أرض السواد

أرض السواد

بقلم: طالب الرفاعي

عبد الرحمن منيف، قامة روائية عربية سامقة، روائي يعمل بهدوء، لكن، بجهد دءوب لا يستكين، وهمة عالية لا تفتر، ورؤية قوية مخلصة، تأبى إلا أن تكون تؤكد حضورها ووفاءها العربين عملاً بعد عمل، ورواية تلو الأخرى

يقول الناقد, الدكتور علي الراعي, في كتابه المرجع (الرواية في الوطن العربي), في ختام عرضه لرواية عبدالرحمن منيف (شرق المتوسط): (هذه رواية شجاعة, مرهفة الحسّ, تحبّ الإنسان حتى الجنون, وتتفجّع لمصيره حين تصادر حريته وسعادته, وفرحه, وجسمه وشرفه, تمجّد الإنسان حين يصمد, وتحدب عليه حين يسقط, وتوضح شقاءه مظلوماً وظالماً).

إن عبدالرحمن منيف, وفي روايته الثلاثية الجديدة (أرض السواد), إنما يأتي حاملاً الهم ذاته, والمناداة ذاتها, فهو قبل وبعد كل شيء, يقف إلى جانب الإنسان, الإنسان في أوله وآخره, في لحظات ضعفه وقوته, الإنسان المطلق.

إن عبدالرحمن منيف, الروائي المبدع, والذي عرف العراق, وعاش فوق أرضه, وأحبّه, وبسبب من رؤيته لمأساة الشعب العراقي الطاحنة, وذاك النفق المظلم الذي يعيش فيه, وكيف أنه ومنذ ما يزيد على العقود الثلاثة يرزح ويئن تحت حكم دكتاتوري تسلطي ظالم ووحشي, لا يقيم وزناً إلا للقوة والدم, إن عبدالرحمن منيف, يجرّد قلمه, يقف إلى جانب الشعب العراقي, يكتب رواية عن الإنسان العراقي في أرض سواده, الإنسان صانع الحدث والحياة, ذاك الذي يأبى الضيم والحيف, ومهما طال احتماله وصبره, وكأن لسان حال الرواية جاء ليشد على يد الشخصية العراقية, يقول: لا تغير ولا أمل بتبدل حال العراق, وإنقاذه من مأساته إلا بالشعب العراقي, ولا خروج من كابوس حكم صدام حسين إلا بصوت وتضحية وفعل سواد العراق!

إن صدور رواية جديدة للروائي عبدالرحمن منيف, يعدّ حدثاً أدبياً عربياً لافتاً, سواء من جهة التوقع الكبير لرواية متميزة يكتبها أحد أهم أعمدة الرواية العربية المعاصرة وحامل جائزتها الأولى, أو من جهة تأكيد المكانة والأهمية التي احتلتها الراوية العربية!

(إلى نورة, أمي, التي أرضعتني مع الحليب حبّ العراق), يشي إهداء الرواية في بعض منه, وكأن عبدالرحمن منيف صاحب خماسية (مدن الملح), يكتب ثلاثيته الروائية (أرض السواد) سداداً لدين أو نذر يطوّق عنقه! سداداً لعشق يسكن منه القلب, ويحتل منه الأنفاس, وهذا ما تكشفه أحداث الرواية (الطويلة) التي تمتد على ثلاثة أجزاء, ومساحة (1448) صفحة, حيث إن حبّ عوالم العراق, والشخصية العراقية والغوص فيهما, وحده هو الحدث الرئيسي للرواية, العراق: أرض السواد, ببشره, وأرضه, وتاريخه, وجغرافيته, وسياسته, وأعراقه, وقوته, وضعفه, ولهجة أهله, وقسوته, وأفراحه, وأحزانه, وأزقة بغداده, ومقاهيها بروّادها, وأنهاره, وجباله, وصحاريه, وزرعه, وفيضانه, وحروبه, ودسائس حكامه ومحكوميه ووحشيتهم... العراق, الذي كان, ومازال, وسيبقى قرباناً منذوراً للحروب والمؤامرات والقتل والدم, كما هو منذوراً للقلاقل والوجع والدمار والحزن في سواد أيامه, وللفرح العابر والاستقرار والرخاء في نادرة أيامه القليلة!

