قصتان

قصتان

ترجمة: حسونة المصباحي

في بداية كل الطرق وكل الدروب, على نفس قاعدة الفكرة التي أبلورها حول ذلك, محفور, عميقاً حتى أنه لن ينتهي أبداً, الدرب الذي خطوت عليه خطواتي الأولى بكل حرية.

كان ذلك في (فيشيجراد) على طرقات صلبة, غير متساوية, كما لو أنها متآكلة, حيث كل شيء جاف أحرش, بلا جمال وبلا فرح, دون أمل في الفرح, دون حق في الفرح, حيث لست أدري ما هي تلك اللقمة المرة, عسيرة الابتلاع في كل خطوة, حيث الحرارة والريح والثلج والمطر تأكل الأرض, والبذرة في الأرض, هنا يُتلفون ويلوون ويقوّسون كل ما يتمكن من الولادة أو الظهور, ويفعلون كل ما في وسعهم لكي يغرسوه عميقاً في الأرض, هناك في الجانب الآخر, حتى يعود إلى العدم والظلمات التي تمكن من أن ينتشل نفسه منها.

تلك الدروب التي لا تُحصى, الشبيهة بخيوط أو شرائط تزيّن المرتفعات والمنحدرات التي حول المدينة, مفضية إلى طريق أبيض أو تختفي على ضفة الماء أو في غابات الصفصاف الخضراء, إن غريزة الناس والحيوانات هي التي رسمت تلك الدروب, الضرورة هي التي سطّرتها, هناك كل شيء جهد, الرحيل والسير والعودة, هناك حيث نجلس على حجر تحت شجرة, في مكان جاف أو تحت شجرة نادرة, لكي نستريح, لكي نصلي أو نعدّ مال السوق, على هذه الدروب التي تكنسها الريح, يغسلها المطر, تسدها الشمس ثم تظهرها, حيث لا نلتقي غير دواب منهكة ورجال صامتين بوجوه حادّة القسمات, أسست فكرة غنى العالم وجماله, عليها, جاهلاً, ضعيفاً, خاوي اليدين, كنت منتشياً بسعادة مدوّخة, فرحاً بما ليس موجوداً, بما لا يمكن أن يوجد, وبما لا يمكن أن يتوافر بالمرة. على كل الدروب والطرقات التي قطعتها فيما بعد خلال حياتي, لم أعش بغير تلك السعادة, بتلك الفكرة التي انبثقت في ذهني وأنا في (فيشيجراد) عن ثراء العالم وجماله, ذلك أنه تحت كل طرقات الأرض كان يجري دائماً, واضحاً, جلياً بالنسبة لي أنا وحدي, درب (فيشيجراد) الخشن منذ أن غادرته وحتى هذه الساعة, على أي حال, على هذا الدرب عدّلت خطوتي, وكيّفت طريقتي في السير, طوال حياتي لم يغادرني أبداً.

في الأوقات التي يُتعبني ويقصيني العالم الذي أعيش فيه بسبب سوء حظ, وفيه أحيا بأعجوبة, حين يتعتّم الأفق, وأفقد وجهتي, أمدّ أمامي, مثل بساط الصلاة الوفيّ, درب (فيشيجراد) الخشن, البائس, الرائع الذي في الحين يداوي كل الآلام وكل الأحزان ذلك أنه يحتويها جميعاً ويتجاوزها, هكذا, مرات عدة في اليوم, مستفيدا من كل هدأة في الحياة, من كل استراحة عقب نقاش, أجتاز مسافة صغيرة من ذلك الدرب الذي ما كان عليّ أن أغادره أبداً, وهكذا, حتى آخر لحظة في حياتي, في العلن وفي السرّ, سأكون قد قطعت رغماً عني, انطلاقاً من درب (فيشيجراد), المسافة التي حدّدها لي مصيري, حين تتوقف حياتي, سوف يتوقف الدرب ليضيع هناك حيث تنتهي كل الدروب, هناك حيث تختفي كل الطرقات والمسارب السيئة, هناك حيث لا سير ولا جهد, حيث كل طرقات الأرض تختلط لتصبح كتلة من الخيوط السخيفة, ثم تحترق مثل شعلة الخلاص في عيوننا التي تنطفئ بدورها, ذلك أنها قادتنا إلى الهدف وإلى الحقيقة.

***

المنجل

يوم سوق المدينة, تضج بأصوات مختلفة, خوار ثيران, ثغاء خرفان, نداءات لرجال يتحاورون حول الأثمان, لكن فوق كل هذا, بإمكاننا أن نسمع عبر الشوارع, صوتاً معدنياً, إنهم هؤلاء الفلاحون الذين يجرّبون المنجل الذي يرغبون في شرائه وذلك بدقّه على حجر عتبة المحل.

