بين الموروث والعيش في الماضي: النساء في العقد القادم

بين الموروث والعيش في الماضي: النساء في العقد القادم

"الماضي ما لا نحيا عدلا أم ظلما" نجيب محفوظ.هل تصح هذه المقولة حين يكون الحديث عن المرأة مستقبلا, خاصة أن الموروث اعتمد عليها لتكون ممثلته الرمزية? إن الإشكالية التي حددنا بها أنفسنا, منذ النهضة إلى اليوم, والتي تضع النساء في مقابلة دائمة بين الموروث والعيش, هي التي أعاقت توظيف معارفنا الحياتية لتلبية احتياجاتنا المتغيرة ومتطلباتنا المتنوعة. رحنا في تيه نظري لا يمت إلى واقعنا بصلة, فتعامينا عنه غافلين بذلك عيشنا بتأثير من الأيديولوجيات التي نشطت في القرن العشرين وجعلت أمر العيش تافها مقابل القضايا الوطنية الكبرى! كما أن الثورات التي منينا بها غيبت الحديث عن تجاربنا الحية, بتغييبها الممارسة الديمقراطية. هكذا صرنا بشرا رهن انتظار عيش يتحقق قانونيا واقتصاديا وسياسيا.

إن العيش مركب من أزمنة تتراوح ماضيا وحاضرا تبعا للمستوى الاجتماعي, الثقافي, الاقتصادي للفئات الاجتماعية وتوجهها السياسي. الحاضر ليس جوهرا قائما بذاته كما هو حال الماضي الذي كان آنذاك مركبا. إن تخلصنا من تلك النظرة الماهوية التي تثبت الأزمان على أنها جوهر, عكس ما هي عليه في حقيقتها, سيزول الارتباك حيال تداخلها فيما بينها, فيتحرر العيش خارج إشكالية الحداثة/التقليد. عندها يصير لعيش المرأة العربية قدرات تعبيرية واسعة بإمكانها التجسد عمليا في الاجتماع والسياسة.

ذلك سيمكننا أيضا من درس الأولويات التي تجعل من التاريخ طبيعة ثابتة, ومن نزع هذه الصفة الطبيعية عن التاريخي, الذي يبدو أنه أكثر الأشياء بداهة في النظام الاجتماعي, خاصة فيما يتعلق بالمرأة والتمييز اللاحق بها. إذ إن المؤسسات السياسية حديثة العهد قد رسخت التاريخ على أنه لا تاريخي أي غير خاضع للمتغيرات, فركزت على اللا متغيرات فيه اجتماعيا, في صياغتها القانونية.

يساعد هذا الكشف على تطوير استراتيجيات, تحول الوضع الحالي لعلاقات القوة في المجتمع, على الصعيدين الرمزي والمادي, بين الرجل والمرأة في حياتهما الخاصة والعامة.

في الحاضر: نحن من العالم وفيه

تقول مديرة شعبة النهوض بالمرأة في إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة, في حلقة عمل جرت في بيروت بين 8 و 10 نوفمبر 1999: "إن تقدما كبيرا تحقق في مجال تهيئة بيئة تمكينية للمساواة بين الجنسين في جميع أنحاء العالم. ورغم العديد من النجاحات والممارسات الجيدة في اتجاه تحقيق المساواة بين الجنسين, فإننا واعون تماما بأننا في بداية رحلتنا في طريق مليء بالتحديات والصعوبات.. ويتمثل التحدي, في سياق العولمة, في تعزيز المساواة بين الجنسين, والتنمية والسلام, عن طريق إجراءات وتحالفات جديدة ابتكارية لبناء مجتمع عالمي شامل يقوم على مفهومي العدالة الاجتماعية والمساواة".