يقدم منيف إشارة في بداية روايته (أرض السواد) قائلاً: (لهجة بغداد مليئة بالكثافة والظلال, وقد استعملتها في الحوار للضرورة, دون محاولة لإظهار براعة لغوية, أتمنى على القارئ أن يبذل جهداً من أجل التمتع بجمال هذه اللهجة), من هذا المنظور, فإن منيف عبّر عن عشقه وولهه وإخلاصه للهجة بغداد, كما أظهر براعة عالية جداً في استحضار واستنطاق واستخدام وتوظيف والخوض في عوالم تلك اللهجة, لكنه في مقابل ذلك, حمّل القارئ العربي - غير العراقي - مهمة وعبئاً كبيراً, وطالبه بجهد شاق ومضن, فالرواية تحتاج إلى قارئ خاص, قارئ على دراية ومعرفة بلهجة أهل بغداد, قادر على فهمها وفك رموزها وإيماءاتها وبواطن إشاراتها الدلالية, أو أن صعوبة كبيرة ستواجهه, تبقى تلاحقه طوال أجزاء الرواية, وربما صدّته, أو وصلت به لحد عدم القدرة على متابعة الرواية, فالحوار باللهجة البغدادية اليومية المعتّقة يشكّل الجزء الأهم والأكبر والأمتع في الرواية, ناهيك عن كونه يشكّل في المستوى الآخر, الأرضية الأولى الضرورية لفهم نفسية وطرق تفكير سواد العراق, وبالتالي عوالمهم المتشابكة! إن الوقوف أمام معنى مستغلق لكلمة, ومحاولة سبر كنهها إنما يصيب الاسترسال في القراءة, والاستغراق بمتعة الحدث في مقتل,خصوصاً أن الرواية تمّ نشرها لدى داري نشر في الوقت نفسه, إحداهما في بيروت والأخرى في الدار البيضاء, وكأن عبدالرحمن منيف يتوجه بروايته إلى سواد القارئ العربي من المحيط إلى الخليج!

نموذج للرواية الكلاسيكية

ثلاثية (أرض السواد) تمثل نموذجاً قياسياً منضبطاً وجليّاً للرواية الكلاسيكية, حيث السرد بخط أفقي ووتيرة واحدة يأتي متوازياً ومتوازناً ومتناوباً مع الحوار الدائر باللهجة العامية, ملكة الحكي, التي يظهر بها عبدالرحمن منيف متفوّقاً بجدارة تجعل منه أحد أهم حكّائي الرواية العربية بامتياز, حكي ممتع وسهل ومؤثر نطل منه على خفايا وأحوال وعوالم ونفسيات وأحلام الناس, كل الناس, أهل الصوبين في بغداد, نماذج بشرية متنوعة لا تكاد تنتهي, رجال ونساء, وراوي مرجع حاضر, جامع مانع, يأتي على ذكر جميع أحداث الرواية بمعرفة كلية يُحمد عليها, راو, عالم بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة, يضع أبطاله في الموقف, يستنطقهم, يضع الكلمة على لسانهم, يختار لهم ما يقولون, ويتركهم يسترسلون كأحلى وأصدق ما يكون الحكي والقول, ويكرر هو ما يريد, ويزيد ويعيد ما يحلو له, وليس للقارئ إلا أن ينقاد خلفه ممسكاً بطرف ردائه, وحتى آخر سطر وكلمة في الرواية.

ثلاثية (أرض السواد) سجادة فارسية بديعة متقنة التطريز والصنع, خيطها الحرير الملوّن ونمنمتها الباهرة هي رسم ملاح وندوب الشخصية العراقية الثرية بعوالمها, عوالمها الأصيلة والبسيطة والحدانية, فحيثما تلفّت تجد حولك شخصية جديدة, شخصيات حيّة بحضورها الإنساني الخاص والأخاذ, ماثلة ومكتملة ومقنعة ومتنوعة بعدد شعر الرأس, وكأن منيف, وضع نصب عينيه أثناء كتابة الرواية خلق وبث الشخصيات, شخصيات معجونة بماء وطين الكرخ والرصافة, ولتشكّل بوجودها عالم أرض الرواية, وأرض السواد, ولتقدم من خلال ذلك فهماً ما لنفسية الإنسان العراقي وطريقة تفكيره وأسلوب حياته!

