بيير بورديو... فيلسوف العنف الرمزي

بيير بورديو... فيلسوف العنف الرمزي

منذ الستينات وهذا الفيلسوف يقف في مقدمة علماء الاجتماع في الغرب.

تنصب أهم أبحاث بيير بورديو على سوسيولوجيا الثقافة، حيث يعنى بتحليل الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصفتها ظواهر تحكمها قوانين وعلاقات اجتماعية لا تصفها ظواهر لغوية أو خطابية.

ويرتبط فكر بورديو بمصطلحات "العنف الرمزي" و"رأس المال الثقافي" و"إعادة الإنتاج".

وقد عايش بورديو البنيوية وتأثر بها دون أن يصبح بنيويا، بمعنى أنه لا يكتفي بوصف المعطى الاجتماعي بل يصحبه ببناء ميادين العمل، كما استفاد من التفسير الماركسي للظاهرات الاجتماعية دون أن يتقيد بمحدوديته أو يتحجر فيه.

ويقف بورديو "المولود سنة 1930" ضمن منظري علم اجتماع التربية المعاصر والذي يضم اتجاهين: نقدي راديكالي، واتجاه علم اجتماع التربية الجديد، ويضم الاتجاه الأول الماركسيين الجدد، والفيبرين الجدد "أمثال بولز وجينتس واليتش وكارنوي وباولو فريري، وهم يرون أن التعليم مرآة للمجتمع، وان فهم مشكلاته يكمن في فهم السياق الاجتماعي الأوسع، وينتقدون دور التعليم في الحفاظ على الثبات الاجتماعي والمحافظة على بنية اللامساواة الاجتماعية ويكشفون عن انحياز التعليم لأبناء المستويات الاقتصادية المتوسطة والمرتفعة، وحيث تمارس التربية دورها في السيطرة والقهر يعني علم الاجتماع عند بورديو تفسير دراسة بنى العالم الاجتماعي وطرق انتقالها المؤدية إلى إعادة إنتاج هذه البنى أو تحويلها. ولكل وجود للبنى عند بورديو حياتان أولى تتمثل في وسائل تملك وتوزيع الموارد المادية "ومنها قيم السمعة والاعتبار والتقدير" ووجود ثان يتمثل في السمات العقلية والجسدية الناشطة في السلوك الاجتماعي، وهناك دينامية مستمرة بين البنية والعنصر الاجتماعي، بين الموقع الاجتماعي والمبادرة لتعزيزه أو تقليله، ومن هنا تجنب الانزلاق إلى اختيار أسبقية الفعل، فهل البنى الاجتماعية هي التي تحدد سلوك العناصر الاجتماعية أم العكس.

العنف الرمزي

يقرر بورديو "ان أي نشاط تربوي هو موضوعيا نوع من العنف الرمزي، وذلك بوصفه فرضا من قبل جهة متعسفة ثقافيا". ويعني ذلك كل نشاط تربوي يقدم في المجتمع سواء داخل المدرسة وخارجها. والعنف الرمزي يكرس شرعية الوضع القائم، ويعني العنف الرمزي أن يفرض المسيطرون طريقتهم في التفكير والتعبير باعتباره الطريقة الوحيدة الشرعية بالعنف الرقيق، وهو يعتبر التربية عنفا ثقافيا، والتربية هي الأداة الرئيسية لتجسيد علاقات القوة، وإضفاء الشرعية الرسمية عليها، والتربية مجال لممارسة علاقات النفوذ وهو يقرر أن مختلف الطبقات تشتبك في صراع رمزي للعمل على فرض تصور كل منها عن العالم الاجتماعي الذي يكون أكثر ملاءمة لمصالحها فرضه على الآخرين، وتعمل الفئات المهيمنة اقتصاديا على فرض مشروعية سيادتها إما عن طريق إنتاجها الرمزي، أو بفضل المدافعين عن الأيديولوجيا المحافظة، ويجعلون سلطة تحديد المجتمع تعمل لصالحهم.

ومن المسلمات الضمنية عند بورديو أن النشاطات التربوية المختلفة، والتي تمارس في تشكيلة اجتماعية معنية بالسلم بصورة متناغمة بمعاودة انتاج رأس المال الثقافي بوصفه مشاعا يملكه المجتمع ككل، مع أنها في الواقع تعيد انتاج البنية التي تحكم توزيع رأس المال الثقافي، وتروجه بين الجماعات ليسهم بشكل مباشر في إعادة إنتاج البنية الاجتماعية.

