أوراق أدبية.. حلم الدولة المدنية

 أوراق أدبية.. حلم الدولة المدنية

عن الوعي بأهمية الدولة المدنية، وخشية السلطة العسكرية يستكمل كاتبنا تحليله لتلك الرواية المهمة "غابة الحق".

لا تفارق رسالة "التمدن والحرية" الموجهة إلى القارئ في رواية فرانسيس فتح الله المراش "1839 1874" "غابة الحق" حلم الدولة المدنية الذي تسعى الرواية إلى تأسيسه، بعيدا عن سطوة العسكر الذين يفرض عليهم تراتب نظامهم النفور من الاختلاف والبعد عن التسامح، خصوصا في حالات الضبط والربط، ومن ثم التعارض مع طبيعة الفكر الذي يصوغه الوعي المدني لدولة التقدم والحرية. وهو الوعي الذي يتجسد في رمز "الفيلسوف" في الرواية التي تضعنا نحن القراء في الموضع الذي نشهد منه المواجهة بين الفيلسوف وقائد الجيش، خصوصا بعد أن بسط الأول للملك "في الفصل الرابع" العلاقة بين السياسة والمملكة، فوجد عيني القائد متقدتين بلهب الغضب، ووجهه مبرقعا بسحابة الغيظ، وأرجع ذلك إلى الطبيعة العسكرية "الناجمة عن مواقع الحروب".

ولا نترك الفصل الرابع إلا ويبدأ الحوار بين الاثنين معبرا عن شكل الصراع الذي يدور، عادة بين عقل السلطة المدنية الذي يمثله الفيلسوف والسلطة العسكرية التي يمثلها قائد الجيوش. وتبدأ المواجهة حين يذهب الفيلسوف إلى القائد ليثنيه عن إصراره على استئصال كل المنتسبين إلى مملكة التوحش والعبودية. ولا يفوت الروائي في هذا المقام تأكيد غضب القائد من قرار الملك بإرجاع العصاة إلى أوطانهم ومملكتهم بعد محاكمتهم. وهو يرفض هذا القرار ويرى أن هؤلاء القوم محتالون منافقون ليس لهم ذمم ولا عهود تربطهم. ويحاول الفيلسوف أن يقنع قائد الجيش بأن الحكمة تقتضي العمل على تغييرهم بدل استئصالهم، مؤكدا أنه متى شاعت بينهم شرائع التمدن، وطفقوا يتعلمونها منذ نعومة أظفارهم، وقام عليهم نظار ومساعدون من طرف قائد الجيش، فإنهم لابد أن يفارقوا تلك الخصال. ولا يعترف الفيلسوف بعائق طول الوقت الذي يلزم لتحقيق ذلك، فالمهم هو الإمكان الموجب في المستقبل الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بتمكين دعائم التقدم الخمس.

ويطلب القائد من الفيلسوف أن يشرح له هذه الدعائم، فيشرحها في فصل كامل "الفصل الخامس" هو أطول فصول "غابة الحق". ويبدأ من تعريف التمدن في اللغة، وهو الدخول في المدينة، وفي الاصطلاح ناموس يرشد الإنسان إلى تجويد أحواله الطبيعية والأخلاقية. ويقوم هذا الناموس على تهذيب السياسة، وتثقيف العقل، وتحسين العادات، وإصلاح المدينة، وأخيرا: المحبة. أما إصلاح السياسة فيبدأ من الصفات المثالية التي يجب توافرها في الشخص الذي يتعاطى السياسة، وهي بدورها، صفات الحاكم الصالح الذي يستطيع أن يعدل بين أبناء شعبه الأحرار، ويقودهم من نصر إلى نصر في مدى التقدم. ويضيف الفيلسوف أهمية المساواة بين البشر من هذا المنظور، وعدم التمييز بينهم على أي أساس يتعارض وإنسانيتهم، وغير بعيد عن المساواة ما يطلق عليه المراش اسم "حالة المطابقة" التي تتصل بضرورة أن تكون القوانين مطابقة لواقع الحال الذي يقتضيها بلا زيادة أو نقصان. ويتصل بذلك مراعاة الصالح العام بما يفرضه من تمهيد سبل العلوم، وتسهيل طرائق التجارة، وتقوية وسائط الصنائع والأشغال، ومساعدة الزراعة والفلاحة، وقطع أسباب التعدي، أما تثقيف العقل فيؤكده المراش بقوله: "لا يعد الإنسان قادرا على الدخول في دائرة التمدن الذي يطلب.. سلامة الطباع إلا إذا كان متزينا بتثقيف العقل الذي يعتبر كآلة عظيمة، بها يمكن لكل من البشر أن يسترجع إلى طبيعته ما أفقدها التوحش. ولا يتم هذا التثقيف إلا بالتروض في العلوم والفنون ودراسة المعارف الطبيعية والأدبية.