نحن نسمع ذلك طوال النهار. دان, دان, دان, تسين, تسين, تسين!

الفلاح لا يفكر طويلاً في شئونه, لكن في اللحظة التي يريد أن يقضيها, يبذل كل ما في وسعه من أجل ذلك مبرزاً كل طاقة فكره وذكائه وجسده, حتى وإن كان الأمر لا يتعدّى شراء منجل.

قادماً من قريته المعلقة فوق الجبل يصل (فيتومير) إلى المدينة في أول الصباح, وبسرعة يتمكن من أن يبيع كل ما جلبه, وهاهو الآن يتمتع بكل يومه الربيعي ليقضي شأناً يشغله منذ فترة طويلة: شراء منجل.

يشرع في التزوّد بالمعلومات اللازمة مثرثراً يميناً وشمالاً, وبالغدو والرواح أمام الدكاكين ثم ينتهي به الطواف بالدخول إلى دكان يعرفه أكثر من البقية, على سؤال صاحب الدكان يجيب إجابة محتالة غامضة, ثم يلقي نظرة على البضاعة المعروضة, ينتهي بأن يكشف عن بعض أسراره, وعلى التاجر أن يحدس ما تبقى ويأتي صبيه بالمناجل ملفوفة في جوتة, ومشدودة إلى بعضها بعضاً مثل السيوف.

يقرفص الفلاح, ويخرج منجلاً بعد آخر, يتفحص شكلها, ألوانها, يجرّبها حتى يعرف إن كانت قاطعة بشكل كاف, يحملها مثلما يحمل بندقية, يصوّبها باتجاه هدف معين وكأنه يريد أن يطلق النار, يبصق على المعدن, يلمسه ويحكّه, صبي التاجر واقف إلى جانبه, ضئيل الجسد, فاقد الأسنان, في عينيه الصغيرتين يبرز تعبير ماكر ليس فيه أيّ علامة من علامات الطفولة.

بعد أن يختار منجلين أفضل من البقية, يخرج (فيتومير) ليضربها الواحد بعد الآخر على حجر العتبة, الصبي الذي تبعه يلاحقه بنظراته وهو مستعد أن يدفع الثمن غالياً للتخلص من هذا الفضولي الثقيل, ويبدو له, أنه لو كان وحيداً, لاستطاع أن يكشف بطريقة أفضل عن عيوب المنجل, وهو يجهد نفسه لكي ينسى صبيّ التاجر وكل ما ومَن حوله, يضرب المنجل على الحجر, ويقرب في الحين من سمْعه.

ومثل قائد جوقة موسيقية, يتفقّد معيار النغم, يتنصّت إلى رنين المعدن حتى حين يغدو دقيقاً جداً, وهو يبدو غائب الذهن, وهذا الرنين يجرّه إلى مكان قصيّ, بعيداً عن هذه المدينة التي لا مكان له فيها, والتي لا يأتيها إلا لقضاء حاجة ضرورية, وهو يرى نفسه في الحقل, في قلب فصل الحصاد, ومنجله المشحوذ جيداً يصفّر بين السنابل مثل ثعبان, ملقياً الحصْدات, صوفاً طويلة مقوّسة فوق منحدر الحقل.

يمرّ فلاحون آخرون, يتوقفون للحظات, يتنصّتون, يدلون ببعض الملاحظات, يعطون بعض النصائح ويعلنون أن الرنين لا يعين شيئاً, ذلك أن مناجل (فارستار) لم تعد مثلما كانت من قبل, يوافق (فيتومير) دون أن يسمع ما يقولون, كل شيء فيه مشدود إلى أفكاره وإلى رنين المنجل الذي في يديه.

يعاود ضرب المنجل على الحجر حتى يفقد التاجر صبره, ذلك الصبر الذي يختص به أصحاب الدكاكين في (البوسنة) فيخرج إلى العتبة ويلقي عليه نظرة يلمح فيها غضبا لم يعد باستطاعته أن يكبحه:

- تريد أن تطمئن يا فيتومير؟ وأنا أقول لك إنهما جيّدان, ليس فيهما أيّ عيب.

- نعم - يقول الفلاح - ليس لأنه موافق على ذلك, لكن لكي يربح الوقت حتى يفكر بهدوء دون أن يشغل ذهنه بأقوال التاجر, على مقبض المنجل الحالك, كتبت بالخط الغليظ المذهّب كلمات غير مفهومة بالنسبة لفيتومير: (Bochme Undsohn, Neustaot), وربما لهذا السبب يسمّيه الفلاحون (المذهب), الثاني يسمّونه (البترولي) وهو يلمع بإشعاعات زرقاء لفولاذ مسقي, الكلمات المكتوبة عليه, ونوعه, شعار بأربع أوراق فضيّة اللون.