يفسر هذا الكلام, الإحصاءات العالمية حول أوضاع النساء, حيث نجد أنه بين 900 مليون أمي في العالم, الثلثان من النساء. أكثر من 70% من سكان العالم يعيشون في الفقر, غالبيتهم من النساء والأطفال. أما العنف الممارس عليهم من قبل الرجال فتتراوح نسبته بين 25% و50%. إن 2.2 مليون من الموتى في السنة بسبب تلوث هواء المساكن هم من النساء, ذلك لأنهن المسئولات عن أعمال المنزل, مما يجبرهن على قضاء وقت طويل فيه. هن اللواتي يهتممن بالأولاد المرضى والمسنين, وبالتالي هن أكثر عرضة للعدوى. وقد برهن تقرير الأمم المتحدة لعام 1988 على أن وضع النساء في العالم متأخر عن الرجال وأنهن يحظين بمستوى أدنى من التنمية البشرية.

إذن فان التحديات التي ستواجهها المرأة عالميا في القرن الجديد, ستتمحور حول الوصول إلى الثروة, والوظيفة, والمؤهلات, وإزالة سلم الفوارق من خلال التقسيم الاجتماعي للعمل, والترقي الوظيفي, وكذلك تقاسم المهام والوظائف داخل الأسرة, والوصول إلى موقع اجتماعي أرقى. ثم تبوؤ المراكز الأساسية في المسئولية في الحيز العام.

هذه حال العالم وحال النساء العربيات في العالم, على الرغم من الخصوصيات المحلية المتعلقة بالأديان والاقتصاد والسياسة على الصعيدين الفردي والجماعي.

كيف الدخول إذن إلى عالم أكثر تحقيقا لذوات النساء, مادامت الإناث يتفوقن في الثانويات على الذكور, لكنهن يبقين بعيدات عن المواقع المهمة أو هن يستبعدن أنفسهن عنها, بسبب أنماط تفكيرهن التقليدية أو لانهماكهن في حمل مسئوليات الأسرة. وهي إن حصلت على استقلالها الاقتصادي فذلك مقابل نهار مزدوج, وتعب مزمن. ذلك دفع اقتصاديين من أمريكا وإنجلترا هما ديفيد بلانشفلاور من جامعة دارتموث الأمريكية وزميله أندرو أوزولد من جامعة ورويك البريطانية إلى دراسة "الرفاهية الاجتماعية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية" خلال خمس وعشرين عاما, فاستنتجا "أن النساء أسعد حالا من الرجال. لكن الفارق بدأ يضيق. فبعد أن حصلت المرأة على المساواة أصبحت أقل سعادة عما كانت. فكلما زادت المساواة أصبحت الحياة أصعب بالنسبة للمرأة.. إنكن أكثر مساواة, لكن الحياة أكثر صعوبة" ثمة إشكالية تواجهها النساء, إضافة إلى ما ذكرنا, في كيفية الحفاظ على التوازن النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي, كأن تكون أما وزوجة ومنتجة اقتصاديا وفاعلة في الحقل العام وسعيدة في آن معا, فمن الملاحظ تكاثر المؤلفات التي تساعد على الحفاظ على التوازن النفسي, في بيئة ضاغطة, في الغرب الأوربي والأمريكي. وكذلك انتشار أنواع جديدة من الرياضة وأنظمة تغذية تعالج الضغوط النفسية والمادية.

كيف نكون ذواتا فاعلة دون خسران سعادتنا? ذلك هو الرهان الحقيقي.

يقتضي الأمر عدم خضوع النساء لمقاييس الذكورة, عن طريق العمل على قواعد السيطرة في التربية والتعليم والعمل, وصولا إلى أنماط أخرى تقارع التمييز بين الذكورة والأنوثة, في الحميم والبيت والعام. كما تكرس حرية التعبير عن المشاعر الخاصة بالنساء, كما التعبير عن اختلافهن. إذ تتميز لغتهن العاطفية وتعبيراتها عن لغة الرجال.

كذلك السعي إلى مؤسسات عائلية وسياسية أخرى تقوم على المساواة لإشراك الجميع في السلطات التنفيذية والتشريعية وقيادة الرأي في مجتمع ديمقراطي.

ثم هناك حاجة لإعادة النظر بتشكيلات المدينة الفضائية, من ناحية تكريسها لتمثيل النساء ديمقراطيا, في حيزيها الخاص والعام. أي تخطيط المدن بما يتناسب وأوضاعها ووظائفها. إن إعادة النظر بمفاهيم المسافة, القرب والتصاق الحدود, والانتقال من الخاص إلى العام, أو من الحميمي إلى الاجتماعي, ستشكل ضرورة للنساء, كي يمارسن وجودهن بمقتضياته. إلى الآن لم تشارك النساء في العالم العربي, بتخطيط المدن بما يتواءم وحركتها فيها وبما يعكس حضورها.