ومن المعلوم أن العلم يخلق في الإنسان قلبا نقيا وروحا مستقيمة، ويجعله ظافرا بكل الصفات الصافية، ونافرا عن كل ما يشين الجوهر الإنساني، ولا يترك له سبيلا إلى التفكير في الأمور الدنية والآمال المنحرفة. وهو الأمر الذي تشتق منه كل أفعال الشر، وعليه تبنى كل دعائم التوحش".

نزعة الأخلاق العقلية

هذا الفهم الأخلاقي للعلم لا يخلو من المعنى القيمي للتمدن الذي يمايز بين الإنسان والحيوان. وهو فهم يؤكد نزعة الأخلاق العقلية عند المراش على نحو ما أشرت منذ قليل، لكن الأهم في هذا السياق هو ما يؤكده هذا الفهم من مسئولية ذاتية، تترتب على ما تخلقه المعرفة العلمية في داخل الإنسان من نوازع أخلاقية سرعان ما تنقلب إلى لوامع روحية، خصوصا من الزاوية التي تؤدي بها هذه المعرفة إلى ارتقاء الوعي والشعور، فتؤدي إلى حال من النقاء الذي يباعد بين الإنسان وما يمكن أن يشين جوهره الذي أصبح صافيا. والنتيجة هي العمل على كل ما يدفع بهذا الجوهر إلى المزيد من الكمال في كل تجلياته، واطراح الأغراض المتدنية أو الميول المنحرفة من الحساب، وذلك بوصفها أغراضا وميولا مقترنة بدوافع التوحش. ويشرح الفيلسوف ذلك بطريقة شعرية، قائلا: كيف يقبل الإنسان تدني سلوكه عندما يكون الفلك طائرا به إلى أعالي الأجرام السماوية؟! والمقصود من "الفلك" في هذه العبارات العلم الذي يؤدي رمزيا دور "البراق" الذي يعتليه الإنسان ليرى الكون كله من علٍ، وهو في أصفى وأنقى حالاته. وليست هذه الصورة للعلم بعيدة عن خيال الفيلسوف، خصوصا حين يقول: "إن العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل، والمروض الأكبر لجماح الطبائع، والسبب الأهم لتشييد التمدن والعمار، إذ هو يرفع أفكار الإنسان إلى الحقائق السامية فلا تعود دائرة على مستحقرات الأشياء، ويرسم في مرآة ذهنه صور الكائنات الدقيقة، فلا يعود هاذيا بخزعبلات الأمور" و"بدون تثقيف العقل.. لا يعد الإنسان إلا مع البهائم التي لا عقل لها ولا يمكن أن يدعى متمدنا قط".