- يجب ألا تتعب نفسك, أنت ترى جيداً الكتابة والشعار ذا الأوراق الأربع!. يقول التاجر بإلحاح واضح.

- نعم.. نعم, يقول فيتومير الذي يعرف جيداً أن الكتابة يمكن أن تخدع حتى الذين يعرفون القراءة, وأن الصور ليست سوى خديعة لمنعه من أن يرى الواقع بوضوح.

-نعم. نعم!

هذا كل ما يقوله فيتومير للتاجر, لكن دون أن يكفّ عن التحدث إلى نفسه, وهو يتحدث إلى المنجل الذي يمسكه بيديه والذي يشغل كل نظراته وكل أفكاره, ويشدّ كل الانتباه الذي بإمكانه أن يكون قادراً عليه وسط تلك الجموع الكاذبة المخادعة المحتالة.

وهو يقول مخاطباً نفسه: (أعرف جيدا, كل ما يكتب وما يرسم جميل, لكن هذا الجمال بعد أن نكون قد دفعنا الثمن, يضمحل تماماً, ولا يتبقى منه سوى السراب, والذي يعقب ذلك ليس جميلاً بالمرة, إنه ما يقتطعه التاجر من لحم الفلاح الغلبان المسكين, الجمال, الحروف المذهّبة. أنا أحتاط في كل هذا تماماً مثلما أحتاط من أفعى وسط العشب, لكن ما العمل? عشب (ريكافي) الخشن الغليظ لا يعرف ما الكلمات, وما الرسوم, ما يريده هو منجل, منجل قاطع لا يرحم. والمنجل, هذا شيء على الأقل أعرفه, وليت هذه أول مرة أشتري فيها منجلاً, حين ننظر إليه في الدكان نراه جميلاً, مكابراً مثل سيف الفارس المغوار, لكن حالما تأخذه إلى هناك, فإنه يتحوّل إلى مومس ألمانية, وهو يذوب في العشب مثل الشمع, أنا أعرف ذلك جيداً!), متحدّثاً إلى نفسه على هذه الوتيرة, يشرع فيتومير من جديد في دق منجليه على حجر العتبة, وكأنه يرغب في إجبارهما على الجهر بالحقيقة المخفية وراء الرسوم الكاذبة والكلمات الغامضة.

ثم يتناول كل واحد منهما ويأخذ في تفحّصه طويلاً وبانتباه شديد, هي الخطوط المذهّبة والزرقاء التي تجري على صفحة كل واحد منهما, يقرأ (مصيره) ويتبع الطريق الذي قطعه لكي يصل إليه, هو يرى, أو هو بالأحرى يعاين المنجم الذي استخرج منه المعدن, والفرن الذي صُهر فيه, والحدّاد الذي شكّله على تلك الشاكلة, ووضع عليه تلك الكلمات, ومئات الأيدي التي مرّ بها بعد ذلك, سواء داخل المعمل, أو خارجه, أيادي الباعة الممتدة من فيينا إلى سراييفو, التي تقطع الأنهار, والجبال إلى أن تصل به إلى عربة في (فيشيجراد), في كل يد, يتبقى منه شيء قليل, كل واحد استفاد منه, كل واحد؟

كل هذا يشعر به فيتومير بشكل غامض, لكنه حاد مثل ألم جسدي, لكن هذا المنجل, بعد كل شيء, عليه أن يشتريه وأن يحتفظ به أطول وقت ممكن, ليست هناك طريقة أخرى للتعامل معه: (آه يا لبؤس هذا العالم!), وهاهو فيتومير يضرب منجله على حجر العتبة بكل قوّة حتى أن الفلاح يرفع رأسه, وقد انتشل بكل عنف من أحلامه, ويظل خجلاً إلى حد ما.

بعد تردد, يتخذ فيتومير قرارا تماماً مثلما يقرر الإنسان أن يرمي نفسه فجأة في الماء, وهكذا تبدأ مساومة طويلة بينه وبين التاجر, حتى أن هذا الأخير, برغم تعوّده على مثل هذه المناقشات المتعبة المليئة بالنفاق والحيل, يعود إلى بيته, وبعد أن يغتسل ويجلس ليتناول غداءه, يلتفت إلى زوجته ويقول لها: (هؤلاء الفلاحون القذرون, حين نتوصل إلى أن ننتشل منهم قرشاً واحداً فكما لو أننا انتشلنا قلوبهم!).

تنتهي المساومة أخيراً, يدفع فيتومير ثمن المنجل, يعتلي ظهر بغله الذي حمل في الصباح أكياساً من البطاطس, يضع المنجل في قفة وراءه, ثم ينطلق.

