على صخور السماء

على صخور السماء

1942: "تقوضت المنازل على خمسمائة نفس بشرية بريئة فقضت عليها دون ذنب ولا جريرة، وأصابت حوالي تسعمائة بشظاياها وحممها. كم من الآباء والأمهات والأبناء والأطفال نكبوا بفقد الأحباء..! إن القلم ليشل عن وصف الآلام التي سببتها هذه الوحشية الغشوم".

(هل كنت حتى في ذلك الحين على هذا القدر من السنتمنتالية؟).

"في الصباح أديت امتحان الجبر بعد أن أخذت حماماً بارداً، ولكن كم أجد من الصعب جداً أن أنجح أخيراً بعد عام قاتل من العمل الجاد.

وفي يوم 9 يونيو عدت من الامتحان مطأطئ الرأس مثقل الفؤاد، وكم تضاعف حزني وألمي عندما رأيت القوافل المتصلة من المهاجرين يقصدون "محطة مصر" لكي ينجوا بأنفسهم من جحيم الإسكندرية المحبوبة.

كنت ترى الأسراب يتلو بعضها بعضاً من الهاربين إلى الريف، في انقباض وانكسار واستسلام. على الأقدام، وعلى عربات الكارو، وفي الحناطير، وعربات النقل، والتاكسيات، دون انقطاع، المدينة كلها يخيم عليها شئ معتم كالح كأنما هو الكابوس.. بكيت في هذا اليوم بالدموع الحارة لكي أفرج كربة تعتمل في نفسي. لم أجد لي شهية للطعام أو للكلام أو للحياة. كنت مع الاسكندرية كلها في ألم وضيق وحزن هادئ مكبوت يتجلى حوالي في الوجوه القاتمة والأعين المظلمة.

في 10 يونيه ارتدت الإسكندرية رداء موحشاً رهيباً، كادت الشوارع تخلو من المارة، وكنت إذا أطللت من الشرفة المحبوبة التي تقع على الشارع الممتلئ حياة ونشاطا ارتددت وفي قلبي لوعة وحسرة، بدا الشارع ساكنا شاحباً والنوافذ مغلقة مظلمة، اختفى الباعة بأصواتهم التي تفيض حيوية، لقد هجرت الإسكندرية، قمت بعد الظهر بجولة في بعض المناطق المنكوبة، كانت مشاهد مروعة حقاً، تلال من الأنقاض والرماد، من تحتها بلاشك مئات من القتلى الأبرياء، يحيط بها جنود الجيش المرابط.

كانت محطة مصر بحرا يموج بالأجساد البشرية التي تبغي الفرار، أحاطها الجنود بسياج متين، صف متراص من عساكر الجيش المرابط وبعده صف آخر من عساكر البوليس يحولون دون تضخم الجماهير المحتشدة بالمزيد من الهاربين.

في هذه اللحظة ذكرت التحية الرقيقة والوداع المترفق والنظرة الساحرة.. ترى هل سنلتقي ثانية؟ يا أيها الدهر..! كم كانت أحاديثنا حلوة بريئة مرحة سعيدة، وكم كنت هانئاً، وكم كان عبثنا عذباً محبوباً.. ولكن".

"قلت، بعد أكثر من نصف قرن: من هذه التي تحسرت لفراقها، وتساءلت هل نلتقي مرة أخرى؟ من؟ يا بنات إسكندرية، لا يفرغ لكن رصيد، لا تنتهي الوجوه التي تثب إلي من عتمة السنين الطوال، هالات مضيئة وغير محددة الأسارير، لكن هذا الوجه يراوغني، هل كانت هي منى الأولى التي أحبت في النهاية ابن عمها جاحظ العينين؟ أم هي دولت المرأة الرومانسية الممتلئة التي أرسلت لي خطابات الحب بين أوراق روايات الجيب، كأنها هي التي تلعب دورا في داخل الرواية، أم في خارج العالم؟ أم هي تلك الفتاة التي تلوح لي الآن باسمة مدورة الوجه ولكن نور الذكرى محا معالمه، مدورة الجسم حافية على سطح البيت بفستان خفيف على صدرها الناهد، ينحسر قليلاً عن ساقين مخروطتين؟

هل هو عالم الحرب يضربنا عندئذ، أم عالم الحب لا تنتهي ضرباته؟).

