أدب الوباء... مدد جديد
لقد أعاد الطاعون تشكيل التاريخ كما تفعل كل الأوبئة وكما يفعل بنا وباء كورونا هذه الأيام، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على الأدب والفنون ويصيبها بنوع من السوداوية المفرطة، ومن يتأمل اللوحات الفنية التي رسمها فنانو عصر النهضة في الكنائس والقصور سيلاحظ كمية السواد من الوجوه التي تنطق بالألم في تلك الأيام، وأطلق النقاد على هذه المرحلة مرحلة فنون الأوبئة، كما ظهر نوع من أدب الرعب الذي يخشى المجهول ويتوقع الموت أي لحظة، واعتبر البعض أن الوباء أشبه بعقاب تسلطه السماء على البشر عندما يغرقون في الخطيئة.
في مسرحية «أوديب» للكاتب الإغريقي سوفو كليس، يرى أن الطاعون كان لعنة الآلهة، لأن أوديب قتل أباه وتزوج أمه، جريمة عظمى كانت تستحق عقابًا أعظم، وظلت فكرة ارتباط الوباء بالخطايا البشرية سائدة في الأدبيات المختلفة، فبعد مئات السنين عندما كتب الأديب الإنجليزي دانييل ديفو - الذي استمد شهرته من رواية «روبنسون كروزو» - روايته الأخرى بعنوان «صحيفة أيام الطاعون» عن انتشار الوباء في لندن في القرن الثامن عشر، تحدث فيها عن مدينة تمتلئ بالعاطلين والسكارى ولصوص الشوارع، وأن الوباء هو عقاب إلهي لهم جميعًا. الفكرة نفسها ألح عليها الأديب المصري سعد مكاوي في روايته «السائرون نياما»، التي تحولت لاحقًا إلى مسلسل تلفزيوني، فقد اعتبر أن الوباء الحقيقي هم المماليك الذين يملئون بر مصر بالمظالم، فقد كانوا عبيدًا مجلوبين قبل أن يعلوا ويتسلطوا على مصائر العباد، ودون أن يدري الأديب الفرنسي الفائز بجائزة نوبل «ألبير كامو» وهو يكتب روايته عن انتشار الطاعون في مدينة وهران الجزائرية أنه كان يلقي اللوم على بني قومه من الفرنسيين المحتلين لأنهم طاعون هذه المدينة. ويتنبأ برحيلهم مهما طال زمن الاحتلال.
أشكال أخرى
اتخذ الوباء أيضًا أشكالًا عديدة في الكتابة، فلم يتعرض له الأديب البرتغالي جوزيه سارماغو الفائز بجائزة نوبل كأحد أشكال المرض، لكنه تناوله في روايته الشهيرة «العمى» على مستوى الرمز كموجة من العمى، من فقدان البصيرة، مدينة بأكملها يصاب أهلها بالعمى واحدًا تلو الآخر، حتى تتخبط المدينة كلها في الظلام. واختلف الأمر مع الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في رواية «الحب في زمن الكوليرا» حين صور علاقة طويلة من الحب والفراق بين رجل وامرأة في ظل انتشار الوباء. واختارت الكاتبة الفرنسية المولودة في القاهرة أندريه شديد وباء الكوليرا موضوعًا لروايتها «اليوم السادس» عن جدة عجوز تأخذ حفيدها في رحلة طويلة في قارب على صفحة النيل حتى تهرب من الوباء وتنقذه من الموت. وقد حظي وباء الكوليرا الذي أصاب مصر في نهاية الأربعينيات بانتباه كبير، فأنتج عنه فيلم ضخم بعنوان «صراع الأبطال»، كما كتبت الشاعرة العراقية نازك الملائكة قصيدتها الشهيرة «الكوليرا» تعاطفًا مع الشعب المصري في محنته.
في إحدى مسرحيات الفيلسوف الفرنسي سارتر، تصرخ إحدى الشخصيات بأن الجحيم هم الآخرون، وشاعت هذه العبارة كثيرًا، وتم الاستشهاد بها في كل الظروف، فبطلة المسرحية كانت تعتقد أنها ستجد الجحيم مليئًا بالنار المؤلمة، ولكنها بدلًا من ذلك وجدت نفسها محاطة بأناس آخرين لا يكفون عن محاصرتها بالأسئلة، عن تفنيد كل تفاصيل حياتها وفتح كل جروحها القديمة واتهامها بكل قسوة ودون غفران.
لقد صنعوا لها جحيمها الخاص الذي لم تستطع الإفلات منه، لم يعد هذا القول نظريًا، أو مجرد أفكار فلسفية، لقد تعلمنا جميعًا خلال ظروف الوباء أن الجحيم فعلًا هم الآخرون، فهم الذين يحملون العدوى مع كل نفس نستنشقه وكل مصافحة أو حضن أو قبلة، لقد تقطعت مظاهر المودة بين البشر فجأة، وأصبح التقارب مع الآخرين هو الجسر الذي يعبر عليه المرض من إنسان لآخر، أصبح الفرد خطرًا على الآخرين، وأصبح الآخرون خطرًا عليه، والحل الوحيد هو العزلة والنجاة بالذات، تحولت المقولة القديمة إلى الوباء هم الآخرون، ووصل الأمر في العديد من الدول إلى فرض حظر التجول في الشوارع ومنع الاجتماعات في الأماكن العامة وتقليل اللقاءات العائلية داخل المنازل، كما غيرت «الكورونا» أقدم العادات البشرية، وهي العيش في مجتمعات والتلاقي بمناسبة ودون مناسبة.
