منير نايفة عالم الفيزياء.. من الأرض المحتلة.. إلى قمة العلوم

 منير نايفة عالم الفيزياء.. من الأرض المحتلة.. إلى قمة العلوم

عندما رأيت، رؤي القلب لا العين، المسافة التي قطعها منير نايفة وأشقاؤه من قرية شويكة في فلسطين المحتلة إلى قمة العلوم العالمية بكيت. لم أسمع بمنير نايفة، أستاذ الفيزياء في جامعة إيلينوي في الولايات المتحدة قبل أن أعثر صدفة عام 1992 على صورة القلب المشهورة التي رسمها بالذرات تحتل غلاف المجلة العلمية البريطانية "نيوساينتست"، ثم قرأت ما قالته عن أعماله السابقة موسوعتا "بريتانيكا" البريطانية، و"ماغروهيل" الأمريكية. وبعد ذلك التقيته في مناسبات مختلفة في لندن وشيكاغو وأبوظبي والعين والرياض.

وانضممت إلى ركب 400 عالم عربي مغترب جمعهم نايفة في "أسبوع العلم" في العاصمة الاردنية عمان. نظم الاسبوع الجيش الاردني بالتعاون مع "شبكة العلماء والتكنولوجيين العرب في الخارج" التي أسسها نايفة. ورافقته ووزراء البحث العلمي العرب في العمرة الشريفة إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة. آنذاك بكيت إذ رأيت "رؤي القلب" كيف حمل وأشقاؤه المشردون علم فلسطين من حافة العدم إلى قمة العالم. هكذا هي الأمور في العلم كما في الحياة، سواء تعلق الموضوع بفلسطين، أو بالذرة. بالقلب وحده، كما يقول الأديب الفرنسي انطوان دوسان إكزوبري "بالقلب وحده يستطيع المرء أن يرى بشكل صحيح، فالشيء الجوهري لا يرى بالعين".

ذرات القلب

تحطيم الذرات انتج الطاقة النووية والقنابل الذرية، ماذا يمكن أن يحدث لو استطعنا بدلا من تفجير الذرات التحكم بحركتها وتغيير مواقعها واعادة ترتيبها كما نشاء؟ هذا السؤال طرحه عام 1959 ريتشارد فاينمان، الذي يعد من أعظم علماء الفيزياء في القرن العشرين. ولم يتوقع فاينمان الذي نال نوبل في الفيزياء أن يتوصل العلماء إلى طريقة لتحريك الذرات إلا في مستقبل بعيد. لكن بعد أقل من عقدين استطاع منير نايفة أن يحرك الذرات المنفردة ذرة ذرة. وفي التسعينيات رسم نايفة بواسطة الذرات صورة تمثل القلب والحرف الإنجليزي P تناقلت الصورة وكالات الانباء. وذكرت المجلة العلمية البريطانية واسعة الانتشار "نيوساينتست" أن نايفة اختار P لأنه يمثل الحرف الأول من كلمة "فيزياء" Physics بالانجليزية، وذلك تعبيرا عن حبه للفيزياء التي تعد أم العلوم.

وعندما التقيت نايفة أول مرة وعرفت أنه من فلسطين قلت له مازحاً: "يمكن أن يكون P الحرف الاول من كلمة فلسطين Palestine بالانجليزية". قال نايفة "يمكن"، وضحك الضحكة الناعمة التي تبدو كأنها صادرة من أبعد أغوار الكون، من الذرات، التي يعمل داخلها علماء الفيزياء. وبالعاطفة الجياشة التي تحمل "سندباد علمي" حول العالم والعلم أعلنت أنني سأكتب في الصحافة أن رسم القلب وحرف P يعنيان "أحب فلسطين" وليس الفيزياء، كما زعمت المجلة العلمية. أثار تصريحي خوف زملاء نايفة، الذين حذروا من أنني استفز بذلك الأوساط اليهودية ذات النفوذ العلمي الماحق و"باي باي" لجائزة "نوبل" التي قد يستحقها نايفة! وطلبوا مني نصف مازحين نصف جادين عرض الموضوع ب "خفة دم"، كأن أقول حرف P لا يعني فلسطين ولا الفيزياء، بل هو الحرف الأول من اسم فتاة وقع في غرامها أيام الدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت. وفزع نايفة المتزوج من فتاة عربية اسمها هتاف "بنت بلد من طولكرم"، وقال إنه يخشى حكاية "غرام بيروت" أكثر من فقدان جائزة نوبل! وكان أن تبعت كما في كل مرة نبض قلب "سندباد علمي" وكتبت كل هذه التفاصيل في تقرير ظهر على الصفحة الأولى وآثار عاصفة من المرح في الأوساط العلمية داخل وخارج العالم العربي.

