ليوبولد فايس.. عشق الشرق

ليوبولد فايس.. عشق الشرق

في إطار عمليات الاختراق وخدمة المشروع الاستثماري كانت وفادة الصحفي والمستشرق النمساوي "ليوبولد فايس" إلى الشرق، وكانت أيضا تجسيداً حياً للروح المفعمة بحب الحقيقة والبحث عن التوازن في نظم الأشياء والأفكار والأشخاص.

في عام 1900 وفي مدينة "لمبرج" البولندية التي كانت جزءا من النمسا ولد "ليوبولد" وسط أسرة يهودية هيأت له سبل دراسة "العهد القديم" و"التلمود" وشروحهما، وكذلك تعلم اللغتين العبرية والأرامية، كما درس في شبابه الفلسفة والفنون في جامعة فيينا، وبدأ حياته العملية في وضع "سيناريوهات" للأفلام في ألمانيا، مع ممارسته الصحافة التي اتجه إليها بقوة حتى صار مراسلاً لصحيفة "فرانكفورتر زايتونج" التي كانت في حينه من أبرز الصحف في أوربا وأكثرها رواجاً. ومن خلال ذلك اتجه نحو الشرق العربي والإسلامي مقيماً ومتجولاً يمد صحيفته وصحفا أوربية أخرى بمقالاته وانطباعاته التي كان لها صدى في الغرب والشرق معاً.

كان له خال يدعى "دوريان" وهو طبيب نفسي من تلاميذ فرويد يقيم في القدس، وصلته منه رسالة في العام 1922 يدعوه فيها إلى المجيء إليه، فشد الرحال إلى هناك فكانت القدس بوابته نحو الشرق العربي، وبالتحديد اقترابه من حقيقة الصراع العربي الصهيوني الذي كتب في خصوصه يقول: "قبل أن آتي إلى فلسطين لم أفكر فيها مطلقاً كأرض عربية، لقد كنت أعرف طبعا وبصورة غامضة أن "بعض" العرب كانوا يعيشون هناك، ولكنني لم أتصورهم سوى قوم رحل في خيام صحراوية وسكان واحات رعاة. وبسبب أن معظم ما كنت قد قرأته عن فلسطين في الأيام السابقة كان بأقلام الصهيونيين الذين كانوا بالطبع لا يعنون إلا بمسائلهم الخاصة فإنني لم أدرك أن المدن كانت أيضا مليئة بالعرب، وأنه في الحق كان في فلسطين في ذلك العام 1922 خمسة من العرب مقابل كل يهودي واحد، وأن فلسطين بالتالي كانت بلداً عربيا أكثر منه يهودياً إلى درجة بعيدة جداً" ثم يضيف: "إن اليهود لم يكونوا في الحق يأتون إلى فلسطين كما يعود المرء إلى وطنه، ولكنهم كانوا مصممين على قلبها وطناً يهودياً على النمط الأوربي وذا أهداف أوربية".

منذ البداية وليوبولد رجل التساؤل والبحث عن الحقيقة، ولهذا نجده يشتبك أثناء إقامته في القدس مع حاييم وايزمن زعيم الحركة الصهيونية، حين كان هذا الأخير في إحدى زياراته الدورية لفلسطين، فيسأله: كيف ستجعلون من فلسطين وطناً لكم والعرب هم الأكثرية؟! يجيبه وايزمن: أنه بعد سنوات سوف لا يعودون أكثرية. يتساءل ليوبولد: يعني أنكم ستطردونهم من ديارهم؟! وحين يجيب وايزمن: إنها بلادنا.. يرد ليوبولد: قبل ألفي عام كنتم هنا وحكمتم خمسمائة عام، ألا تعتقد أن العرب باستطاعتهم على هذا الأساس نفسه أن يطالبوا لأنفسهم بإسبانيا، لأنهم على كل حال حكموها سبعمائة عام تقريباً ولم يفقدوها بالكلية إلا منذ خمسمائة عام؟

بهذا المنحى من النقاش تتكشف شخصية ليوبولد التي تحمل ذهناً لا ينقصه المنطق وروحاً لا تأبى الإنصاف، إذ لم تمنعه يهوديته من أن يقول ما لم يقل به اليهود، ويضع المشروع الصهيوني منذ البدء موضع التساؤل.

تحت قبة الأزهر

لقد شهدت إقامته في القدس تعرّفه بالأمير عبدالله الذي دعاه إلى زيارة عمان يوم أن كان عدد سكانها لا يتجاوز الستة آلاف نسمة، كما زار سوريا ولبنان، وظل يبحث عن المزيد. إذ ما إن حل عام 1923 حتى عبر صحراء سيناء باتجاه القاهرة، وهناك تهيأت له فرصة الجمع بين مهنته كمراسل صحفي والعمل كاتباً لدى أحد التجار الذي يحتاج في مراسلاته إلى اللغة الفرنسية. وفي أثناء ذلك زار الأزهر والتقى الشيخ المراغي شيخ الجامع الأزهر آنذاك ودخل معه في حوار حول الأديان، وخرج بنتيجة عبر عنها بالقول "من أيما شيء سمعته أو قرأته عن الإسلام من قبل، فقد بدا لي أن معالجته مشاكل الروح أعمق جدا من معالجة "العهد القديم"، ولم تكن فيها فوق ذلك محاباة هذا الأخير لشعب معين، وأن معالجته مشاكل الجسد بخلاف "العهد الجديد" كانت إيجابية إلى درجة قوية. وأن الروح والجسد كل في نطاق حقه وكان بمنزلة وجهين توأمين للحياة الإنسانية التي أبدعها الله".

وفي مصر وهو يستمع إلى الأذان راح يدرك قيمة الوحدة الروحية بين المسلمين وصلة الفهم المشترك بينهم نحو الحياة. ومن حيث لا يدري وجد نفسه وهو في القاهرة يتلقى دروساً في اللغة العربية في أحد أروقة الأزهر، في الوقت الذي مضى يسجل فيه مشاهداته وتأملاته ويرسل بها إلى الصحف الأوربية التي كان يراسلها، كما احتضنته بعض الصحف العربية، وبخاصة المصرية التي كان ينشر فيها بعض ما كان يكتب حينذاك.

لقد كان اهتمامه بالعالم الجديد يتطور نحو الأعمق، حيث نشأ في نفسه كما يقول ميل إلى إدراك للحياة أكثر هدوءا وإنسانية إذا قيست حياة ذلك العالم بطريقة الحياة الآلية العجلى التي كان يجدها في أوربا.

وكلما ازدادت معرفته بجوهر التعاليم الإسلامية وما تنطوي عليه من قيم وإمكانات كان يشعر بالدهشة لتلك المفارقة التي تجسدها ظاهرة التباعد بين واقع المسلمين المتردي وحقائق دينهم المشعة. وفي هذا يقول: "لقد ناقشت هذه المشكلة مع كثير من المسلمين المفكرين من جميع البلاد ما بين طرابلس الغرب إلى هضبة البامير "في الهند" ومن البوسفور إلى بحر العرب، فأصبح ذلك تقريباً شجى في نفسي طما في النهاية على سائر أوجه اهتمامي بالعالم الإسلامي من الناحية الثقافية، ثم زادت رغبتي في ذلك شدة، حتى إني وأنا غير المسلم أصبحت أتكلم إلى المسلمين أنفسهم شفقاً على الإسلام من إهمال المسلمين وتراخيهم". ثم يختم قوله: "لم يكن هذا التطور بيناً في نفسي إلى أن كان يوم وذلك في خريف 1925م وأنا يومذاك في جبال الأفغان، فقد تلقاني حاكم إداري شاب بقوله: "ولكنك مسلم غير أنك لا تعرف ذلك عن نفسك"!. لقد اثرت في هذه الكلمات، غير أني بقيت صامتاً. ولكن لما عدت إلى أوربا مرة ثانية في عام 1926 وجدت أن النتيجة المنطقية الوحيدة لميلي هذا أن أعتنق الإسلام".

لقد اختار ليوبولد فايس الإسلام ومثلما عبر د. عبدالوهاب عزام بعقل مستقل وفكر حر ونفس تكبر الأخلاق والفضائل، وبصر ثاقب يجوز الظواهر إلى البواطن، والصور إلى الحقائق، ويقوم الإنسان بإنسانيته لا بثروته، وبفضائله لا بصناعته.. إنها استجابة نفس طيبة لمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب وإعجاب قلب كبير بالفطرة السليمة وإدراك عقل منير للحق والخير والجمال.

في جزيرة العرب

لم تمض شهور قليلة حتى اتجه محمد أسد وهذا هو الاسم الجديد الذي اختاره لنفسه نحو الجزيرة العربية ليطمئن قلبه كما يقول بشيء من البيئة الأصلية للدين الذي قام النبي العربي بالدعوة إليه، وهناك التقى الملك عبدالعزيز آل سعود الذي أكرم وفادته ومده برعايته، حتى أمضى في نجد والحجاز أكثر من خمس سنوات توسع خلالها في معرفته بالإسلام تحت سقف المسجد النبوي في المدينة، كما تزوج هناك من امرأة عربية، واعتاد ارتداء الثياب العربية، ولم يكن يتكلم غير العربية، وقد حج مرات عديدة إلى بيت الله الحرام، وتعرف على كثير من مسلمي العالم.

لقد كانت الصحراء بيئة غريبة عليه تماماً، إذ لم تطأها قدماه من قبل، حيث عرف في صباه وشبابه فيينا وبرلين وجبال الألب وغابات بوهيميا وبحر الشمال وبحر البلطيق، ومع هذا جذبته الصحراء وأخذت بلبه وراح برفقة البدو يجوب فيافيها ومجاهلها ويتعرف على أناسها وقبائلها، ويألف نمط حياتها، حتى أذاقته تلك التجربة رغم المخاطر والصعوبات طعما جديداً للحياة. وإنه لمن اللافت للنظر وبعد سنوات من هذه التجربة التي دونها في كتابه "The Road to Mecca" الذي نشر لأول مرة فى أمريكا أن يكتب قائلا: "إن الجزيرة العربية التي سأرسم صورتها في الصفحات التالية قد زالت من عالم الوجود، لقد تحطمت عزلتها ووحدتها تحت نهر قوي من النفط والذهب.. لقد تلاشت بساطتها العظيمة كما تلاشى معها الكثير مما كان نسيج وحده في عالم الإنسان. إنني لا أزال أذكر بمثل الشعور المؤلم الذي ينتاب الإنسان إذا ما فقد شيئا ثميناً لا يمكن أن يعوض، ذلك الارتحال الطويل عبر الصحراء عندما سرنا وسرنا، وكنا رجلين على هجينين، عبر الضياء السابح...".

لقاء سري بعمر المختار

إنه لمن الجدير بالإشارة القول إن محمد أسد على الرغم من نزوعه التأملي وعكوفه على المسائل الفكرية في الإسلام، فإنه ما برح منشغلاً بقضايا الواقع الإسلامي، ومهتما بوجه خاص في إشكالية النهضة، لذا حين يكون شكيب أرسلان، أحد عناصر حركة الاستنهاض في ذلك الوقت، ضيفاً على الملك عبدالعزيز يسعى إلى التعرف عليه، ويتبادل معه الأفكار وحين يدرك الدور الذي كانت تقوم به الحركة السنوسية في مواجهة الاستعمار الإيطالي في ليبيا، يهتم بقائدها السيد أحمد السنوسي لا من منطلق إعجابه ببطولاته، بل كما يقول: "إن ما كان يهمني هو أثر انتصارهم في تحقيق المجتمع الإسلامي المثالي في العالم العربي كله".

لقد توسم فيه السنوسي خيراً وإلا لما كان يأتمنه على القيام بمهمة صعبة هي الاتصال بالمجاهدين في ليبيا وتحميله إليهم رسالة خاصة يتقبلها ليوبولد فايس (محمد أسد) برضا ويتجه إلى مصر سراً ثم من هناك يعبر إلى ليبيا ليلتقي في أحراش "برقة" عمر المختار الذي نعته بأسد الجبل الأخضر ويسلمه الرسالة ويجلس إليه ويتباحث معه في شئون المسلمين وقضية الجهاد، وكان ذلك في العام 1931.

باكستان ودولتها

إن نزعة الترحال عند محمد أسد أمست محكومة بهاجس الدعوة إلى النهوض الذي كان يأمله لشعوب وبلدان العالم الإسلامي، حتى يمكن القول إن مهنته الصحفية باتت غطاء لذلك، لهذا لم يلبث طويلاً حتى شد رحاله نحو بلد آخر وكان هذه المرة هو الهند التي كان ينوي بعد زيارتها التقدم نحو تركستان الشرقية والصين واندونيسيا، إلا أن لقاءه بالشاعر والفيلسوف محمد إقبال جعله يلغي برنامجه ليمكث هناك بعد أن أقنعه إقبال بأهمية البقاء من أجل أن يسهم بعد أن أضحى أسد مفكراً ذا خبرة وشأن في تحسين المفاهيم المتصلة بالدولة والجماعة، وفي إيضاح المقدمات الفكرية للدولة الإسلامية التي كانت في مرحلة المخاض هناك. لهذا مكث في القارة الهندية يمارس أنشطة فكرية، ويكتب البحوث الإسلامية، ويلقي المحاضرات، ولعل كتابه "منهاج الحكم في الإسلام" نتاج لتلك المرحلة.

وما إن قامت دولة الباكستان في العام 1947 حتى أصبح مشرفاً على نشر مجلة إسلامية عرفت باسم "عرفات"، بالإضافة إلى عمله رئيسا لمعهد الدراسات الإسلامية في "لاهور". كما أن الحكومة الباكستانية عينته رئيساً لقسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية، ثم اختارته فيما بعد مندوباً لها في الأمم المتحدة بنيويورك.

بات محمد أسد واحداً من ألمع المفكرين الإسلاميين في النصف الأول من هذا القرن، فقدترجمت كتاباته عن الإنجليزية إلى لغات عدة منها اللغة العربية والأوردية والفرنسية والألمانية والهولندية والسويدية.. ونال تقدير كثير من العلماء المسلمين، كما استشهد وأشاد بأفكاره وتحليلاته عدد من كبار الكتاب كسيد قطب ومالك بن نبي والندوي وغيرهم. إلا أنه مع ذلك لم ينل ما يستحقه من الاهتمام والدراسة على الرغم من أنه قدم إلى المكتبة الإسلامية كتابات قيمة نذكر منها "الإسلام على مفترق الطرق" و"الطريق إلى الكعبة" و"منهاج الحكم في الإسلام" وغيرها، فضلاً عن ترجمته لمعاني القرآن الكريم وصحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية.

وإذا كانت حياة هذا الرجل وتجربته تكشف عن طراز نادر من الرحالة والباحثين، فإن ما تركه من أفكار ورؤى تمس قضايا التاريخ والثقافة والصراع في إطار إشكالية العلاقة بين الشرق الإسلامي والغرب الأوربي، لجدير بالمتابعة والتأمل، دون إغفال وقفاته أمام ظاهرة التردي في حياة المسلمين في هذا العصر التي جعل من أمر مواجهتها محوراً لمعظم أفكاره ومساعيه النهضوية.

 

 

علي قرشي