رعب العالم الجديد
كان الطاعون أو الموت الأسود هو رعب العالم القديم، فهو لم يقض فقط على ثلث سكان العالم، لكنه قضى أيضًا على النظام الإقطاعي في أوربا، الذي استمر مئات السنين بعد أن مات كل الأُجراء الذين كانوا يزرعون الأرض وبقي الأمراء معزولين داخل قلاعهم بلا حول ولا قوة وبلا طعام أيضًا. والطاعون أيضًا هو الذي هزم جيوش نابليون تحت أسوار عكا وقضى على حلمه في إقامة إمبراطورية في الشرق، كما هزم الطاعون عروشًا وطغاة لم يقدر عليهم أحد.
كابوس «كورونا» لم ينته بعد، ولا أحد يعرف متى سينتهي، فالوباء الذي أصبح رعب العالم الجديد مازال يتغير ويتحور ويحمل كل مرة اسمًا جديدًا، ولا توجد وسيلة لمحاصرته سوى الإغلاق الذي دمر الاقتصاد وحياة الناس، ويبدو الأمر كنوع من السباق بين العلم والطبيعة، فكلما تقدمنا خطوة في فهم تركيبة هذا الفيروس نفاجأ به وقد بدل من هيئته وسرعة انتشاره.
رغم التقدم العلمي في مجال الطب لم تبتعد الأوبئة كثيرًا عن عالمنا، ففي كل يوم نسمع عن وباء جديد أو قديم كان كامنًا ثم عاد للظهور، ولكنها، أي تلك الأوبئة، كانت محدودة الانتشار وسط مجموعة من الناس، أو محصورة في منطقة من الأرض، لكن ما حصل مع وباء كورونا كان مختلفًا من البداية، حيث ضرب بقوة ولم يترك مكانًا إلا وأصابه. الشيء الإيجابي رغم كل الخسائر هو أننا على الأقل أصبحنا نرى ضوءًا في نهاية النفق الطويل، بعد التوصل لأنواع متعددة من اللقاحات التي وزعت على ملايين البشر، وهو ما خفف من شراسة الوباء، ولم يعد الموت هو المصير المنتظر للكثير من الحالات، ولم تعد المنظومات الصحية في الكثير من الدول بما فيها المتطورة صحيًا تعاني من خطر الانهيار، بالطبع هناك موتى، ولكن هناك الكثير من الناجين، وبرغم ذلك فإن رعب الوباء يدفعنا إلى المزيد من العزلة ومحاولة الحد في التواصل مع الآخرين، وأعتقد أن الوباء قد قلل من التلامس غير الضروري بين البشر وعادات الاحتضان والقبلات حتى بين الأقارب، ومصدر الرعب هو التاريخ نفسه، فهناك صراع طويل للإنسان مع الأوبئة، وهي تصيبه مثل ضربة من ضربات القدر، تأتي فجأة لتحصد الأرواح الآمنة وتغير من شكل العالم المستقر.
وقود الروايات
لن يستثنى الأدب والفن من تغيرات ما بعد الوباء، وجميع تفاصيل يوميات البشر مع كورونا ستكون هي المدد الغزير للروايات التي تكتب وستكتب، كما ستكون مصدر الإلهام لسيل لن ينقطع من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات بكل ألوانها، وستواصل التكنولوجيا تمددها، وسيقسم النقاد مراحل الكتابة إلى فترتين، ما قبل الكتابة الرقمية، وما بعد الكتابة الرقمية، فقد خاضت البشرية رحلة طويلة من النقش على الجدران الحجرية إلى الكتابة على الجدران الافتراضية، حيث النصوص سائلة وقابلة دائمًا للتعديل. ستكون الكتابة متغيرة وربما يتم إعادة إنتاج النصوص الكلاسيكية القديمة وفق هذه الطريقة بحيث لا يتكون النص من سطور جامدة ولكن ترافقها الصورة والصوت وغير ذلك من المؤثرات، وقد بدأت السينما في هذا الأمر بالفعل حيث يتم إنتاج الأفلام القديمة بعد استخدام أقصى إمكانات التكنولوجيا بما فيها من قدرات على تجسيد الوهم والانتقال إلى عالم من الغرائب.
لقد ألغت الأجهزة والتطبيقات الرقمية أي حدود يمكن أن يصل إليها الخيال البشري، وسيعاني العقل البشري من منافسة شديدة مع أجهزة الذكاء الصناعي، وسيأتي الوقت الذي لن نستطيع فيه التفرقة بين إبداع البشر وإبداع الآلة، وقد أُجريت مؤخرًا تجربة غريبة طُلب فيها من أحد الكومبيوترات كتابة مقالة! لم يتم تزويد الكمبيوتر سوى بعنوان المقال المطلوب فقط، لم يكن مخزنًا في ذاكرة الجهاز أي نوع من المعلومات، كما لم يسمح له بالدخول إلى أي مصدر للإنترنت وقام الجهاز بكتابة المقال وفق اجتهاده الشخصي، إن كان يمكن قول ذلك، دون الاستعانة بأي نوع من المراجع، لقد طورت الآلة أفكارها ووجدت أسلوبها وأنجزت مقالًا يحتوي على كل الأفكار الأساسية، فإلى أين يمكن أن تذهب بنا هذه الأجهزة بعد أن تتطور؟ وهي ستتطور بالتأكيد، وستأتي اللحظة التي تطور فيها نفسها دون الحاجة للاستعانة بنا.
المستقبل ليس غامضًا لهذه الدرجة، ولم يعد بعيدًا، وسنصحو على عالم جديد بعد أن ينزاح كابوس الوباء، سأكون متفائلًا كعادتي وأتصور أن هذا التطور سيكون للأفضل، ونأمل أن تفيد «كورونا» البشرية بقدر ما حصدت من ضحاياها ■