في الظهر كومنا أثاث بيتنا عندجارتنا دولت، وودعناهم، البكاء، والعناق بين الكبار، والوعود بالكتابة، والنظرات ذات المغزى.

في الرابعة والنصف كنا جميعا ما عدا أبي في عربة مكشوفة من قطار بضاعة، متجه إلى الصعيد.

وفي الساعة الثامنة مساء خرج القطار من حدود الإسكندرية، وانطلق في الظلام يشق الريف، العجلات تصطفق بإيقاع رتيب، والدخان يتطاير من فوهة مدخنة القاطرة، أنا وأمي وأخواتي وألبير مكومون بين القفف والألحفة المربوطة واللفف المحزومة، تحت السماء.

في تلك الليلة، عندما بزغ القمر، كنا في عربة البضاعة التي تشق طريقها (لماذا أحب هذا التعبير؟ تشق الطريق؟) بين حقول الأرز الخضراء تبدو، تحت ضوء القمر الناعس كأنها مرايا هائلة قد رميت بين الخضرة بما يترقرق من مائها الساكن الساجي "حتى في الأوقات العصيبة خصوصا فيها لا تفارقني الاستعارة والتشبيه..!) كنا نرى الأنوار الكاشفة تبرق من الإسكندرية، وتخرج من نصف دائرة تشق السماء كسيوف يتصاول بها الآلهة، فتفترق وتلتقي على صفحة السماء الزرقاء التي انتثر فيها قليل من النجوم المنفردة البالية (كذا) والهواء يهب في عنف وشدة فيلدغ الأجسام ببرده القارص مما اضطرني إلى المبيت قابعا تحت معطف دافئ بين كومتين من أثاث المهاجرين مستندا بظهري إلى جدار العربة المنخفض أحس طول الليل بدفء آخر من أمي وأخواتي النائمات تحت الألحفة بين أشيائنا المكومة.

في الليل العميق تحت خيمة من الصمت والهدوء مررنا بجسر كفر الزيات الفخم، ولقينا من كلمات الترحيب والتشجيع من ناظر المحطة ومعاونيه ورجاله ما كان لنا عزاء وسلوى.

وفي الساعة الثانية عشرة ظهراً في اليوم التالي، بعد ست عشرة ساعة، وصلنا محطة القاهرة، وهناك نقلنا أشياءنا إلى عربة بضاعة أخرى لكنها مقفلة إلا من بابين واسعين متقابلين.

كان من الطريف عندي أن رجال وفتيات الهلال الأحمر ("جميلات، أنيقات، لا شائبة فيهن، بعضهن من أميرات الأسرة المالكة، وكلهن ينتمين إلى "مبرة محمد علي") وصلوا إلى المحطة، بينما كان قطار البضاعة واقفاً، ينتظر، ووزعوا علينا سندويتشات فول مدمس، ولكن من غير ملح أو زيت، فول مدمس سادة عادب.

مكثنا في المحطة حوالي ساعة وعندما أخذ القطار يتحرك غمرتني كآبة صامتة فقد روعتني مناظر الناس الذين خرجوا إلى الشرفات من حول خطوط السكة الحديد لكي يتفرجوا علينا، يخبطون كفاً في كف في رثاء وإشفاق. أحسست أنني أرفض هذا الرثاء لنا ولكني أفهمه وأبرره، رغماً عني.

راح القطار ينهب أرض الصعيد، رأيت الأهرام الثلاثة ملفعة بضباب البعد جاثمة في حضن الصحراء بما خيل إلىّ أنه كبرياء وعزةالدهور في مصر هذه التي لا تُنال مهما تلقت الضربات.

(كنت فصيحاً، منفلوطي الفصاحة تقريباً، وأنا أكتب ذلك في الخامسة عشرة من العمر).

"بتنا ليلة أخرى في قطار البضاعة، مررنا ببني سويف والمنيا وأسيوط التي وصلناها ليلاً. لم نبلغ سوهاج إلا بعد أن ظننت أننا وصلنا إلى القطب الجنوبي وأننا لابد سائرون في الطريق إلى العالم الآخر. ها ها ها..!