في الديمقراطية

لقد أصبح الحديث عن الديمقراطية ممجوجا لأنه لم يثمر مواقف نتبينها في الممارسة الحياتية, فبقي تبلورها في حدود النوايا والآمال. إذ إن الخطاب عنها, حتى اليساري منه, قد غيب الجوانب الحياتية منها وهمشها, مثل حقوق المرأة وحقوق الإنسان, والحفاظ علي البيئة وإحلال المواطنية. هكذا خلت الدراسات من عيش الناس لهذه القضايا, فلم نعرف تماما المسكوت عنه المعيق لانفتاح المرأة مثلا على الميادين الفكرية والعملية.

إنه مؤشر على غياب الديمقراطية التي لا تتيح الحديث عن تجارب الناس ومعيشها الذي يتناقض والشعارات والمقولات السائدة. فما الفائدة من دراسات نظرية مستوحاة من النظريات الغربية لمجتمعاتنا? لم لا نجرؤ على ابتكار نظريات خاصة بنا نابعة من واقع حياتنا? لماذا هذا التعطيل الفكري؟

إنه تحد كبير من المتوقع أن تخوضه المرأة من موقعها الهامشي في المجتمع, الذي يسمح لها بالخروج عن قواعد اللعبة السياسية الجارية بما تمثله من مصالح, تجعل الناس سجناءها, فتعدل من قواعدها بما يضمن حقوق الناس في عيشها, متجاوزة الخطوط الحمر الموضوعة من قبل ساسة يعلمون الناس استبطان غبنهم, ويدربونهم على خطاب توافقي يلغي المعيش الذي تنمو فيه أشكال متعددة من النبذ والقهر.

إن إنتاج خطاب جماعي عن عيش الناس لن يكون كافيا إن لم يقرن بقوانين تحمي التعبير عنه.

هكذا ستواجه النساء في المرحلة القادمة قضية إفشاء حقيقة أوضاعهن المعيشة, تجاربهن ورأيهن في كل القضايا, مما سيتيح تأسيس خطاب جديد قائم على العيش, بما يحمله من تعدد رؤى, وتناقضات تعلن حيوية اجتماعية أكثر مما تعلن توافقا يسد باب الاختلاف. ذلك في إطار قانوني لا بد منه لحماية المواطنين/المواطنات من خطاب الاجتماع الذي يهمش التجارب الحية. عندها ستنتفي الحاجة إلى إعلان شيء والعمل في السر على نقيضه.فنتخلص من التناقض بين ما نكتبه وما نعيشه, وبين المكتوب لنا في القوانين والذي نتجاوزه في حياتنا, وبين حملة التغيير التي نشنها ضد الأنظمة والسكوت عن تغيير أنفسنا في حياتنا الحميمة بما يليق بالحفاظ على حقوق الآخر.إن هذا التجاذب هو المسئول عن تعطيل قدراتنا لتفعيل وجودنا في مجتمعاتنا من أجل تحسين شروط العيش ومواكبة التطورات العلمية والفكرية. ففكرنا فقد حيويته الخلاقة لأنه معطل عن إفشاء عيشه ورغباته وتناقضاته. وتفصيل عيشنا وهمومه هو أهم من آراء سياسية "كبرى" تغيب حضورنا, لنصير مجرد أداة خادمة لها.