البعد التاريخي

ثلاثية (أرض السواد), كما أراد وصدّر لها مؤلفها تعتمد في سياقها العام على حدث تاريخي, لذا, يمكن إدراجها تحت جنس الرواية التاريخية, حيث إن الحدث الرئيسي فيها هو تناول مرحلة تاريخية بعينها من مراحل تاريخ العراق, ومن ثم تقصّي والإحاطة وتناول وبث كل ما يحيط بهذه المرحلة من حوادث صغيرة وكبيرة, سياسية واجتماعية واقتصادية وبيئية, حوادث تشكّل الشخصية العراقية محورها الأساسي ولسان حالها, ووقودها الذي تعتاش عليه.

يمكن, بشكل أو بآخر, ودون كثير مشقة, إسقاط أحداث (المسرات والأوجاع) الرواية الأخيرة لفؤاد التكرلي, على التاريخ الحديث للعراق, تاريخ وصول أسرة (التكريتي) وكيف أن فترة حكمها التسلطي برئاسة صدام حسين, التي لا تريد أن تنتهي جثمت, ولم تزل على قلوب العراقيين, بل وعلى كل قدرات ومقدّرات العراق بأكمله, انحرفت بمقدرات وأحداث الوطن العربي بأسره, إن المقارنة بين رواية منيف ورواية التكرلي تفرض نفسها هنا, فرواية (أرض السواد) وللوهلة الأولى تخلق لدى القارئ هاجساً مغرياً بأنه أمام عمل ملحمي كبير سيقوده بالضرورة إلى معرفة مخبأ ما يخص تاريخ العراق, وأنه سيقف به على سير أحداث تاريخية لا تظهر إلا لمن يمتلك صبراً, يتتبع خيطاً روائياً طويلاً لا يكاد ينتهي, لكن, مع نهاية الرواية, نكتشف أن حبكة الرواية الرئيسية بسيطة جداً لا تتعدى رواية حدث تاريخي لفترة تاريخية لا تكاد تمتد لأكثر من سنوات معدودة, بقالب روائي كان بالإمكان اختصاره في جزء واحد من أجزاء الرواية, لكن, عبدالرحمن منيف أصرّ أن يغزله ويحيكه ويحكيه على طريقته الخاصة, طريقة بذر وزرع واستزراع الشخصية العراقية في كل زاوية ومنعطف, تاركاً للقارئ أن يستخلص ويفهم من ذلك ما يشاء.

حدث الرواية التاريخي الرئيسي يتلخص في وصول الوالي داود باشا ذي الأصول غير العربية وغير الإسلامية واستيلائه على ولاية بغداد, بعد أن حاصرها وأعوانه, وتخلّص من سعيد باشا ابن سيده الكبير سليمان باشا والي بغداد القوي, وما صاحب فترة حكم داود باشا من حوادث وحروب ومؤامرات وقتل ودسائس وعوز وفقر وخوف وفيضانات, يقع ذلك في أواخر أيام السلطنة العثمانية, وقت تقضي فيه إنجلترا, الإمبراطورية المتعاظمة النفوذ, على نابليون, لترى نفسها سيدة العالم, مع رصد لخطط وتدخلات وطموحات القنصلية الإنجليزية, متمثلة بالقنصل (ريتش) في شئون ولاية بغداد, وما آلت إليه هذه الخطط, وذاك الطموح.

المحور الأول في العمل يتمثل في شخصية الوالي داود باشا, حيث من المفترض أن تكون الشخصية الأهم والمحورية في العمل, فحولها وبها تسير أحداث الرواية جميعها, لكن, المحور الثاني والشخصية الحقيقية الأقوى والأكثر حضوراً في العمل هي (قهوة الشط) بشخوصها المتنوعة وأحاديثها المعبّرة, ومواقفها الأصيلة, مقهى أو (قهوة الشط) تشكّل الخلفية الأهم لعالم أهل بغداد, عالم أرض السواد, فمنها نسمع شكوى الناس وأحلامهم وهمومهم ومخاوفهم وغضبهم وفرحهم, ومن خلالها نرى صفات وعوالم الشخصية العراقية الأصيلة كأوضح وأجلى ما تكون.

أما المحور الثالث, فيأتي متمثّلاً بالقنصلية الإنجليزية, متجسّدة بشخصية القنصل (ريتش), لنعرف من خلالها نوايا وطموحات الأجنبي/المستعمر, وكيف ينظر إلى البلد وأبنائه, متجاوزاً في سبيل مصلحته الخاصة كل الأعراف والقيم, ولما يكرس قوته وبقاءه, ولو على حساب اعتراك ودم أبناء البلد.

