التنمية البشرية في الوطن العربي فؤاد قنديل

التنمية البشرية في الوطن العربي

المؤلف: د. حامد عمار

ظلت النظرة إلى تنمية الموارد البشرية، حتى وقت قريب، تنبع من فلسفة اقتصادية، وتركز على الإنسان بوصفه كيانا منتجا، بمعنى أن كل اهتمام يحظى به الإنسان يرجع إلى أنه ذو مردود اقتصادي، وعندما حدث التفوق التكنولوجي - خاصة في إنتاج المعلومات وتصنيعها - تطورت النظرة إلى تنمية الإنسان لتشتمل على كل ما فيه شحذ لطاقاته المادية منها والمعنوية.

كتاب "التنمية البشرية في الوطن العربي" للدكتور حامد عمار كتاب يحفر في الحاضر ليصل إلى المستقبل، وعالمنا العربي في هذه الآونة ذات الحساسية الخاصة أحوج ما يكون إلى كتب ودراسات من هذه النوعية التي تضيء الطريق أمام عيوننا وتحت أقدامنا.

لقد استقر في أدبيات التنمية العربية أو في وثائقها الرسمية على المستويين القطري والقومي، أن الإنسان هو هدف كل تنمية، وهو في الوقت ذاته صانعها ووسيلتها لتحقيق منافعه حاضرا ومستقبلا، ويظل ذلك مرتبطا بإنتاجية المواطن العربي، وهذه الإنتاجية إنما يعتمد التزايد في معدلاتها على الدافعية للعمل الإنساني، في إطار مجتمعي يحدد الحوافز والأجور والمكانات الاجتماعية والقناعات النفسية والمعنوية المرتبطة بتقسيم العمل وأنواعه وثماره. وفي سياق هذه الديناميات والمقومات الاجتماعية ينشط الإنسان فكرا وعملا وتنظيما.

الإنسان الهدف

وحين نتحدث عن التنمية البشرية، إنما نقصد الإنسان هدفا وغاية نهائية، فمنه تبدأ وإليه تنتهي، وذلك في إطار إشباع حاجاته المادية والمعنوية، وتوفير الظروف المجتمعية التي تحقق الاستمتاع بما عرف باسم حقوق الإنسان، والمراد بذلك هو تجنيب الفرد ويلات الفاقة والحرمان والمرض والجهل والتهميش الاجتماعي، وتمكينه من العيش في أمان واطمئنان على حاضره ومستقبله وتوفي فرص المشاركة والتفاعل مع بيئته وأمته.

بهذا يصبح الإنسان قوة عمل منتجة بدرجات متفاوتة من المهارة حسب قدراته وطاقاته وفرص العمل المتاحة.

والتنمية البشرية ليست مجموعة من الإجراءات والخدمات التي يمكن بها دفع الإنسان إلى مكانة لائقة بالعيش في المستقبل، وليست نوايا للإغداق عليه، أموالا وأجهزة ومؤسسات وفرصا، ولكنها خطط ومسارات وأساليب علمية تأخذ الإنسان بيدها من حاضره عبر قنوات لتفضي به في النهاية إلى الغد الأفضل.

تمثل هذه المسارات القضبان التي تسير عليها القطارات متوجهة من محطة القيام إلى محطة الوصول.

ويرسم الدكتور عمار المسارات النموذجية للتنمية البشري.

1- مسار النمو الجسمي

2- مسار النمو الوجداني

3- مسار النمو العقلي

4- مسار تكوين الشخصية

5- مسار النمو الاجتماعي

وتتفاوت عملية التنمية البشرية سواء على المستوى الفردي أو علي المستوى الجماعى، بتفاوت الوسائل والمواقف والآليات، وتتفاوت هذه بدورها نتيجة للمعرفة المتاحة والتكنولوجيا المستخدمة في تنشئة الأطفال، وفي مؤسسات تعليمهم وتثقيفهم من قبل عالم الكبار، بدءا من الأمهات وامتدادا إلى مؤسسات التعليم النظامي وغير النظامي، وإلى قنوات الإعلام والثقافة وقيم المجتمع ومفاهيمه. ويمكن القول إن مدى النقلة النوعية في متصل النمو الاجتماعي تتحدد حسب استعداد مجتمع ما للتكيف والاستجابة للمتغيرات الفردية والاجتماعية وما يرتبط بهما من سلوك ووعي وفعل، ولعل أهم هذه السلوكيات تقدير الوقت والنظام والتنظيم والتخطيط السليم وتحمل المسؤولية. إذ إن هذه السلوكيات هي الذخيرة الحية في الإنجاز والإبداع.

مؤشرات التنمية البشرية

لا تتحقق التنمية البشرية إلا عن طريق إشباع حاجات الإنسان الحياتية. تأتي في مقدمتها الحاجات التي لا بد منها لاستمرار الحياة والبقاء، وهي المواد اللازمة للغريزة والعوامل البيولوجية، وهناك الحاجات التي تستلزمها طبيعته الإنسانية والاجتماعية والروحية، وقد قسم المؤلف حاجات الإنسان إلى أربع مجموعات.