بهذا المرح استقبل نبأ تحريك نايفة للذرات واستخدامها للكتابة بأصغر حرف في تاريخ الخط لا يزيد عرضه على خمسة بالمليون من الملمتر. إلا أنني فوجئت عندما أخبرني علماء فيزياء عرب عارفون بأسرار الذرة أننا أمام ثورة علمية وتكنولوجية خطيرة. وقالوا إن العالم لم يعد كما هو بعد الصورة الذرية للقلب وحرف P. فالذرات هي أصغر مكونات المادة التي تدخل في تفاعل كيماوي، والامساك بها وإعادة ترتيبها يحققان خيال العلماء العرب القدماء في استحالة المعادن وإنشاء مواد وعمليات لا وجود لها في الطبيعة.

وحدثني العالم المصري الدكتور عبدالسلام حدايه رئيس قسم الهندسة الالكترونية في جامعة بوسطن عن "نانوتكنولوجي" التي تبني بالذرات هياكل وآلات مجهرية تدخل الجسم وتسير مع تيار الدم في الشرايين إلى القلب أو الدماغ، حيث تقوم بعملية إصلاح وريد أو إزالة خثرة دموية. تعادل "نانو" جزءا واحدا من مليار "ألف مليون". ويمكن تصور حجم القفزة التي تحدثها عند مقارنتها ب "المايكروتكنولوجي" التي أنتجت أجهزة الكمبيوتر والترانزستر وكل المعدات الالكترونية الحالية. تكنولوجيا "النانو" تصغر الطول والعرض بنسبة 1000 مرة والمساحة بنسبة مليون مرة، ويعني هذا زيادة قدرات الآلات مليون مرة وخفض استهلاكها من الطاقة بالقدر نفسه. أي يمكنها صنع اسطوانات مدمجة CD تتسع لمحتويات مليون اسطوانة مدمجة حاليا، أي إدخال جميع الموسيقى الموجودة في العالم اليوم في اسطوانة مدمجة واحدة في حجم الجيب. وسأل عبدالسلام حدايه سؤالا أحسست من لهجته أنه ذو مغزى: "لماذا لا نسمع الكثير عما يجري في تكنولوجيا النانو"؟

رؤية الذرات

الذرات التي يتكون منها كل شيء في الكون، من الغيوم ومياه البحر إلى صخور الجبال ورمال الصحراء وجسم الإنسان صعقت عندما رأيتها أول مرة في مختبر منير نايفة. فالتساؤل عن حقيقة الذرات قديم ومحير كالتساؤل عن حقيقة الوجود ومعنى الحياة. ومع أن العلماء الأقدمين حدسوا قبل آلاف الأعوام أن كل المواد في الطبيعة تتكون من ذرات، فإن أحدا لم ير الذرات، حتى عندما استطاع العلم في القرن العشرين أن يفجرها ويطلق الطاقة الجبارة الكامنة داخلها. هذا سبب انفعالي العميق عندما أراني نايفة الذرات المكبرة على شاشة الكمبيوتر في مختبره في جامعة إيلينوي. الذرات التي تتكون منها مواد يقال عنها ميتة، كالصخور والمعادن كانت تومض وتهتز كأنها كائن حي، يقتنصها نايفة بواسطة المجهر الالكتروني ويشرع في تحريكها ذرة فذرة. لم أصدق عيني آنذاك، ورجعت محموما إلى غرفتي في فندق جامعة إيلينوي أبحث داخل حقيبة السفر عن الوثائق التي حملتها معي من لندن حول نايفة . وعثرت على تقرير سنوي للعلوم والتكنولوجيا صادر عام 1979 عن الموسوعة العلمية الامريكية "ماغروهيل"، ووجدته يذكر أن التقنية، التي وضعها نايفة واثنان من زملائه الامريكيين استطاعت لأول مرة في تاريخ العلم رصد ذرة منفردة من بين 10 آلاف مليون ذرة والتعرف على هويتها. ووجدت في الكتاب السنوي الصادر عن الموسوعة البريطانية "بريتانيكا" صورة نايفة أمام ادواته، مع شروح عن تقنية كشف فائقة ابتكرها تزيد ما بين 100 مليون و 10 آلاف مليون مرة على الطرق التقليدية، لم أفهم تفاصيل التقنية التي طورها نايفة وتسمى "طريقة التأين الرنيني" ولم أتبين كيف تحقق الحد الأقصى في الكشف التحليلي، لكنني أدركت معناها عندما قرأت في قصاصة ورق محفوظة عندي عن صحيفة "واشنطن بوست" أنها تؤسس فرعاً جديداً في علم الكيمياء يدعى "كيمياء الذرة المنفردة". وذكرت "واشنطن بوست" أن بعض العلماء الأمريكيين يتوقع أن تطور التقنية المبتكرة أجهزة رصد جوية لاستكشاف مكامن الذهب واليورانيوم والمعادن الثمينة الأخرى، وأنها يمكن أن تستحدث وسائل لتشخيص الألغام الأرضية ورصد عمليات تلوث المياه الجوفية. ويعلق بعض العلماء الآمال عليها في رصد جسيمات خفية محيرة في الكون تدعى "كوارك" يعتقد أن العثور عليه ا قد يقدم المفتاح النهائي لفهم حقيقة المادة والكون. قصاصات أخرى في حقيبة سفر "سندباد علمي" تتحدث عن تفاصيل التقنية التي ابتكرها نايفة في مختلف الاختصاصات من الفيزياء والليزر والكيمياء التحليلية والهندسة الصناعية والعسكرية وحتى الصناعات النووية. وقصاصة تذكر أن نايفة نال جائزة البحث التصنيعي في الولايات المتحدة عام 1979 وتم تأسيس مؤتمر سنوي لعرض آخر التطورات والتطبيقات في ابتكاره.