لم نجد من يستقبلنا في المحطة، لأن الناس ملوا من طول الانتظار ليلتين كاملتين.

عبرنا النيل بالمعدية الحديد التي تتحرك بالجنزير، ووصلنا أخيراً إلى إخميم. لكني لم أكن أرى ما حولي، فقد نال منا التعب والسهر والحزن كل منال.

إخميم أخيراً.. أخيراً.

دخلناها حوالي الثانية ظهراً".

أذكر كيف انتقلنا من منزل إلى منزل بين الأسى والحيرة، حتى حططنا الرحال في هذا العش الصغير في ملتقى شارع الكاشف بدرب بطة، وها نحن فيه من شهرين، وقد بدأ هذا البيت الصغير يصبح عزيزاً علي، حبيباً إلى قلبي، ككل شيء آلفه وآنس إليه.

ثم إنني أذكر كيف كنت أطوف في البلدة، متعرفاً نواحيها، مدققاً في ملاحظة مجاليها، مسروراً من طرافة ما أرى وأسمع، أجد في لغة الناس هنا لذة جديدة، وفي طرق البلدة وضواحيها وحقولها والجبل الذي يكتنف واديها، جدة ومتعة.

في هذه الأثناء مات الأنبا باخوميوس ميتة مفاجئة، لا أحد يعرف بالضبط كيف مات، الأقوال متضاربة، والروايات مختلفة وجرت أحداث خطيرة في دير الملاك ميخائيل الذي تعمدت فيه منذ ثماني سنوات.

"حوالي الحادية عشرة مساء 22 أغسطس، ها هي ذي الأيام تفر فراراً وتتطاير في إثر بعضها بعضاً متسارعة، كأوراق تسقط من دوحة الدهر. ذابلة شاحبة، وتهب بها ريح القدر متتابعة ذاهبة إلى غير رجعة.

تملكني عند الأصيل ضجر وسأم قاتل، مما اعتاد أن يعتصر روحي في هذه الأيام، فذهبت أروح عن النفس على شاطئ النيل، حيث أحب العزلة والسكينة والوحشة بين الحقول الصامتة.

النيل هنا ساحر رائع فالمنحنى الذي يتعرج فيه مجراه يمنحه سعة وجلالا فسيحا مهيبا، فهو هنا أشبه ما يكون ببحيرة ساكنة رقراقة هائلة الاتساع، النخل على أحد شاطئيها في غابة مجتمعة متكاثفة بدت على البعد دقيقة صغيرة، أسراباً من نحل وحشي عاد إلى أوكاره عند الغروب واحتضن أفراده بعضهم بعضاً في حنو ونبلٍ.

وفي الجانب الآخر يبدو الجبل الأشم وقد كست تربته غلالة شفيفة شاملة تميل إلى لون المرمر المغبر صبغتها أشعة الغروب لوناً وردياً رقيقاً تتراوح بين ثناياه ظلال ساحرة تختبئ فيها الجنيات الرشيقة بينما تجثم عند قدمي الجبل حقول منبسطة خضراء ترتفع فيها هنا وهناك نخلات حانية كعرائس الجن الهيفاء، وقد حلت غدائرها، أو كمردة منتصبة تحرس النيل من غوائل خفية رهيبة".

(لا. لا أستطيع الآن أن أترك هذه اللغة المسرفة في "رومانسيتها" دون أن أقول، مثلاً: "يا سلام!" أو "غن يا وحيد غن!" أو شيئاً من هذا القبيل هل عفا الزمن على هذه "الرومانسية" المغرقة؟ أم هي مازالت كامنة عندي، أقاومها وامتثل لها في الوقت نفسه؟ رومانسية أحترمها مع ذلك وأحن إليها).

"المياه ساكنة هاجعة وقد انعكست عليها صورة السماء، فبدت في ألوانها الشفافة الرقيقة التي تعبث بها نسمات الريح كأنما تداعيها أنفاس كائنات علوية.

كان المشهد كله نبيلاً رائعاً وقد كسته السكينة الشاملة وحشة وهدوءاً، تصل إلي فيه، من بعيد، طرقات المراكبية وهمهمة البنات والصبايا عند الموردة وهن يملأن الزلع ويثرثرن.