وطبيعي ألا تفارق النزعة الأخلاقية الملازمة لمفهوم العلم شرح الفيلسوف لمبدأ تحسين العوائد، خصوصا حين ينظر الفيلسوف إلى أخلاق البشر بوصفها الدليل على حالة تمدنهم ومقامهم على درجات سلم الحضارة. فكلما كانت هذه العوائد والأخلاق جيدة كان تمدن أربابها جيدا وعاليا، والعكس صحيح. ولذلك وجب على الشعب الداخل في دائرة التمدن أن يبذل الاعتناء كثيرا في تحسين عاداته وأخلاقه كيلا يكون تمدنه "من باب الدعوى". ومعنى هذا أنه لا قيمة لمن يدعون التمدن إذا كانت بيوتهم مشحونة بالأثاث العقيم وأنواع الخزف والأقمشة وليس فيها كتاب ولا أدنى آلة للعلم، وذلك لأن زينة العقل تفوق زينة المسكن، وعلامة "الجيل المتنور الذي لا يقبل ما لا نفع فيه". ولا تقدم لمن تشعشع رءوس نسائهم بأنوار الأحجار الكريمة ما لم يكن في تلك الرءوس أدنى شعاع للعقل والآداب. ولا تحسن ثياب التمدن على كل أولئك الذين ينزلون الخرافات منزلة الحقائق، وينذرون بها الآفاق، غير عالمين أنه لا شيء يدنس تلك الثياب النقية ويلطخها مثل اعتناق الأكاذيب والأباطيل وإشاعتها.

ويفضي تحسين العوائد المدنية إلى الحديث عن نظافة المدينة التي يرتبط المعنى اللغوي للتمدن بحضورها، والتي لا تكتمل دائرة الحديث عنها إلا بالحديث عن ضرورة تمهيد الشوارع والأزقة فيها، وعن ترميم الأبنية، وذلك على نحو يرد الجمالي على الأخلاقي، ويجعل من قيمة الجمال الوجه الآخر لقيمتي الخير والحق. والحديث عن صحة المدينة في هذا السياق حديث عن سلامة سكانها، ومن ثم عن سلامة عقول أبنائها وأذواقهم. ودليل ذلك أن استقامة الشوارع العريضة للمدينة تتيح امتداد النور إلى كل مكان فيها، وتجدد الهواء لأبنائها، وتبعثهم على الحركة النشطة التي تزداد حيوية بجمال المعمار وجاذبيته.

ويفضي ذلك إلى تقوية الإحساس بالحب في الإنسان، فالحب هو الوجه الآخر للشعور بالجمال. وهو ذروة دعامات المدنية. ويتضح ذلك عندما يؤكد المراش أن المراد من دعوى المحبة العامة ليس أن تكون هي نقش الذات الإلهية منبثة في جزئيات الخليقة، بل أن تكون هي القوة التي جعلها الله لتحريك الخلائق وتدبير الكائنات، تحت أشكال مختلفة هي الناموس العام. وذلك فهم يترتب عليه نوع من المسئولية الداخلية.

وكما تواجه السلطة المدنية السلطة العسكرية، تأكيدا للحضور المدني للدولة في يوتوبيا المراش، فإن هذه السلطة تواجه قوة الحكم المطلق، وتقوم منه مقام العقل النقدي الذي يراجع آراءه وأحكامه، كي يصل بها إلى ما يؤكد قيم الحق والخير والجمال. ولا يتردد الفيلسوف في ذلك، ولا يخشى من الملك شيئا، بل يظل عليه بالتوضيح الذي يرده إلى جادة التمدن وقيم العدل، وذلك على نحو يبدو معه الفيلسوف بمثابة صورة أخرى من الحكيم "بيدبا" الذي نقلت حكمته السلطان "دبشليم" من حال إلى حال، فالمغزى المضمر في "غابة الحق" يشبه المغزى المضمر في "كليلة ودمنة" من الزاوية التي تؤكد حاجة السلطان إلى الحكمة والحكيم. ولاشك أن ازدهار مملكة التمدن والحرية يرجع، من هذه الزاوية، إلى اكتمال الصفات الذاتية للحاكم العادل بالصفات الملازمة للملكة "الحكمة" والفيلسوف "العقل" الذي ظل يقف من الجميع موقف المعلم العارف بكل شيء.