ويعترف المؤلف بمدى التعقيد في حركة التغير الاجتماعية وطبيعة التدخل لتوجيه مسيرة التغيير والتطوير، ويشكو ندرة البيانات والإحصاءات التي تعين الباحث على رصد التجربة التنموية في العالم العربي، وإذا كانت المؤشرات التي استعرضها وتفاصيل عناصرها كنسق متكامل للتنمية صعبة التحقيق، فإن هناك من الاتجاهات في قياس التنمية ما يعتمد على مؤشر أو مؤشرين إجماليين، مثل استخدام متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي أو متوسط نصيب الفرد من الاستهلاك. ومن الاتجاهات الأخرى ما يعتمد على المدخلات والمخرجات في قطاعات معينة، اصطلح على اعتبارها قطاعات التنمية الاجتماعية كالتعليم والصحة والتغذية، ويمكن أن تضاف إليها قطاعات أخرى كالثقافة.

واقع التنمية البشرية في الوطن العربي

الحديث عن واقع التنمية البشرية في الوطن العربي يعني الحديث عن 21 قطرا بما فيها دولة فلسطين، فضلا عن النمو السكاني الكبير الذي يحظى بأعلى نسبة نمو في العالم، الأمر الذي يعني - بداهة- حجم العبء البشري على الإمكانات والموارد.

أ - الغذاء والصحة:
وعن إشباع حاجة الغذاء، تتفاوت الأقطار العربية بشكل واضح، فضلا عن التباين بين البيئات الثرية والبيئات الفقيرة، حيث تبرز مشكلات نقص التغذية وسوئها خاصة بين الأطفال. وأوضح الأمثلة على ذلك ما تظهره الإحصاءات عن ظروف المعيشة في كل من السودان وجيبوتي والصومال وموريتانيا واليمن. على أن الإحصاءات الإجمالية تكشف تحسنا في الإشباع الغذائي خلال العقدين الأخيرين إلا أن ذلك لا ينبئ باطراد حالة التحسن في المستقبل إذا بقيت الموارد والظروف الاقتصادية على ما هي عليه. وما يقال عن حالة الغذاء في الوطن العربي يمكن أن يقال مثله عن الحالة الصحية.

ب- التعليم والتعلم:
التعليم في مجمله عبارة عن عمليات يتحول فيها الوليد البشري من مجرد كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي، ومع ظهور مؤسسات التعليم ارتبط نوع التعليم بنوع العمل، وارتبطت فرص التعليم بالمكانة الاجتماعية والسلطة والسطوة، ولذلك جاء مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية كقاعدة ديموقراطية في إشباع الحاجات التعليمية بوصفها أخطر مؤشرات التنمية البشرية إذ الاعتماد عليها في صقل طاقات الإنسان واكتشاف قدراته والارتقاء بمعرفته ومهاراته وتوسيع دائرة وعيه وخبراته.

العمل غاية ووسيلة

بالعمل تتحقق التنمية، ولهذا كان عدم توافر فرص المرء لممارسة نشاط اجتماعي مفيد من أقسى ما يمثل امتهانا لكرامة الإنسان كما يعد إهدارا لطاقة منتجة.

وللعمل شروط منها قدرة العامل. ونوعية العمل المجزي دون استغلال، والعمل المحقق للذات، أي الذي يسمح للمرء بالإبداع والعمل غير المرهق، من خلال تحديد ساعات العمل وتوفير المواصفات الصحية وشروط الأمن والسلامة وحرية اختيار العمل وضمانات الاستمرار أو الانتقال وضمانات العجز والشيخوخة. وقد عانى المؤلف من تجاهل إحصاءات العمل في معظم الأقطار العربية لمعدلات البطالة، والبطالة متعددة المظاهر وليست فقط عدم توافر فرص العمل، فهناك البطالة المقنعة التي تكشف عنها مشكلات تضخم الأجهزة البيروقراطية والإدارات الحكومية، ومن هنا فإن تقدير حجم البطالة في الوطن العربي غير دقيق، وهو ما يدل على أن هذا الجانب من الحاجات الإنسانية يفتقد الإشباع الحقيقي على أسس ومناهج إنسانية لائقة تفيد دفع عجلة الإنتاج العربي في كل الميادين.

الغذاء الثقافي

يشارك البعد الثقافي البعد التعليمي والمعرفي في كثير من مقاصده، إلا أنه يستهدف في توجهه إشباع الوجدان وترقية الذوق وحفز الرغبة في التطوير والتجديد. والغذاء الثقافي لازم للإنسان طوال عمره وليس مقصورا على فترات الطفولة والصبا والشباب، وتضطلع بهذا الدور مؤسسات عديدة تتبع رسميا وزارة مثل الثقافة والإعلام والشباب، وأحيانا الشئون الاجتماعية في بعض مهامها. وتقدم هذه الأجهزة عطاءها الثقافي من خلال الصحف والمجلات والكتب والإذاعة والتليفزيون والسينما والمسرح والمحاضرات والندوات ومعارض الفن التشكيلى والمكتبات.

وتأتي الإذاعة والتلفزيون في مقدمة أدوات التثقيف، نظرا لسهولة الحصول على مادتها الثقافية إذ تناسب كل القطاعات البشرية حتى الأمي منها، فضلا عن توافرها في المنازل ويمكن أن تؤدي دورها بلمسة أصبع.

وتأتي الصحافة في المرتبة الثانية، والكتب أيضا مؤشر مهم وإن لم تحتل مكانة متقدمة، وتشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن الوطن العربي ينتج أربعين كتابا لكل مليون من السكان، في حين تنتج الدول الصناعية 550 كتابا، ونصيب الفرد العربي من المواد المطبوعة ما وزنه كيلو جرام واحد، ونصيب الغربي 21 كيلو.

ومن أهم المؤشرات التي تكشف تجاهل الثقافة العلمية في الوطن العربي، ذلك الإحصاء المنشور عن إنتاج العلماء العرب في مجال الثقافة العلمية وفروعها والنمو في أعداد المشتغلين بها إذ تشير الإحصائية إلى أن عدد العلماء العرب المنشورة أبحاثهم في مجلات علمية عام 1983 بلغ 2616 عالما في حين أن لإسرائيل في العام نفسه 1661 عالما، وأن القوى البشرية المشتغلة بالبحث وتطوير العلم في المجالات الإنمائية بالوطن العربي 106 لكل مليون ولإسرائيل 3990 لكل مليون والنسبة بينهما تدعو للدهشة والفزع.

وينهي الكاتب هذا الفصل عن الثقافة بالحديث عن المثقف الحقيقي، وهو الفنان والأديب والكاتب الصحفي الذي يشارك في التغيير بإضاءة العقل والوجدان وشحذ الهمم، إذ يبلغ درجة عالية من المعرفة بالتيارات الفكرية والسياسية والعلمية، بحيث يستشعر روح العصر، وله قدرة على اتخاذ موقف منه ورؤية واضحة له، ومشكلة المثقفين وقوعهم تحت طائلة الضغوط السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فمنهم من يصمد ويظل قوي الرأي صادقا مع نفسه ومبادئه، ومنهم الانتهازيون والوصوليون، لكن سلامة الحياة الثقافية مرتبطة بالحرية والديموقراطية.

النظام الديموقراطي

يؤكد تاريخ الحضارة الإنسانية أن تنمية الطاقات البشرية، وإشباع مجمل الحاجات الإنسانية ارتبطا دائما بالمجتمع الديموقراطي الذي يتيح للشعب أن يحكم نفسه بنفسه ولنفسه كما يقول إبراهام لنكولن.

على أن الديموقراطية ليست مجرد نظام جامد، أو اتجاه يصدر به قرار من الحاكم أو مادة يحض عليها الدستور. إنها في الأساس مجموعة من القيم، وأول هذه القيم احترام الإنسان كقيمة مطلقة لا تعلوها قيمة أخرى في هذا الكون، ثانيا: تقدير العقل وتحكيمه في تفسير مظاهر الحياة وتقديم الحلول لها، إذ العقلانية نقيض التعصب، ثالثا: أن كل شيء قابل للمناقشة الواعية، ومن ثم كانت الخبرة والتجربة من أضواء المسيرة الديموقراطية.

ويرى المؤلف الدكتور حامد عمار أن مسيرة الديموقراطية في العالم العربي عانت كثيرا، ولاتزال تعانى،، من أجل ممارسة حقها في الوجود.. وقد قطعت رغم ذلك شوطا طيبا وإن كان بطيئا ومتفاوتا في الدرجة والنوع، ولعل ذلك سببه طبيعة الظروف التاريخية الصعبة التي تمر بها الأمة العربية، لكن ذلك لا يمنع من شيوع مسحة من التفاؤل في إمكان ازدياد المد الديموقراطي، بداية من القيم التي تدعو إليها الديموقراطية مثل العقلانية وتقدير الإنسان واحترامه والبعد عن التعصب، واعتماد الحوار والنقاش الكريم أسلوبا ومنهجا دون إلحاق الأذى بأصحاب الرأي المخالف، وهذا يؤكد ما ندعو إليه دائما من أن الديموقراطية ذات اتجاهين، من القاعدة إلى القمة ومن القمة إلى القاعدة. ولا بد أن تمارس الديموقراطية أولا في القاعدة، حيث المنزل والأسرة والمدرسة والمصنع والشارع والحي والمدينة، صعودا نحو الكيان السياسي الأكبر.

 

فؤاد قنديل







غلاف الكتاب





الإنسان هو هدف التنمية