم، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضار" وذكر في موضوع آخر "وقال آخرون بل السفهاء الصبيان خاصة".

وهو كثير الكلام، مولع به . يقول أبوحيان التوحيدي في ( الإمتاع والمؤانسة) "والحديث معشوق الحس ولهذا يولع به الصبيان والنساء".

ويرى العرب أن هذه الخصال والسجايا فيه ليست شرا مطلقا ، ملازما له ، بل إنها علامة على ما سيكون عليه من الخير إذا أحسن توجيهه ، وأحكم أمره ، العرب تقول: "أرجى الغلمان الذي يبدأ بحمق ثم يستمر" أي يستقيم أمره بعد فساد ، وأنه يخرج من هذه الخصال المذمومة بمقدار ما يزداد من العقل والمعرفة ، يقول الجاحظ : "وإنما يخرج الصبي من هذه الخلال أولا فأولا ، على ما قدر ما يزداد من العقل ، فيزداد من الأفعال الجميلة" ويروى عن ابن عباس "عرامة الصبي زيادة في عقله" ويرى الجاحظ أيضا : أن الطفل غر غير مدرك ، وأن الحياة وأمورها هي التي تكسبه المعرفة بالتجربة والمعاينة ، ويميز الجاحظ معرفة الطفل من معرفة البالغ ، بأن الأولى معرفة عن غير قصد منه ، والثانية عن قصد ، وأن معرفة الطفل آلتها الدربة والعادة فهي كاعتياد الحيوان والمجنون شيئا ألفاه ، وأمرا خبراه وعايناه، وهي بعيدة عن الاستنتاج والإدراك واستخلاص الحكم وقياس الأشباه والتعميم ، يقول : "إن التجربة على ضربين أحدهما أن يقصد الرجل إلى امتحان شيء ليعرف مخبره عما عرف منظره ، والآخر أن يهجم على علم ذلك من غير قصد ، وقد يسمى الإنسان مجربا قاصدا.. فيزعم أن البالغ قد سقط من بطن أمه إلى أن يبلغ مقلبا في الأمور المختلفة ، ومصرفا في خلال الحالات بالمعرفة التي تلقحه الدنيا بما تورده عليه من عجائب ، ويزداد في كل ساعة معرفة وتفيده الأيام في كل يوم تجربة ، كما يزداد لسانه قوة ، وعظمه صلابة ولحمه شدة ، من أم تناغيه ، وظئر تلهبه ، وطفل يلاعبه ، وشهوة تبعثه ، أو وجع يقلقه ، كما يزيده الزمان في قوته ، فإذا درج وحبا وضحك وبكي ، وأمكنه أن يكسر إناء أو يكفئه ، أو يسود ثوبا ، وانتهز القيّم ، فلا يزال ذلك دأبه ودأبهم حتى يفهم الإغراء والزجر ، كما يعرف الكلب اسمه إذا ألح عليه الكلاب وكما يعرف المجنون لقبه ، وكما يحضر الفرس من وقع السوط من كثرة وقعة بعد رفعه عليه".

ويرى في موضع آخر أن بإمكان الصبي أن يلقن أعوص المسائل وأن يحفظ أطولها ، إلا أنه عاجز عن معرفة سقيمها من صحيحها ، قاصر عن تمييز الحق من الباطل فيها ، وعن معرفة أصولها فيقول: "ولعمري إنا لنجد في الصبيان من لو لقنته أو كتبت له أغمض المعاني وألطفها وأغمض الحجج وأبعدها وأكثرها لفظا وأطولها ، ثم أخذته بدرسه وحفظه ، لحفظه حفظا عجيبا ، ولهذه هذا ذليقا فأما معرفة صحيحه من سقيمه ، وحقه من باطله وفصل ما بين المقر به والدليل ، والاحتراس من حيث يؤتي المخدوعون .. فهذا ما لا يوجد عند صبي .. ابن تسع أو ثماني أو سبع سينين أبدأ ، عرف ذلك عارف أو جهله جاهل .. مع أنك لو أدرت معاني بعض ما وصف لك على أذكي صبي في الأرض وأسرعه قبولا وأحسنه حكاية وبيانا .. لم يعرف قدره ولا فصل بين حقه من باطله ".

الطفل الذكي

ويراه في موضع آخر قادرا على بعض العلوم عاجزا عن بعضها الآخر ، لما تحتاج إليه من تدقيق ومعرفة شاملة وحسن إدراك وتمييز ، يقول :" وقد نجد الصبي الذكي الذي يعرف من العروض وجها من النحو صدرا ، ومن الفرائض أبوابا ومن الغناء أصواتا ، فأما العلم بالأصول الأديان ، والعلم بالأخبار وتقدير الأشكال فليس موجودا إلا عند العلماء".

أما ابن سينا فيرى أن لكل صبي طبيعة خاصة فما يلائم صبيا لا يلائم غيره "ليعلم مدبر الصبي أن ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية ، لكن ما شاكل طبعة وناسبه وأنه لو كانت الآداب والصناعات تجيب وتنقاد بالطلب والمرام دون المشاكلة والملاءمة إذن ما كان أحد غفلا من أدب أو عاريا من صناعة وإذن لأجمع الناس كلهم على اختيار أشرف وأرفع الصناعات ، ولذلك نرى واحدا من الناس تواتيه البلاغة وآخر يواتيه النحو، فينبغي لمربي الصبي إذا رام اختيار الصناعة أن يزن أولا طبع الصبي ويسبر قريحته ويختبر ذكاءه ويختار له الصناعات بحسب ذلك ".