عندما رجعت كانت الشمس قد توارت في الأفق البعيد وكانت ألوان الحمرة والزرقة والبنفسج تزحف في السماء لتعكس على صفحة المياه آلاف الأشعة الملونة المتماوجة فكأنما هي تشف عن أكوان خفية في الأعماق تغطيها أردية ملونة ساحرة من أعشاب وحشية، وكانت الهضبة تحت الجبل قد ثوت في ظل رمادي جميل.

كانت النسائم تهب في عنف مقبول تارة وفي رقة وادعة طوراً. وفجأة يمزق السكون السائد طائر صغير انسابت تغريدته الطويلة المنغمة في الأجواء التي أخذ يراودها النعاس، ثم ساد السكون، وسادت وحشة الأصيل".

"استيقظت فجأة قبيل فجر الأمس، على أثر نوم طويل.

راقني الهدوء الذي كان يشمل البلدة النائمة قبل تحفزها للنشاط اليومي، فتحت النافذة، وتركت نسيم الفجر البارد المنعش يضرب وجهي في رقة.

كانت الظلمة مازالت سائدة، المصباح الكهربائي في الشارع منتصب يبدد ظلمة الشفق بدائرة من النور الأزرق الشاحب الذي يتلاشى عند منحنى الطريق في ظلال غريبة متمازجة.

وكانت النسوة يتحدثن في الطريق، وهن يحملن جرارهن ليملأنها من ماء النيل، في هذا الفجر الباكر قبل أن تقع عليهن عيون الرجال، كن في هذه الأثواب "البرد" السوداء السابغة، الزلع على الرءوس ثابتة برشاقة، يرمين على الأرض، في ذلك الضوء الكهربائي، ظلالا طويلة بديعة متغيرة.

كم أحب أن أفنى في السكون والهدوء والصمت الشامل المحيط.

قطة أخذت تموء تحت عمود النور، تسحب خلفها ظلها الممتد المتلوي، وأنا أرقب الفجر الزاحف يبعث في أطراف السماء نوراً وادعاً".

ألم يكن هذا الصبى يرى أو يحس غير تلك الصور "الرومانسية" المرهفة المخففة بشاعريتها المتسايلة؟

أم أنه كان يلوذ بها، يهرب إليها، لتعزيه أو لتنسيه، ولو مؤقتاً، آلام قلبه وما يدور حوله من صراعات ومعاشق، وما يعيش فيه الناس من عوز وفاقة؟

ألم ير الأولاد الذين انتفخت بطونهم تحت الجلاليب على اللحم، وجفت جلود وجوههم وضربتها البقع البيضاء من البلاجرا والأنيميا، من أكل عيش الحلبة والذرة حاف أو بعودين جعضيض من على شط المسقى؟

ألم ير الرجال، حفاةً، ناحلين، قاعدين من غير شغلة ولا مشغلة، على عتبات البيوت أو نواصي الشوارع، متقدي العيون، أمِنَ الجوع أم من شراسة الكرامة؟

نعم. رآهم، عرفهم. أحس بهم

ومع ذلك كانوا خيراً ألف مرة من أولادهم وأحفادهم وقد بلغوا الآن مبلغ الرجال، في هذه التسعينيات الآفلة، تقف جموعهم أو فراداهم، صبية أو كهولاً، أو يقعدون على الأرض، في شارع الملك فيصل أو في القطامية، يعرضون قوة سواعدهم بالرخص في سوق العمل النزر الشحيح، فواعليّة وفعلة بناءين وعتالين وتباعي لواري، يجرون إلى العربة الملاكي أو نصف النقل، لينتقي منهم مقاول الأنفار واحداً أو اثنين أو ثلاثة، ويعود الباقون إلى جلستهم على الرصيف، ينتظرون بصبر أو بنفاده على السواء، صحيح أنهم ليسوا حفاة، أو منهم من يلبس البنطلون الجينز القديم تحت الجلابية أو هرابيد الشغل، وأنهم متلفحون كأسلافهم بالتلافيح الصوف واللبد والطواقي، ولكن أين نظرة العزة وشمم النفس؟

 

إدوار الخراط