سلالة العلماء

لماذا لم يسمع "سندباد علمي" بكل هذا إلا في العقد الأخير من القرن العشرين؟ لماذا لم يقرأ عن هذا الاكتشاف، الذي أفردت له صفحات في الموسوعات العلمية العالمية؟ ولماذا،لماذا،لماذا لم يراجع القصاصات التي جمعها سنوات قبل أن يأتي إلى هذا الفندق في قلب حرم جامعة إيلينوي إربانا شامبين". الاسم الكامل للجامعة تمييزا لها عن جامعة إيلينوي الأخرى في شيكاغو صدح بغواية في أذن "سندباد علمي". الرياض المحيطة التي تطل عليها نافذته والصبايا بالشورت يلعبن التنس أو مستغرقات بالنوم على الأعشاب جعله يقف حائرا ما بين الحياة والعلم. ما بين التمتع بفردوس "إيلينوي" والتلذذ باكتشاف الطريق الذي قطعه منير نايفة وأشقاؤه من قرية مغمورة اسمها شويكة في قضاء طولكرم في فلسطين المحتلة. قرية شويكة التي لا يزيد عدد سكانها على ألفي نسمة أنتجت 22 دكتورا في العلوم، بينهم أربعة أبناء لتاجر زيت الزيتون حسن نايفة وزوجته خضرة. الابن الأكبر علي نايفة ، الذي شق لأخوته طريق العلم يشغل الان منصب استاذ الهندسة الميكانيكية في جامعة فرجينيا، وعدنان استاذ الهندسة الميكانيكية والطيران في جامعة سينسيناتي في اوهاويو، ومنير أستاذ الفيزياء التجريبية في جامعة إيلينوي، وتيسير استاذ الهندسة الصناعية في جامعة كليفلاند.