الحرية والعبودية

وإذا رددنا حضور هذا الفيلسوف على حضور الملكة ورمزية الملك في معنى دولة التمدن والحرية، وبحثنا لمجاز هذه الدولة عن حقيقة يمكن أن تشير إليها في دلالة من دلالاتها، وجدنا أن التركيز يقع بالدرجة الأولى على صفة الحرية بوصفها مقابلا للعبودية، خصوصا في دائرة تحرير العبيد من الرق، ولاحظنا أن هذا التركيز يقودنا إلى خارج النص، ويومئ إلى نموذج دولة بعينها أخذ حضورها الصاعد عالميا يشع في السياق التاريخي لكتابة يوتوبيا "غابة الحق". ويبدو أن أقرب الدول التي نظر إليها المراش بوصفها تجسيدا لهذا النموذج كانت الولايات المتحدة.ودليل ذلك مبذول في المقدمة التي يستعرض فيها الراوي بخياله تاريخ الإنسانية، فيرى ما يؤكد له أن ازدهار التمدن ظل قرين مبدأ "العقل يحكم" و"العلم يغلب". ويتطلع الراوي، من خلال إنجازات العلم، إلى جيوش التمدن الزاهر ممتطية متون الاختراعات العجيبة والمعارف الكاملة، وهي تخطر متموجة بأنوار أسلحة الحكمة والعدل، متدرعة بدروع الحرية الإنسانية. ويلمح ممالك الظلام تهرب أمام هذه الجيوش المظفرة مع أجنادها كافة، ناكصة على أعقاب القهقرة والانكسار، مؤكدة صعود دولة العقل التي بسطت قوتها على كل بقعة ومكان. وبينما هو ثمل بمشاهدة "هذا المرسح الجديد الذي تتلاعب به شموس هذا العصر الحديث" يظهر له من وراء الأفق الغربي دخان كثيف، وتسمع أذناه صوتا آتيا من بعيد، يشبه لعلعة رعد شاسع. وإذ داخله العجب "لما عانى من المنقلب" سمع أصوات الأخبار الشائعة التي تناديه، قائلة:

"هو ذا العالم الجديد "أمريكا" قد رفض قبول شريعة التعبد. ولذلك قد نهض ضد هذه العادة الخشنة بالأسلحة والنار، إذ لم يعد يحتمل وجود بقية لدولة التوحش على سطح الأرض، وها دخان المواقع يبرقع وجه السماء".

وعندما يستوعب الراوي هذه الكلمات ويفي التمعن فيها حقه، يأخذ في الارتياح، والاستسلام إلى المشاعر الهادئة التي تسلمه إلى المنام، وتفتح لعينيه "مرسح الأحلام". وتبدأ الأحلام بالبرية التي يرى أول ما يرى منها ملك الحرية وملكة الحكمة اللذين ينتقل منهما إلى بقية أمثولة مملكة التمدن الخيالية.

ولا يمكن فهم دلالة أسطر المقدمة وبداية الحلم إلا بوصلهما بسياقهما التاريخي الذي تولدت عنه اليوتوبيا الأمثولة كلها، فقد كتب المراش روايته وهو واقع تحت تأثير أفكار الثورة الفرنسية التي انتقلت إلى أمريكا، والتي تحولت إلى عامل من عوامل الحرب الأهلية الأمريكية التي اشتعلت سنة 1861 واستمرت إلى سنة 1865، منتهية بتوحيد الولايات المتحدة الأمريكية وتحرير العبيد. وقد نشر المراش روايته في حلب في السنة نفسها التي انتهت فيها الحرب الأهلية في أمريكا التي أعلنت التزامها بالعمل على تحرير العبيد في كل مكان، الأمر الذي أثار خياله ودفعه إلى الحلم بمملكة جديدة تقوم في عالمه هو، مملكة تؤمن بالتمدن وتعمل من أجله، وتقوم على الحرية والإخاء والمساواة، أي تقوم على القيم التي رفعت الثورة الفرنسية شعاراتها، منذ أن اشتعلت شرارتها التي بدأت بتدمير سجن الباستيل سنة 1789، قبل سنوات قليلة من إعدام لويس السادس عشر سنة 1793 وقيام الجمهورية الفرنسية. وأتصور أن صعود نجم الولايات المتحدة، بالقياس إلى اضطراب أحوال فرنسا، وانكسار نابليون ووفاته في جزيرة القديسة هيلانة سنة 1821، أدى إلى تحول الولايات المتحدة إلى النموذج الواعد لذلك "العالم الجديد" الذي يتحدث عنه المراش في مقدمة "غابة الحق". وذلك أمر ترتب عليه التوحيد بين "العالم الجديد" و"أمريكا" من حيث إشارتهما إلى إمكان مستقبل يخلو من العبودية، ويحقق شعارات الحرية والمساواة والإخاء.