مسبحة الحزن

هذه هي المحاور الثلاثة التي يبني عليها منيف ثلاثيته (أرض السواد), وعلى هامش هذه المحاور, يمدّ سهولاً وودياناً, ويشيد جبالاً من المعلومات المشوّقة والحميمة حول العراق, بشراً وأرضاً وسماء, عوالم تنبض بالحياة, ونماذج بشرية نكاد نلمسها, بهمومها الحياتية الصغيرة الموجعة, ولحظات فرحها القليلة, وتفكير بعضها الشيطاني ووحشيتها, شخصيات كثيرة مختلفة ومتباينة, لا يجمعها إلا التوجس والحزن والوجع والقسوة والنائبة كأوضح ما يكون الخيط الذي يلضم حبات المسبحة, وكأن لعنة سماوية مكتوبة على هذا العراق, لعنة وحشية تأبى إلا أن يعيش هذا البلد ضنكاً وخوفاً ودماراً ودماً وقتلاً وحروباً لا تنتهي, وكما ينطق لسان أحد شخصيات الرواية: (هذا مو من اليوم ولا البارحة, أبونجم, لأن الكبارية يسولفون, وسوالفهم أباً عن جد, إنه, سبحانه, شادّ عداوة ويا أهل العراق, وما مخلي لهم سجة أو درب: كفخات ودفرات, وإذا تعب يسلّط عليهم الطوفان, وبعد الطوفان الجراد والمحن, وهذا كله, أبونجم, حتى يمتحنهم, حتى يشوفهم شيقولون, فإذا قالوا: الحمد لله والشكر, وهذي إرادتك يا خالق الخلق ويا مالك الملك, يشيل عنهم غضبه, ويقول لهم: خلص, رضيت عليكم, وصرتم خوش أوادم, أما إذا ظلوا يكذبون, مثل هسه, ويفنجرون عيونهم بالسماء, ويقولون ما نقبل, وهذا ما يصير ومو عدل, فسبحانه يعرف ويسمع, حتى النملة يسمع دبيبها, يا أبونجم, فما راح يقبل, وتعرفه أنت, ما يقبل يسكت, ومثل ما تشوف عينك: كفخة ورا الثانية, وما يندري بعد شنو اللي راح يصير!).

من نافل القول, الإشارة إلى أن الرواية المعاصرة باتت علماً أدبياً قائماً بذاته, علماً يتطلب من صاحبه معرفة بأدواته وأصوله ومقوماته, فما عادت الرواية تكتفي بحكاية جميلة مؤثرة, أو تسطير ذكريات شخصية بقالب روائي, معتمدة على لعبة الزمان أو المكان, بل إن الرواية الحديثة, وعلى مستوى العالم, غدت جهداً أدبياً كبيراً وخارقاً, ومادة جيدة لعلوم التاريخ والاجتماع, تأسيساً على ذلك, يبدو جلياً وخرافياً مدى الجهد والبحث والاستقصاء والدقة والمعلوماتية التي اعتمدها منيف في الرواية.

ثلاثية (أرض السواد) في محصلتها الأساسية, شيّدت عالماً متماسكاً ومترامياً وزاخراً وحيّاً لفترة تاريخية مرت على أرض السواد, عالماً تم التخطيط له, ورسمه وتلوينه باقتدار وحرفية عالية, ليظهر مؤثراً وأخاذاً وآسراً, سواء على مستوى ترجمة بواطن وخلجات الشخصية العراقية, أو على مستوى البيئات البغدادية المحلية: المقهى, والبيت, والجامع, والبستان, والقلعة, والسراي, والسوق, أو على مستوى جغرافية المكان: نهر, وماء, وسماء, ورائحة, وجبل, وقلعة, وحجر, وزرع, وحيوان.