في الطريق, يتوقف لكي يشرب عصير خوخ, ويتحدث قليلاً إلى الناس, في مواضع مختلفة, خصوصاً عن المنجل الذي اختاره, يدعو رجلين إلى شرب كأسين من عصير الخوخ, ويشرب هو أيضاً كأساً آخر, ثم كأسين, ثم ثلاثا, ودائما بسبب المنجل, وهو لا يتحرك باتجاه بيته إلا عند الغروب.

البغل يصعد الجبل بصعوبة وكأنه نملة, أفكار فيتومير الآن واضحة, أو على الأقل هو يرى أن الشراب الذي تناوله لم يشوّش أفكاره بالمرة, بل وهبه القوة والشجاعة, وشحذ طاقته الفكرية واهباً إياه الرغبة في الكلام والغناء, الآن هو يرى بوضوح أكثر من أيّ وقت مضى, وبإمكانه أن يدرك بشكل أروع وأدق خفايا رنين المنجل على حجر العتبة, وأن يناقش التاجر بطريقة أكثر ذكاء وحكمة.

تلك هي حاله دائماً, حين يكون في المدينة, يحس أنه دون طاقته الحقيقية, وأنه مرتبك وأرعن, وعديم المهارة. حالما يخرج من وسط تلك الجموع الغفيرة, ويشرع في الصعود إلى قريته, يصبح كل شيء واضحاً, ويمتلك جديد القوة والثقة في النفس, لكن يوم السوق المقبل, سيكون كل شيء كما كان قبل.

إنه الاضطراب الذي لا ينتهي.
يضرب بغلته, ثم يستدير, ويلقي نظرة على ذلك المنجل الذي اشتراه بثمن غال, والذي أتعبه, وهاهو الآن خلف ظهره, ملتحقاً به مثل زوجه, مَن يستطيع أن يعلم أيّ شيء تخفيه الأشياء؟
مَن يدري أنه اشترى المنجل الأفضل؟ وهو يرى الآن التعبير الذي ارتسم على وجه التاجر لحظة أدخل يده إلى جيبه ليدفع الثمن, يرى أنه ليس باستطاعته أن يفك ألغاز ذلك التعبير تماماً كما هو عاجز عن فك رموز ما هو مكتوب على مقبضه, لعل المنجل الآخر كان أفضل, مَن يدري؟ على أي حال, كل شيء انتهى الآن, ولابدّ أن ينتهي, غير أن الشك يظل يحفر فيه مثل سكين, يلتفت من جديد ليلقي على المنجل نظرات مرتابة مفعمة بخيبة مرّة.

نظرة إلى اليمين, وإذا به يرى المقبض الحالك, نظرة إلى الشمال وإذا به يرى الحدّ الفولاذي الذي ألقى عليه القمر الطالع للتوّ شعاعاً فضيّاً خفيفاً, وهاهو يخاطب منجله مرة بكلام عاشق متيّم, ومرة كما لو أنه عدوّ لدود.

- أنت لا تعرف القرية التي أنت ذاهب إليها, لذا لا تكابر, هل تعتقد أننا سوف نضعك في أفضل مكان في البيت, ونمضي كل وقتنا في قراءة حروفك المذهّبة? ستكون سخيفاً إذا أنت اعتقدت هذا! نحن لا نهتم لا بالكتابات ولا بالرسوم, نحن نعيش حياة صعبة, صعبة للغاية, وحيواناتنا أيضاً, حتى الطبيعة عندنا تعيش حياة صعبة, وقد كان جدي - يرحمه الله - يرسلنا ونحن صغار لجمع الأعشاب وتكديس التبن في المخازن, كانت الشمس تضرب رءوسنا, لكننا لم نكف عن العمل, كانت الأمهات يتوسلن إليه حتى يسمح لنا بقدر ضئيل من الراحة, غير أنه كان يرفض ذلك رفضاً قاطعاً, أتذكر كل ذلك, وأتذكر أشياء أخرى أفظع وأمرّ منها!

يبتسم فيتومير للمنجل الذي يلمع في ضوء القمر, ثم يواصل الكلام:

- غداً.. نعم غداً, سوف آخذك إلى الحقول لأسمع رنينك, عندها سوف تعرف بالضبط ما هي الحياة التي نحياها!

في هذه اللحظة, على ضوء القمر الباهت, رأى فيتومير السطيحة, فعرف أنه أصبح جدّ قريب من القرية, عندئذ أخذ يغني بصوت عال, مطلقاً عواء ذئب, دون أن يكون لغنائه معنى أو نغم كما لو أنه يريد فقط أن ينتقم من عدو لا يريد أن يتركه آمناً حتى ولو للحظة واحدة.

 

إيفوأندريتش