عصر الأنوار

ولا يستطيع قارئ للمراش أن ينكر تأثره بالثورة الفرنسية التي فتنته مبادؤها، ولا تأثره بما أتيح له الاطلاع عليه من كتابة فلاسفة عصر الأنوار الذين مهدوا الطريق إلى هذه الثورة، وأرسوا الأصول النظرية للشعارات التي اقترنت بها. والجاذبية التي تحتلها باريس في هذا السياق دالة على الميول الفكرية للمراش، خصوصا حين نقرأ كتابه الصغير "رحلة باريس" الذي "طبع بالمطبعة الشرفية عند حنا النجار في بيروت سنة 1867"، أي بعد عامين فحسب من نشر "غابة الحق".

لقد أصبحت باريس عاصمة فرنسا في عيني "الجيل الحاضر" الذي انتسب إليه المراش، كما أصبحت "عروسة لجميع مدن المسكونة، وشمسا يدور حولها فلك العالم البشري". وذلك حال يجعلنا نفهم سر تسمية ملك التمدن بملك الحرية في رواية المراش، كما يجعلنا نقرن بين هزيمة "مملكة التوحش والعبودية" وهزيمة المعارضين لمبادئ الحرية والمساواة في الحرب الأهلية الأمريكية على الأقل كما فهمها المراش. ويجعلنا نفهم، كذلك، تجليات مبدأ الرغبة في هزيمة كل القوى التي اشتكى منها المراش في مجتمعه، وحلم بإزالتها، وقام بإزالتها فعلا، في دائرة الحلم الذي تحول إلى حيلة فنية انبنت عليها الرواية.

والجانب النقدي الذي ينطلق عليه الحلم أوضح من أن نشير إليه، ومحاولة تعرية مثالب المجتمع متجسدة في الرواية، يوقع بها الخيال الروائي الهزيمة على مستوى مبدأ الرغبة. ولا يخفى المراش ذلك كله، فهو يصرح به في ختام الرواية، حين تحدث عن تيقظه قبل أن يعرف نتيجة محاكمة رموز مملكة التوحش والعبودية، وكيف تطلع حوله فلم يجد سوى بيداء مجدبة. ويسمع صوتا ينادي من بعيد: هذه برية الشهباء فلتبشر بقدوم الخير. ولكنه يقول لنفسه: "من أين سيأتي الخير إلى هذه القفار المجدبة والساقطة من أعين العناية منذ ألف سنة فأكثر. إن في هذه البشرى ضربا من المحال". ثم يلتفت إلى جهة الغرب، وإذا بأفق عفي من الاخضرار، يهم أن يندفق على تلك القفار اليابسة. ويسمع صوتا يقول: "أبشري، أبشري، يا برية الشام، وابتهجي يا شهباء سوريا فها هي العناية السلطانية مقبلة عليك". وعندما سمع الراوي هذا الكلام استبشر بالخير على يدي السلطان عبدالعزيز الذي كان لابد من تحيته على سبيل المناورة أو المداورة.

وليس ذلك كله بغريب في تقاليد القص التمثيلي، حيث الاتحاد اللافت بين المؤلف والراوي، واختفاء المؤلف وراء أقنعة تدل عليه دلالة اللزوم أو التضمن، وتحويل الشخصيات المجردة إلى أبواق للأفكار المراد توصيلها أو التمثيل عليها بالشخصيات نفسها، ومزج الغاية التعليمية ذات المنحى الأخلاقي في القص بهدف التقية والرغبة في إنطاق المسكوت عنه من الخطاب المقموع. ولذلك تأخذ الصياغة الفنية شكل الأمثولة السردية التي تجمع ما بين أسلوب المقامة والرسالة الفلسفية. ولكن بما يجعل أساس الحركة السردية، أو المبدأ المولد لها، هو طريقة المنامات التي نعرف مثلها في "منامات الوهراني". لكنها لا تبدأ بعبارة الوهراني الشيخ ركن الدين محمد بن محمد بن محرز المتوفى سنة 1575م "فرأى فيما يرى النائم" وإنما تبدأ باستهلال، هو مقدمة ينطلق فيها الراوي على جناح التأمل الفكري.

حيث لا عبيد

وتختتم المقدمة بالإشارة إلى انتصار حركة تحرير العبيد "في العالم الجديد" الذي هو "أمريكا". ولكن المقدمة تنتهي بالحلم الفعلي، حيث يفضى الطيران على أجنحة الأفكار، إلى "مرسح الأحلام" الذي هو الرواية نفسها، الرواية التي تمضي فصولها ما بين الحلم، والهواجس، ومملكة الروح، والمملكة والسياسة، والتمدن، وقواد الشر، والمحاكمة، واليقظة.

ويلفت الانتباه في هذا التتابع العلاقة بين المقدمة وبقية الفصول، فالمقدمة تبدو أقرب إلى الدعوى التي تثبتها الفصول، أو تؤكدها بما هو مثال عليها. وتلك علاقة تذكر بمبنى "كليلة ودمنة" والأمر نفسه موجود بمعنى من المعاني في التتابع السردي لتمثيلات "غابة الحق"، خصوصا من الزاوية التي تتحول بها المقدمة إلى ما يشبه حكاية صغرى تتولد منها حكاية كبرى، هي دليل تمثيلي عليها، وذلك بواسطة الحلم الذي يغدو تجسيدا للدعوى على مستوى مبدأ الرغبة.

وأحسب أن هذا الجانب من "غابة الحق" يؤكد صلتها بتراثها، ويصلها ببلاغة المقموعين وصلها بتقاليد "المقامة" التي يقوم فيها السرد على المزج بين الشعر والنثر. وذلك أسلوب كان لايزال شائعا في عصر المراش، سواء في المحفوظ من المقامات القديمة للهمذاني والحريري والزمخشري وغيرهم، أو المستخدم في المقامات الإحيائية، ابتداء من مقامات الشيخ ناصيف اليازجي "1800 1871" التي طبعها الخواجة نخلة مدور في بيروت سنة 1856 بعنوان "مجمع البحرين". ويأتي الشعر، عادة، في "غابة الحق" ضمن مناطق السرد المتوترة، حيث ترتفع درجة الانفعال، سواء في دائرة الإعجاب أو التآسي أو التمثيل. والشعر المستشهد به من نظم المراش. ويكشف عن موهبته الشعرية التي تركت لنا ديوانا مطبوعا ورسالة شعرية بعنوان "كتاب الكنوز الغنية في الرموز الميمونية" طبع في حلب سنة 1870 "وأنا مدين بمعرفته لصديقي الدكتور يوسف زيدان الذي زودني بمصورات لكل ما تحتفظ به مكتبة البلدية في الإسكندرية من كتابات المراش التي لا توجد إلا فيها لحسن الحظ". لكن تبقى "غابة الحق" درة أعمال المراش، وعلامة المفارقة التي استبدلت بالشعر في كتاباته العمل القصصي الأول الذي، استهلت به الرواية العربية زمنها الذي ارتبط، منذ البداية ،بمواجهة القمع، تأكيدا لقيم الاستنارة التي هي قيم العقل والعلم والحرية والتقدم.

 

جابر عصفور