ففي أواخر القرن العشرين بدأت أفكار تخرج عن صمتها لتقول إن السياسة هي العيش وليس ما هو خارج عنه. ذلك يؤسس منحى سياسيا مختلفا يضع في أولوياته قضايا الناس وليس قضايا رجال السياسة, بما يحقق عدم الفصل بين السياسي والاجتماعي. فعندما لا تصير السياسة "علكة" نلوكها قطعا للفراغ, إنما مرآة جغرافية لعيشنا, ستكون الدولة حينها, على صورة نسائها, فالأهم للنساء ليس المشاركة السياسية في أنظمة تلوك وجودنا على أنه غياب, إنما تحويل جوهر السياسة لتصير "فن العيش". أما اصطناع قضايا مثل "مشاركة المرأة في صنع القرار" فقد حول هذا المبدأ إلى شعار دون مضمون, وجعله هدفا شكلياً محضاً, لا يمس جوهر السياسة, أي مضماينها. وكذلك شيوع مقولة غزو النساء لوسائل الإعلام, التي تبدو باهتة مادامت السياسة الإعلامية لا تشارك في تخطيطها نساء على قدر من الجدية والمسئولية الاجتماعية. إن صور النساء في الإعلام هي من صنيع ترسيمات لا ترقى إلى واقعها, إنما تدغدغ مآرب ونزوات معتلة.

ليس من الصعب وصف ما نريد تغييره في مجتمعاتنا, ذلك لأننا نتداوله سرا. لذا نظن أن النساء مستقبلا سيجاهرن بالمخفي بشفافية تبتعد عن الحسابات الضيقة التي تؤطر تجاربهن بما يضمن بقاءها طي الكتمان, خدمة لنظام اجتماعي ثقافي لا يحبذ العلن ولا يقوى على مجاهرة مواطنيه / مواطناته. وهناك بشائر لما نقول تظهر في تنظيم بعض الندوات الفكرية التي تدرج السير الذاتية في برنامجها, أو تفسح لها مجالا في بعض الكتب البحثية. وكذلك يعيد البعض الآخر كتابة التاريخ من منظور نسوي, كما يعيد كتابة الحكايات الشعبية وقصص ألف ليلة وليلة تأسيسا لذاكرة نضرة عن النساء.

سيتغير إرث النساء بما يسمح بتعبيرات ناضجة عن عيشهن في الحميم والصميم, وعن تحركهن في مدينة أكثر انسجاما مع حضورهن. والرهان عليهن ليس لتميزهن, إنما لأنهن بدءا أمهات, بأيديهن أقدار الرجال والنساء على السواء. لا نية لدينا لتحويل النساء إلى أسطورة القرن المقبل, مثيل أسطورة "المناضل" و"الثوري" في القرن العشرين. بل إن رؤيتنا لها تنزلها من عليائها الرمزي لتصير إنسانا من لحم ودم, له تجارب وآراء ومواقف وبمقدوره التعبير عنها, كما له رغبات وطموحات, بإمكانه ممارستها, بما لا يتعدى وجود الآخرين. أما حساسياته فإنها تتجلى دون تشوش أو إحساس بالذنب أو بخيانة التقاليد.

نعيش عبثية تراجيدية في آخر القرن العشرين, رغم أن الادعاءات وضعت أملها في الرأسمالية والأسواق المفتوحة والتخصيص والعالمية.. لكن التعلق بالقيم الليبرالية قد أدى في النهاية, على ما نشهد, إلى التحلل من القيم الإنسانية, وبنائها لإنسان محدود الأفق, إذ إن مطالبه لا تتجاوز الحد الأدنى من الغذاء والعلم والسكن. مما حوله إلى كائن منكسر ومجروح. لكن حين تكون صياغة القيم بينة ومعيشة بالقدر نفسه, عندها بإمكان المرأة/ الرجل صياغة أشكال وجود على مقاسهما, بما لا يبتعد عن تاريخهما أو حاضرهما, صياغة تبحث عن صور جديدة لها في الماضي والحاضر, تؤسس توافقا ما بين الفردي والجماعي والعالمي.

قالت لي أمي, وأبناؤها مقيمون في الغرب: "لماذا لا يحمي القانون بما فيه الكفاية حقوق المرأة عندنا, مثل ما يجري في أمريكا, حيث يتقاسم الزوجان ممتلكاتهما عند الانفصال؟". أمي مسلمة وممارسة جيدة لإيمانها. ترى حين أصير في سنها هل سأردد قولها هذا, أم سأكون متفائلة كما أفضل أن أكون فتتغير أسئلتي, على نحو يشي بأن القضية هذه على الأقل قد وجدت لها حلولا؟

 

نهى بيومي