غيبة الزمن

(أرض السواد) الرواية, ومن خلال أسلوبها العام, يمكن تصنيفها بوصفها أحد الأعمال الروائية الكلاسيكية العربية, خصوصاً صوت الراوي الذي يقود العمل من بدايته وحتى نهايته, ووتيرة السرد الأفقية الواحدة, صوت الراوي ومعرفته الكلية هما اللذان طبعا العمل بطابعه السردي الذي هو عليه, بينما بقى صوت المؤلف مختبئاً, يلوح شفيفاً موارباً أحياناً, وما يلبث أن يدع للراوي القياد, الراوي العليم بكل شيء, عن كل شيء, الشخصيات والمكان والحدث! مع ملاحظة أن متابعة أو ذكر الزمن السردي للرواية يكاد يكون غائباً, فنحن أمام شخصيات وأحداث يتوالد أحدها من ذيل الآخر, ويستمر هذا التوالد سائراً في مجراه المحدد, أميالاً وأميالاً, ودونما ذكر للزمن, أو حتى التذكير به, فبعد (434) صفحة مليئة بأحداثها, نعرف أن سنتين قد مرتا على تسلم الوالي الجديد داود باشا الحكم, علماً بأن ذكر السنتين مرّ خطفاً بجملة واحدة, وكأن الرواية تهرب من ذكر الزمن والتذكير به, لذكر البشر وعوالمهم الباقية على مر الأزمان!

على امتداد أجزاء الرواية الثلاثة, ظل ذكر الزمن يمرّ مرور الكرام, أقرب إلى التورية منه إلى التصريح والإفصاح, وكأن عبدالرحمن منيف اختط لنفسه, واكتفى بنشر حيوات الناس اليومية البسيطة, التي تتناول بناء الشخصية العراقية, ليكون هو الهدف الأساسي وراء الرواية, بحكم أنه الأبقى والأكثر تعبيراً عن النفس, والأقدر على تقديم فهم واف لأهل السواد بأرواحهم المعذبة, ناهيك عن الوقت والزمن!

إن تصدير المؤلف والناشر لثلاثية (أرض السواد) بالقول: (العراق, الأرض التي ضمّت أقدم الحضارات, لم تكن يوماً قفراً, وبالتالي فإن الشخصية العراقية لم تتكوّن خلال قرون قليلة من الزمن, وإذا كنا في هذه الرواية, قد أخذنا مرحلة بعينها من التاريخ, فلم يكن ذلك إلا لبناء الأحداث, فالأساسي في هذه الرواية هو العراق الطبيعة والتاريخ والجغرافيا, وقبل ذلك البشر, تعددهم وتنوّعهم, اختلافهم ووحدتهم, افتراقهم واتفاقهم, في هذه الرواية: الحدث هو العراق).

إذا ما تم أخذ التصدير أعلاه على مأخذ الجد, فإنه يحد من إمكان إسقاط أحداث الرواية على وضع العراق الراهن, إن لم نقل يغلق هذا الباب تماماً, علماً بأن ملامح بعض شخصيات الرواية, تتقاطع متشابهة في سلوكها مع سلوك شخصيات عراقية حقيقية معاصرة, منها على سبيل الذكر, شخصية سيد عليوي وتحديداً في جانبها الدموي الوحشي, والتي تتشابه إلى حد بعيد مع شخصية الرئيس صدام حسين, في بدايات نشاطه الحزبي, خصوصاً في طريقة بطشه وتصفياته الوحشية لخصومه والواقفين في طريق طموحاته القاتلة.

الثلاثية مليئة بالنماذج البشرية, سيل لا ينتهي من الشخصيات, ومن مختلف دروب الحياة, كل هذا جاء ليدلل على أن (منيف) يكتب تاريخ أمة, ملحمة شعب, وليس رواية لبطل فرد, فالرواية غارقة بتفاصيل دقائق حياة الناس, ما يدور في رءوسهم وتحت جلودهم, مما يجعل منها رصداً اجتماعياً لحياة أهل بغداد: علاقاتهم, طرق معيشتهم, مستوياتهم الاجتماعية, أماكن لقائهم, طموحاتهم, وأحلامهم المشروعة وغير المشروعة, وأنهار الدم التي تخوض فيها بغداد في معارك وحروب ولادتها التي لا تهدأ!

الرواية بهذا المعنى تكتب فترة من تاريخ البشر, والمكان, والزمان! إلى جانب أنها تركز على الجغرافيا, جغرافيا المكان, وحالات الفصول, والطقس, لذا يمكن القول إن ثلاثية (أرض السواد), رواية/ رحلة, في نفسية وجغرافية وتاريخ الإنسان والمكان في أرض السواد.

 

عبدالرحمن منيف