ويؤكد بورديو أن أي نفوذ يقوم على العنف الرمزي، وأي نفوذ ينجح في فرض دلالات معينة بوصفه دلالات شرعية، فإنه يحجب علاقات القوة التي تعززه، ويضيف إليها قوته الرمزية الخاصة، حيث يعترف المغلوب بشرعية هيمنة الغالب، ويقوم النشاط التربوي بمعاودة إنتاج الانتقاء لصالح جماعة أو طبقة، وتكون ثقافة المدرسة بمنزلة نظام رمزي ضروري من الناحية الاجتماعية المنطقية تحدد الأوضاع والشروط الاجتماعية. والعلاقة موجبة بين درجة التعسف الثقافي اجتماعيا ودرجة تعسفه تربويا، ويلجأ النشاط التربوي إلى وسائل إكراه مباشرة كالتالي:

علاقات قوة = تعسف ثقافي "لشريحة اجتماعية" = تعسف ثقافي تربوي = تعسف الثقافة = علاقات القوة.

اعادة الإنتاج

يرى بورديو أن المدرسة لا تعمل بمعزل عن البنية الطبقية للمجتمع، حيث تقوم المؤسسة الاجتماعية والاقتصادية بإعادة إنتاج Reproduction الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القائمة، وتحمي مصالح الطبقة المسيطرة، وتعمل على نقل فلسفتها وثقافتها إلى الطلاب، ومن ثم تصبح المدرسة أداة في يد الطبقة الاجتماعية المسيطرة لحماية وتكريس مصالحها، ويرى بورديو أنه لا توجد وظيفة للنظام التعليمي بمعزل عن التركيبة العامة للمجتمع، وبمعزل عن العلاقات الطبقية التي تسود المحيط الاجتماعي، وبالتالي ليس هناك تعليم محايد في وظيفته، فالتعليم إما أن يكون أداة تحرر أو أداة قهر وسيطرة. وتتم وظيفة إعادة الإنتاج من خلال ما نسميه "الرأسمال الثقافي" وهو ثروة متراكمة وأساس تشكيل الطبقات من حيث السيطرة والخضوع للسيطرة، والرأسمال هو كل طاقة اجتماعية تستعمل كوسيلة للسيطرة وهو إما تعليمي أو موروث. وينتقد بورديو وظيفة المدرسة في المجتمع الرأسمالي والتي تبرر التكامل والاستقرار والتوازن في النظام الرأسمالي "كل ما يحدث يجب أن يحدث"، ويكرس العنف الرمزي في نظام التعليم شرعية الوضع القائم.

وتتعدد لديه الأشكال التي يوجد فيها رأس المال: اقتصادي وثقافي واجتماعي، وفي كل المجتمعات يتحول رأس المال المادي إلى ثقافي رمزي، والعكس. ومن صور رأس المال الثقافي الكتب والأعمال الفنية والأدبية والشهادات العلمية والممارسات الثقافية و"التردد على المسرح والمتاحف والثروات". والثقافة موضوع صراع بين القوى الاجتماعية المختلفة من أجل البقاء والسيطرة، وهي أدوات للسيطرة الاجتماعية والسياسية من خلال عنف ثقافي، ولأن النظم التربوية هي التي تحافظ على بنية رأس المال الثقافي فسوف تكون بؤرة الصراع في المجتمع المعاصر.

وتقوم نظرية بورديو ومعه باسرون Passeron في كتابهما "إعادة الإنتاج في التربية والمجتمع والثقافة" على مقدمة منطقية تمثل المبدأ الرئيسي في علم اجتماع المعرفة وهي "كل نفوذ يتمكن في وقت من الاوقات من أن يفرض معاني معينة بصفتها معاني مشروعة، وأن يفرضها عن طريق اخفاء علاقات النفوذ التي هي أساس قوته، يكون بذلك قد جمع قوته الرمزية الخاصة إلى علاقات النفوذ المشار إليها".