ويؤكد الجاحظ أن دين الصبي هو تأديب وتلقين أكثر منه اعتقادا صادار عن امتحان وتدبر ، يقول : "فأما إسلامه وهو حدث غرير وصبي صغير ، فهذا ما ندفعه ، غير أنه إسلام تأديب وتلقين وتربية ، وبين إسلام التكليف والامتحان والتربية فرق عظيم ومحجة واضحة ".

الأطفال والمجانين

في طبائع الأطفال الولع بكل غريب أو ضعيف من الناس والحيوان ، وما أكثر ما نقرأ في كتب الأدب عن ولع الصبيان وعدوهم خلف المجانين أو الموسوسين ، يصيحون ويعبثون بهم ، ويرمونهم بالمقذع الجارح من القول إلى أن يفرقوا ويطردوا عنهم ، أو يتعبوا ويملوا ، من ذلك ما رواه الأصفهاني في الأغاني "غاب عنا جعيفران أياما ثم جاءنا والصبيان يشدون خلفه وهو عريان وهم يصيحون" يا جعيفران ! يا خرافي الدار ".

وروى أيضا "دخل رؤبة بن العجاج السوق وعليه برنكان أخضر فجعل الصبيان يعبثون به ويفرزون شوك النخل في برنكانه ويصيحون به : يا مرزوم ! يا مرزوم !..."، وعرف الناس ولعلهم بالعبث ، فأغروهم بمن يرغبون في أذيته والحط منه كما فعل دعبل بأبي سعد المخزومي إذ هجاه فقال: "لما هاجيت أبا سعد ، أخذت معي جوزا ، ودعوت الصبيان فأعطيتهم منه ، وقلت لهم : صيحوا به قائلين:

أبا سعد قوصرة

زاني الأخت والمرة

وتجاوزوا بعبثهم الغرباء والضعفاء ، إلى تناول بعض القواد معبرين بفعلهم هذا عما لقنوه من أهليهم أو الناس من استياء وإنكار "لما انهزم أسلم بن زرعة أمام أبي بلال مرداس بن أدية الخارجي ، وكان أسلم في ألفين وأبوبلال في أربعين ، كان الصبيان بعد ذلك إذا خرج أسلم إلى السوق ، أو مر بصبيان صاحوا به . أبوبلال وراءك ، حتى شكا إلى ابن زياد ، فأمر الشرط بكف الناس عنه".

قلنسوة طيري

واستجاشتهم العامة على بعض الحكام والعناصر الغريبة ، ليعبروا من خلالهم عن غضبهم وكرههم هؤلاء الحكام ، من غير أن يتعرضوا لبطشهم أو أذيتهم . ذكر آدم متنر في كتابه ( الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ) نقلا عن كتاب العيون والحدائق "أبغض أهل بغداد بجكم ، لقبح سيرته فلما ظهر ابن رائق ، سروا به وأظهروا ما في أنفسهم من بغض بجكم ، فكان العيارون والصبيان يهزأون ببجكم ورجاله ويقولون : بجكم حلقوا نصف سباله ، فإذا رأوا تركيّا عليه قلنسوة صاحوا به : قلنسوة عن الفصل بين ساعة الجد وساعة الهزل ، فحذروا من مغبة ممازحته، لأن ذلك مما يسقط الحشمة والهيبة ، ويجعل المرء يهون عليهم فلا يكون له عليهم قدرة أو طاعة ، قال ابن المنكدر :" قالت لي أمي : يا بني ، لا تمازح الصبيان فتهون عليهم".

وهم لا يوقرون كبيرا ، ولا ينزلون الناس منازلهم ، فالناس لديهم سواء الشريف والوضيع ، قال الجد بن قيس ولهذا ساءه ما أفشى بعض قومه حديثا له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشبههم بالصبيان :"بقينا مع صبيان من قومنا لا يعرفون لنا شرفا ولا سنا".

وتبينوا ما سيكون عليه من علو همة أو فسولة ، مما هو عليه في لهوه ولعبه "فإن الصبيان تجتمع فيقول عالي الهمة : من يكون معي ، ويقول قاصر الهمة : من أكون معه" وعرفوا أن الطفل الذي يرتجي خيره ويطمع في صلاح أمره ، هو من إذا عنفته وذممت إليه أمره خجل ، يقول معاوية بن أبي سفيان :"طيروا الذم في وجوه الصبيان ، فإن بدا في وجوههم الحياء ، وإلا فلا تطمعوا فيهم".

وأن نفس الطفل مرآة صافية ، تعرض ما يعرض عليها ، وعجينة لينة ، تحتفظ بما ينقش عليها ويطبع ، وتتشكل وفق القالب الذي تسكب فيه ، وهي وعاء ينضج بما ملأته ، ففي الحديث الشريف "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه .. " رواه البخاري .

ولذلك نراهم صانوا أسماع أطفالهم ، وجنبوهم سماع الفاحش من القول لئلا يعلق بنفوسهم ويعتادوه ، ففي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، "بنسوا عن البيوت لا تطم امرأة ولا صبي يسمع كلامكم " فهو يأمرهم بالابتعاد عن البيوت لئلا يسمع الصبيان الرفث الجاري بينهم ، وأدركوا أن للصبي منطقا وإدراكا خاصين به ، يقول الجاحظ :" وقد قالوا : الصبي عن الصبي أفهم وبه أشكل ، ألا ترى أن أبلغ الناس لسانا ، وأجودهم بيانا ، وأدقهم فطنة ، وأبعدهم روية ، لو ناطق طفلا أو ناغى صبيا لتوخى حكاية مقادير عقول الصبيان".

 

عرفان عبدالباقي الأشقر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات