أين نقف مع بداية الألفية الثالثة

 أين نقف مع بداية الألفية الثالثة

هل يتاح لنا أن نتنبأ بالمستقبل؟ وهل يمكن الوصول إلى أي تخيل قريب من الواقع وسط هذه المتغيرات؟!

أذكر دراسة قرأتها منذ ربع قرن لعالم نرويجي كبير هو جوهان جالتونج تحت عنوان آثار فضولي: " بعض الملاحظات حول خمسة الآلاف سنة الماضية وملاحظات إضافية حول السنوات الخمسمائة القادمة".. ولم تكن هذه الدراسة دجلا، ولا ضربا من ضروب الشعوذة، بل كانت جد علمية، فلقد استحدثت الكاتب نهجا في الدراسة مفاده أنه حاول استخلاص "الثوابت"، فتلك المتغيرات التي لا ينالها التغيير إلا على المدى الطويل جداً، فباتت أشبه ب "الثوابت"، ثم ميز هذه "الثوابت" القصيرة الأمد، أي "المتغيرات" بالمعنى المألوف للكلمة، وهكذا أتاح لنفسه التنبؤ بصورة المستقبل على نحو ما، استنادا إلى أن المستقبل لن يخرج عن "ثوابت" معينة، وإذا صح أن المستقبل يتعذر التنبؤ به تماما، فإن السيناريوهات تتنوع حيثما تكون الغلبة "للمتغيرات"، في إطار "ثوابت" مقررة.

قلت لنفسي: ها هو نهج وارد أن نسترشد به ونحن نقدم على قرن جديد، وألفية جديدة قد يقال إن الحديث عن بداية قرن وألفية، هو مجرد الحديث عن تاريخ تحكمي، لا يعبر بالضرورة عن ظواهر طبيعية، أو عن نهاية "أو بداية" سياق تاريخي معين، ثم إننا بصدد تواريخ ذات معنى في نظر الحضارة المسيحية، ولا تكتسب معنى خاصا في نظر الديانات الأخرى، لا مناص من التسليم بأنه ما زال للغرب الغلبة في تقرير أمور كثيرة، ومن هذه الزاوية، لا يمكن إغفال حقيقة أن ما يقرره الغرب له أصداء تتجاوزه، ولو لمجرد أننا بصدد ثورة إعلامية عالمية، وأن الإعلام الغربي مرتفع الصوت، ومن وظائف الإعلام بالطبع استثمار مناسبة بداية قرن "وألفية" "لوقفة" مع التاريخ، وتقييم أينما نقف.

غير أنه يبدو الآن مع حلول الألفية الثالثة أن "ثوابت" أساسية، وليست فقط "المتغيرات" المعتادة، بصدد أن يعتريها تغيير، وأننا لسنا بصدد مجرد علاقة صدفة، وعلاقة تحكمية، بين بداية ألفية جديدة وبداية نسق جديد للحياة البشرية، وهنا قد يكون من المفيد تعريف مصطلحات ثلاثة سوف أستعين بها لتوضيح ما أعنيه: الأيديولوجيا، التكنولوجيا، والإيكولوجيا.

ثلاثة تعريفات

أعرف "الأيديولوجيا" "والتعريفات تتعدد بصددها" ب"علم الأفكار"، أو ربما بتعبير أدق، كيف تتصور "ذات معينة" حقائق منسوبة إلى واقع "موضوعي" معين، فإن الواقع الموضوعي الواحد تتصوره أشخاص مختلفة بقدر قل أو كثر من الاختلاف وعدم التطابق، ذلك أن لكل شخص مصالح مختلفة، وتباين المصالح عند التعامل بواقع موضوعي ما، يطبع هذه الواقع بتصورات متباينة عنه، على سبيل المثال: الإنفاق ببذخ على شيء محبب لدى الثري وشيء مكروه لدى محدود الدخل، والواقع الموضوعي، منتج هذين التصورين على طرفي النقيض لشيء هو الإنفاق ببذخ، واحد في الحالتين.

تتعلق "الأيدلوجيا" إذن بهذا القدر من "المساس" "أو من التحوير" الذي يصيب فكرة معينة حسب "المصالح الذاتية" لصاحب الفكرة، هكذا ينتج تباين المصالح بين الطبقات المختلفة في المجتمع "الأيدلوجيا الطبقية" وتباين المصالح حول الانتماء إلى وطن معين "الأيدلوجية الوطنية" .. إلخ.

وأعرف "التكنولوجيا" بمجموع الآلات والأدوات التي ابتكرها العلم عبر عصور التاريخ لزيادة كفاءة الإنسان في استثمار الطبيعة المحيطة به لصالحه، وللرقي بسبل معيشته.

وأعرف "الإيكولوجيا" البيئة الطبيعية التي تحبط بالإنسان على سطح كوكب الأرض.

والجديد الجدير بلفت نظرنا أن العلاقة بين هذه المصطلحات الثلاثة تنتابها الآن تغييرات جسيمة، غير مسبوقة في تاريخ الجنس البشري، فلقد زادت قوة وفعالية التكنولوجيا، ولم تعد ذات تأثير محدود، لا يكاد يذكر، على الإيكولوجيا، بل تنال من هذه الأخيرة بشكل خطير، مما يهدد سطح كوكبنا لدرجة قد لا تجعله في يوم ما صالحا للحياة، ولم يكن للتكنولوجيا من قبل، ما يمكنه من التأثير على الإيكولوجيا على هذا النحو.

تدفئة الطقس تحمل معنى الإنذار

نموذج بسيط أركز عليه بالذات لأنه أصبح واضحا لعيان الجميع هو تدفئة الطقس، لقد أصبح خبراء الأرصاد الجوية، يحذرون من أن ارتفاع درجات الحرارة في العالم قد بلغ حدا حرجا، وأنه من صنع الإنسان، فلقد أكد بيان أصدره خبراء أمريكيون وإنجليز أخيراً أنه "بسبب أنشطتنا السابقة والحالية، فإنه يتعين علينا أن نبدأ في تعلم كيف نتعايش مع العواقب المتوقعة، مثل زيادة قسوة الأحوال الجوية، وارتفاع مستويات البحار، وتغير أنماط الأمطار، والاختلالات الإيكولوجية والزراعية".

فلقد جاء هذا التحذير بعد إعلان المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن فترة التسعينيات شهدت سبعاً من أكثر السنوات ارتفاعا في درجة الحرارة في التاريخ المعروف، الأمر الذي يجعل من العقد الأخير من القرن العشرين أكثر العقود ارتفاعا في درجات الحرارة منذ بدء عمليات رصدها قبل 130 سنة، والمعتقد أن ثقب الأوزون الموجود فوق القطب الجنوبي هو المسئول عن هذا الارتفاع، فلقد زادت مساحة الثقب عن عشرة ملايين كيلومتر مربع لمدة ثلاثة أشهر من العام الماضي، أما عن القشرة الجليدية التي تغطي القطب الشمالي، فلقد تقلصت مساحتها بمقدار 14 مليون كيلومتر مربع، وتقلص سمكها بمقدار 40% خلال العقود الثلاثة الماضية وحدها.

من المؤشرات الأخرى في هذا الصدد زيادة معدل ثاني أكسيد الكربون في الجو بمقدار 5% بين 1957 و 1975 وبمقدار 14% بين عام 1957 أيضاً و 1990 مما يعني أن الزيادة تتم بمقتضى متوالية هندسية، وإذا استمرت على هذا النحو، فسوف يرتفع متوسط درجات الحرارة على صعيد المحيط الحيوي لطبقات Biosphere الأرض بمقدار 2.9 درجة مئوية عام 2050 ، مما يعني ارتفاع مستوى البحار والمحيطات بمقدار يترواح بين 40 و 80 مترا، ومعنى ذلك إغراق قطاعات واسعة من اليابسة "مدينة باريس مهددة بالغرق" والأثر المباشر لتدفئة الجو هو التأثير في حالة المياه قبل الشعور بأزمة حادة سببها زيادة درجات الحرارة، وزيادة حدة الاضطرابات الجوية، وقد اعترفت الأمم المتحدة عام 1995 رسمياً بأن تكنولوجيا الإنسان المعاصر أصبحت تؤثر في الجو وتشكل هذه الحقيقة، على حد قول بيان الأمم المتحدة، أخطر تحد سوف يواجه البشرية في القرن الجديد.

والحقيقة أن القرن الحادي والعشرين يبدأ في جو يدعو إلى القلق والتشاؤم، في جو ملبد بغيوم كثيرة، في جو تعددت وتداخلت فيه الظواهر السلبية، ولم تقتصر على ظاهرة تدفئة الجو وحدها، فها هي الزلازل المروعة "وأحيانا في مواقع غير مألوفة" التي هزت في وقت وجيز دولا عديدة كانت آخرها تركيا، وبوليفيا، والجزائر، وها هي الفيضانات والعواصف والرياح التي بلغت سرعتها 200 كيلومتر في الساعة واجتاحت أوربا قبيل نهاية القرن على نحو لم تشهد القارة الأوربية مثيلا لها منذ قرون، وها هي مؤشرات في مواقع شتى من المعمورة، وتؤذن بشح فظيع في المياه، وتصحر ينتشر لمناطق لم تعرف هذه الظاهرة من قبل، إن الطبيعة تبدو وكأنما هي ثائرة على إنجازات الحضارة الإنسانية.

ثم إن الكوارث ليست طبيعية وحسب، بل هي بشرية أيضاً، فها هي الحرب الهمجية في الشيشان، بدعوى ملاحقة جماعات إرهابية "لا من قبل كبار دول الغرب وحسب، وإنما من قبل روسيا كذلك"، ولم تقل حروب البلقان "التي امتدت عقد من الزمان" عنها ضراوة وهمجية، وقبل ذلك، كانت المجازر المروعة في قلب إفريقيا "بالذات بين قبائل التوتسي والهوتو".

اختلال النظام الدولي

كان العالم طوال حقبة الحرب الباردة، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عالما ثنائي القطبية، كان قطب منهما هو قطب الرأسمالية العالمية، والقطب الآخر قطب الشيوعية، وقد انهار قطب الشيوعية، مما أوحى بأن قطب الرأسمالية العالمية أصبح هو وحدة القائم، ووحده الذي يرمز "للنظام الدولي" و "للشرعية الدولية" غير أن واقع ما جرى خلال السنوات العشر الأخيرة إنما يكشف عن صورة أخرى تماماً، وعن بروز قطبية ثنائية جديدة، ليست بين قطب الرأسمالية العالمية وقطب الشيوعية الدولية، وإنما بين القطب الذي أضحى يصف نفسه بقطب "الشرعية الدولية"، وقطب "الحضارة الإنسانية"، في مواجهة قطب خارج على هذه الشرعية، ورافض لها، وهو قطب يدمغه الغرب بصفة "الإرهاب الدولي"، فهل يلبي قطب "الحضارة الإنسانية" متطلبات تشخيصه على هذا النحو؟

إن "النظام الدولي" على مشارف الألفية الجديدة، بدلا من أن يزداد رقيا وحضارة وإنسانية وأخلاقية، إنما يتردى نحو مزيد من الهمجية، إنه "نظام دولي" مختل، ولا يبدو أن هناك قوى تصحيحية كفيلة بالحد من الخلل والتغلب عليه في المستقبل المنظور.

غير أنه أيضاً يواجهنا بمعضلات لم نختبرها من قبل، ذكرنا مثل تدفئة سطح الكوكب بآثاره المتعددة، هناك كذلك حقيقة أن تعداد الجنس البشري بصدد بلوغ حد لم يصل إليه أبدا في أي وقت من قبل، ثم وارد أن يبلغ متوسط الأعمار في البلدان المتقدمة مائة عام، خاصة لدى النساء، كانت هناك مخاوف في الستينيات من القرن المنصرم أن تعجز الطبيعة عن إطعام هؤلاء، وأن تتعرض البشرية لمجاعات، وقد تحدث مجاعات بالفعل، ولكن لن يكون سببها عدم توافر الطعام وإنما أسباب أخرى، ذلك أن التقدم الذي تم في مجال الزراعة، خاصة فضل الزراعة البيولوجية والهندسية الوراثية، كفيل بتوفير الغذاء لجنس بشري يبلغ تعداده سبعة مليارات نسمة مع اقتراب منتصف القرن الحادي والعشرين.

وهكذا جاز لنا أن نتحدث عن نوعين من التناقضات الحادة، لا نوعية واحدة كما كان الحال من قبل، لم تعد التناقضات الأكثر بروزا هي تلك التي تتجسد في صورة تناقضات بين الإنسان والإنسان فحسب، والتي يمكن إدراجها تحت باب "المواجهات الأيديولوجية" بين البشر، وإنما ها هي نوعية جديدة من التناقضات بات يتعاظم شأنها، هي التناقضات بين الإنسان وبين البيئة الطبيعية المحيطة، تلك التي نشأت من جراء آثار تكنولوجيا العصر المتقدمة على الإيكولوجيا.

بل ربما كان من الجائز لنا ادعاء أن التناقضات بين الإنسان والبيئة المحيطة بسبيلها أن تكتسب أولوية على التناقضات بين الإنسان والإنسان، ذلك إذا ما تأملنا مستقبلاً طويل الأمد لا يقتصر على العقود القادمة وحدها، ولا حتى على القرن القادم وحده، وإنما مستقبل يمتد إلى الألفية، ولا أعني بذلك أن التناقضات بين البشر بسبيلها إلى أن تختفي، أو حتى أن تخفت، على الأقل في المستقبل القريب، بل أعني بذلك أن التناقضات الناجمة عن جهود الإنسان لاستئناس الطبيعة وإخضاعها لطموحاته سوف تطغى على تلك التي تفصل بين الإنسان والإنسان، وسوف تخفف من وطأتها، وهذه آلية جديرة بأن نمعن فيها النظر.

لغة التخاطب

فمهما احتدمت الصراعات الطبقية، والقومية، والعرقية، والاجتماعية، والحضارية، فإن هناك على الأقل لغة تخاطب، لا شك أن الخلافات عديدة، وبعضها ملتهب، بين البشر والبشر، ولكن إدراك موقف الخصم دائما ممكن لأن البشر يتعاملون فيما بينهم بالحديث والكتابة وبسبل شتى للتلاقي والتفاهم، وها نحن في عصر الإنترنت والحواسيب والأقمار الصناعية قد أقمنا شبكات اتصال لا تنفصم، وتتسع للبشرية كلها، آجلا إن لم يكن عاجلا، أما تدارك غضب الطبيعة وثورتها على الإنسان، ففي ذلك اختلفت والتبست لغة التخاطب تماما! إن الصراع في علاقة الإنسان مع الطبيعة ينتمي إلى ما ندرك أننا لا نعلمه ونجهله، وليس إلى مجالي العلم والمعرفة.

فليس من شك في أن الإنسان قد حقق في القرن العشرين معجزات في مجالات العلم والتكنولوجيا، لم تتحقق في أي قرن سابق، لقد بلغ بعض هذه المعجزات "غزو الفضاء الخارجي، تفجير نواة الذرة، قياس الزمن بالفيتو ثانية، اكتشاف أسرار أمراض كثيرة بدت مستعصية العلاج من قبل.. إلخ" حدا من التفنن والرقي غير مسبوق في تاريخ البشرية، فها نحن فعلا نرتاد عالم "المتناهي الكبر"، المتمثل في النجوم والمجرات، ونرتاد عالم" المتناهي الصغر"، المتمثل في عالم الذرة، وما هو دون الذرة، بل وها نحن نرتاد عالم "المتناهي التعقيد" وهذه الإنجازات الخارقة تبدو وكأنما تفسح لنا فرصا عظيمة للسيطرة على العالم المحيط، على نحو هو الآخر غير مسبوق. غير أنه ثبت أن الأمور ليست بهذه البساطة، فإن آلية التقدم العلمي والتكنولوجي تعتريها هي الأخرى معضلات عويصة، فليس صحيحا، على سبيل المثال، إننا كلما زدنا علما، وزدنا قدرة على قهر المجهول، تعرض المجهول للتقلص والانكماش، بل العكس هو الصحيح، إننا كلما زدنا علما، زدنا وعيا بما لا نعلمه، وكلما اتسعت دائرة المعرفة، اتسعت، وبمعدل أسرع، دائرة ما ندرك أننا لا نعرفه، وهكذا تتقدم معرفتنا بشكل مطلق، ولكنها في الوقت ذاته تتخلف بشكل نسبي، بمعتني أننا ندرك باستمرار أن نسبة ما نعرفه، إلى ما نتبين أننا لا نعرفه، نسبة تقل باستمرار، وليس العكس!

وهذه معضلة عويصة بالغة الدلالة، في عالم - مثل عالمنا المعاصر- اختلت فيه الموازين إلى حد خطير، ذلك أن قطاعا محدودا من البشرية فقط يعيش حياة رغدة، وأغلبية ساحقة من البشرية تعاني وتقاسي، إن أقلية فقط تحظى بتوازن في حياتها ينسجم مع ارتياد آفاق العلم المعاصر واستكشافاته، وأغلبية ساحقة تجد نفسها محبطة، ومصابة بدوار بحكم المآسي التي تعيشها، ولا تجد في العقلانية ملاذا، وإنما الملاذ، من زاوية رؤيتها هو في الإحباط، وخيبة الأمل، واللا عقلانية، واللا علمية، وهذه ظواهر تجد تجسيمها الحي في أوجه الخلل التي باتت تصيب الحياة اليومية، وأصبحت تزداد قسوة ووحشية وهمجية. هذه في كلمة مقتضبة، أسباب احتدام الصراعات الاجتماعية، جنبا إلى جنب مع احتدام التناقض بين الإنسان والبيئة المحيطة، إنها مأساة العصر التي تعيشها غالبية البشرية على مشارف القرن الجديد، والألفية الجديدة.

بهذا المعنى جاز لنا القول إن البشرية تعيش اليوم أكبر تحد واجهته عبر تاريخ الحضارة الإنسانية كلها، تحد متمثل في أن العالم المعاصر في أنتج تكنولوجيا كفيلة بأعظم المنجزات وأيضا بتعريض البشرية للفناء تماما، وكدنا في القرن العشرين، خلال مرحلة الحرب الباردة أن نقضي على أنفسنا وأن ننال من قدرة كوكبنا على أن يكون ملاذا للحياة، نتيجة نشوب حروب نووية بين أنظمة متناقضة، وهذا خطر ربما زال مع زوال " النظام الدولي الثنائي القطبية" الذي ساد وقتذاك، ولكنه ليس بالخطر الذي زال في صور أخرى من المواجهات بين البشر، إذ مازلنا عرضة لتحمل الآثار الجانبية السلبية لتكنولوجيات العصر، وهي آثار قد نفاجأ بها وليست هي في الحسبان نتيجة أن دائرة ما لا نعلمه ونفاجأ به ينمو بسرعة أكبر من دائرة ما نعلمه ونسيطر عليه، وهذا خطر سوف يلاحقنا بصور يتعذر التنبؤ بها سلفا على الدوام، فهل من مخرج من المأزق وقد خضنا تجارب التكنولوجيا العصرية بإيجابياتها وسلبياتها ولا رجوع إلى الخلف؟

"الكوكبة" و"العولمة"

إن قضايا الطبيعة هي قضايا تتسع لكوكبنا كله، والقضايا الكوكبية سوف تتطلب حلولا كوكبية تتجاوز حدود قرارات القمم السابقة التي خصصتها الأمم المتحدة لقضايا الإيكولوجيا، وبالذات قمتا ريو وطوكيو، إنه لا بد من "اختراع" حلول كوكبية، لا بطرق الحماية ولا بالعزلة ولا حتى بالتخطيط كما فهم حتى الآن، وإنما بالانفتاح على المجتمع الكوكبي كله ومعنى ذلك التصدي للثنائيات، والتغلب على تناقضات الإنسان مع الإنسان حتى يكون متاحا للبشرية التصدي لتناقضاتها مع الطبيعة في عصر تسعى فيه إلى غزو الكون الواسع. لم يكن صدفة أن منحت جائزة نوبل في العام الماضي لمنظمة "أطباء بلا حدود" لتكريس هؤلاء جهودهم كلها لملاحقة الأمراض لدى قطاعات البشرية التي تعاني أكثر من غيرها، وحيثما تلتقي أكثر التناقضات حدة، سواء كان مصدرها صراع الإنسان مع الإنسان أو صراع الإنسان مع الطبيعة، لقد أصبحت "الكوكبة" وهي مفهوم يطلق عليها البعض مصطلح "العولمة" ظاهرة، هي النتيجة لتعاظم شأن المواجهة مع "الطبيعة المحيطة" مع "الكوكب" الذي ننتمي إليه بصفته كلا لا يتجزأ، بدلا من الانطلاق من الصراعات بين البشر.. من قاع المجتمع الدولي وليس من قمته.

ومع ذلك، فإن الشركات العالمية المتعدية الجنسيات هي المحرك الأول لمفهوم " العولمة" ذلك أن العولمة تلبي مصالح هذه المؤسسات عبر- القومية قبل خدمة أي جهة أخرى، خاصة في وقت يملك فيه الخميس الغنى من البشرية 80% من مصادر الثروة في العالم، نظير نصف في المائة فقط للخمس الأفقر، وفي وقت مازال يعيش فيه بليون وثلث بليون نسمة بأقل من دولار في اليوم، كيف الحديث عن تجاوز "الثنائية" ، والتفرغ للصراع من أجل الهيمنة على "الطبيعة"، ورد عدوانها على الحضارة البشرية، ومثل هذه التباينات مازالت قائمة؟

قيل إن الاشتراكية فشلت، كوسيلة لتنظيم حياة المجتمعات، لأنها تفترض التخطيط للمستقبل، والمستقبل يتعذر التخطيط له سلفا، ذلك أن المستجدات يستحيل التنبؤ بها بالدقة التي يقتضيها أي تخطيط ناجح.

قيل: ولنعد إلى الرأسمالية ولنطلق الاشتراكية، ولنتبن اقتصاد السوق لا الاقتصاد المخطط، لأن السوق من شأنها" تصحيح نفسها بنفسها"، وبالتالي، إزالة الانحرافات كلما برزت، غير أن التباينات المتفاقمة التي سبق أن أشرنا إليها إنما تؤكد أن السوق لا تصحح نفسها بنفسها إلا استثناء، والقاعدة هي أنها تزيد التباينات الاجتماعية تفاقما.

قيل: ولنضف "بعدا اجتماعيا" إلى آليات السوق، ولنقم نظاما من "التأمين الاجتماعي"، بحد من الكوارث، وينصف من لا تنصفه السوق، ولكن ما معنى اللجوء إلى اقتصاد ملفق يعمل "آلية السوق" باعتبارها مصححة لنفسها بنفسها، وآلية "التأمين الاجتماعي" باعتبار السوق ليست مصححة لنفسها بنفسها؟

بين البشر لغة تخاطب، مما يكسب البشر القدرة على إعمال العقل ، ولا يجوز أن تكون "الأيديولوجية" ، أي النظر إلى "الواقع الموضوعي" من زوايا مختلفة حسب اختلاف المصالح، سببا في إفساد الاستعانة بالعقل والعقلانية.

وبين البشر والإيكولوجيا، لا تخاطب بلغة العقل قط، ذلك أن نجاح الإيكولوجيا في إفساد منجزات العلم والتكنولوجيا، هو حيثما تجهل البشر أسرار الطبيعة وتعتدي على قوانينها التي لم تتح لها بعد فرصة استجلائها.

وقد حان الوقت كي نعلم أن ترشيد العلاقات بين البشر، وعدم تركها للآليات العمياء، شرط لا مفر منه إذا ما أردنا التفرغ للإيكولوجيا، في عصر التكنولوجيا المتقدمة، ذات الإنجازات التي لا رجوع عنها.

 

محمد سيد أحمد