ويعتبر بورديو وباسرون دور المعلمين في اعادة الإنتاج الاجتماعي دورا مركزيا حيث يعملون من أجل ديمومة نظام القيم الذي يرتكز عليهم رأسمالهم الثقافي، وينحازون للتلاميذ الذين يظهر في سلوكهم تلك القيم.

ويعتبر بورديو أن التعليم يقوم بعملية انتقاء نسبي، حيث يختار التعليم نوع تلاميذه لا العكس، والتعليم من خلال تفاعله مع الأصول الاجتماعية لمجموعة التلاميذ مصمم كي ينتقي أبناء طبقات معينة، ويلفظ الباقي من خلال الرسوب، والتوزيع على أنواع تعليم غير مرغوبة اجتماعيا "التعليم الفني والمهني".

وعود السوسيولوجيا

ما من علم يشتبك في الجدل الاجتماعي على نحو جلي مثل السوسيولوجيا في رأي بورديو، وهنا تكمن الصعوبة الخاصة في إنتاج الخطاب العلمي ونقله إلى مستهلكيه، وما من ميدان تصبح فيه سلطة الخبراء أشد خطرا وإفراطا مثل علم الاجتماع وهذا الحقل مواجه دون انقطاع بمسألة علميته أكثر من غيره، كما أن الاجتماعي يتعرض للاستجواب دون انقطاع: يستجوب نفسه ويستجوب الآخرين في العلوم الأخرى، كما أن علم الاجتماع علم نقدي يسعى لإزاحة الغطاء عن الأشياء المخبوءة والمكبوتة. وأخطر ما في علم الاجتماع لدى بورديو التشكك في علميته، وتكمن صعوبته الكبيرة في أن موضوعاته محل صراع، وأشياء يخفيها المتصارعون ويخضعونها للرقابة. وإلى جانب أن بقاء علم الاجتماع على الحياد مسألة حساسة، والصراع موضوع علم الاجتماع: الصراع العلمي، والصراع الطبقي وعلم "سوسيولوجيا السوسيولوجيا" هي أحد الشروط المهمة لسوسيولوجيا علمية.

ويعزو بورديو قلة إنتاج علم الاجتماع للحقيقة لأنه لا مصلحة له في إنتاج تلك الحقيقة.

وسوسولوجيا المثقفين عنده ضرورة لكل علم اجتماعي، ويناقش بورديو في مؤلفاته أسطورة حيادية الباحث الاجتماعي، فيرى أن السوسيولوجي يتخذ مجال الصراع الطبقي والعلمي مجالاً له، وهذه احدى خصوصياته، وذلك لأنه حائز لرأسمال معين، اقتصادي وثقافي في مجال الطبقات، وباحث متخصص يحمل رأسماله النوعي. وعلى السوسيولوجي أن يضع ذلك في ذهنه دائما، لكي يحاول السيطرة على ممارساته، ومشاهداته، وسلوكه المتأثر بموقعه الاجتماعي.

ويعزو أحد الأسباب الرئيسية للخطأ في علم الاجتماع إلى العلاقة غير المتحكم فيها بموضوع الدراسة، وفي الجهل بما يؤثر على وجهة النظر للباحث في موضوع معين، أي للموقع الذي يشغله الباحث في الحيز الاجتماعي وفي المجال العلمي.

إن دعوة بورديو إلى إعادة التفكير الجذري في سوسيولوجيا المثقفين تعود لخطورة المصالح والأغراض في هذا الميدان، كما أن كل مكسب تحققه سوسيولوجيا العلم من شأنه أن يدعم علم الاجتماع من خلال إذكاء روح النقد لدى الأفراد، فالعلم يزداد قوة كلما ازدهرت الصبغة العلمية للأدوات في يد المثقف، إن تأكيد بورديو على دعوة السوسيولوجيا تعني أن السوسيولوجيا يبتغيها الجميع سهلة ميسرة "عكس الفيزياء مثلا"، وهي أشد الميادين خضوعا لسلطة الخبراء، وخضوعا لاحتكارهم، وهي أكبر علم يشتبك في الصراع الاجتماعي مما يزيد صعوبة إنتاج الخطاب العلمي ونشره بين مستهلكيه، كما يعاديها رجال الأعمال والدين والصحفيون، لأنها تكشف الأسس الخفية لسيطرتهم مما يترك الساحة للخطابات المسطحة والمستهلكة.

 

محسن خضر