كيف اخترق صبيان مشردون من قرية شويكة التي أوصلها الاحتلال الإسرائيلي إلى حافة المجاعة الحواجز الجغرافية والتاريخية التي تفصلهم عن القوة العلمية التكنولوجية العظمى في العالم؟ هل تفسر هذه الظاهرة قوانين "فيزياء الكم" الخارقة التي تعتقد أن "حقيقة المادة ليست في مكوناتها بل في ما يحدث لها"؟ وهل تفسر "القفزة الكمية" المشهورة في "فيزياء الكم" ظهور الجيل الجديد من سلالة آل نايفة الذين يساهمون حاليا في ابتكار علوم وتقنيات القرن 21؟ ثامر علي نايفة الأستاذ المساعد في الهندسة الميكانيكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا "إم أي تي"، والطبيب المهندس طارق علي نايفة ، ودكتور الهندسة الالكترونية ماهر علي نايفة ، ودكتور علم الكمبيوتر باسم عدنان نايفة، وأستاذ الهندسة الميكانيكية في جامعة "سنترال فلوريدا" جمال فارس نايفة، وحسن منير نايفة الذي يحضر الدكتوراه في معهد ماساتشوستس؟ عند تصوير الفيلم التلفزيوني عن أسرة نايفة الذي أشرف عليه "سندباد علمي" وقع حدث ساحر لا يصدق. كان فريق تلفزيون "القناة 13" الذي يعود لجامعة إيلينوي يصور داخل منزل نايفة . وأفلت فجأة من القفص طير ببغاء "ككتيل" أصفر اللون كشعاع شمس. ذعر المصور التلفزيوني وأوشك على التوقف عن التصوير، وصرخت به: أرجوك استمر.. استمر أرجوك. وانجذبت الكاميرا كالمغناطيس وراء الببغاء الأصفر اللون الذي حلق فوق رءوس أطفال الأسرة مهى ومنى وأسامة وعمار ثم حط على كتف حسن.

وهتفت: خير إن شاء الله خير! بعد ذلك بشهرين نال حسن زمالة دراسية للدكتوراه في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا". قيمة الزمالة ربع مليون دولار، وموضوعها يتعلق بتكنولوجيا "النانو".

بلورات البادية

"الطبيعة فن الله"، كما كان يقول الشاعر الإيطالي دانتي. وهل غير ذلك يمكن أن يصور البلورات الطبيعية التي جلبها منير نايفة من البادية الأردنية؟ بلورات "الزيولايت" في تراب البادية تكشف تحت المجهر عن تركيب اسفنجي خارق يحتوي على أنفاق وخروم ومسامات بالغة الدقة لا تسمح إلا لمرور الذرات والجزيئات. يحاول منير نايفة وتلميذه زين حسن يماني، مبعوث جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران تقليد هذه الخروم التي أحدثتها كائنات عضوية مجهرية عاشت قبل ملايين السنوات في بحار كانت تغطي المنطقة العربية. يساهم في التجارب الدكتورة ليلى أبو حسان والدكتور عبدالجواد أبوالهيجاء، وكلاهما من الجامعة الأردنية والدكتور سامي محمود والدكتور نهاد يوسف، من جامعة اليرموك الأردنية، والهدف تطوير أسلاك ومفاتيح ذرية تستخدم في تشغيل آلات القرن الحادي والعشرين.

هذه المادة الأسفنجية القادرة على الاحتفاظ بجزيئات الماء تصلح لصناعة مزيج من التربة ملائم للزراعة في المناطق الجافة، ويعتقد خبراء في وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" أن تربة "الزيولايت" تصلح أكثر من أي مادة أخرى لإقامة مزارع في المحطات الفضائية والمستوطنات الزراعية على سطح القمر والكواكب الأخرى، العودة إلى "الزيولايت"، كالعودة إلى الرمل في صناعات الكمبيوتر تبرهن على أن الطبيعة لا تزال تخبئ مفاجآت كبرى للعلوم والتكنولوجيا. وفريق نايفة يحاول استخدام مادة "الزيولايت" لاجتياز الحواجز التي تقف أمام الرمل في الصناعات الإلكترونية. فأجهزة التلفزيون والراديو والكمبيوتر الشخصي وحتى هواتف الجيب والساعات الالكترونية كلها تعمل بترانزسترات مصنوعة من السليكون الذي يستخرج من الرمل. عدد الترانزسترات في شريحة الكمبيوتر يتضاعف مرتين كل 18 شهرا، وأدى هذا الى مضاعفة قوة أجهزة الكمبيوتر 25 ألف مرة منذ اختراعها قبل نحو ربع قرن وخفض أسعارها ألف مرة. إذا استمرت الاتجاهات الحالية فان الكمبيوتر المنضدي الذي سينتج عام 2020 سيعادل في القوة جميع أجهزة الكمبيوتر الموجودة في العالم اليوم مجتمعة.

وضع ملايين الترانزسترات في مساحة لا تزيد على طابع بريد هو سر الثورة التكنولوجية التي لن تكتفي بإنتاج كمبيوترات تتعامل بالمعلومات، بل ستنتج مصانع ومختبرات محمولة في كف اليد. الصعوبات الأساسية في طريق بناء هذه الآلات ليس محركات التشغيل بل الأسلاك ومفاتيح التشغيل. كيف يمكن استخدام الأسلاك النحاسية الحالية في آلات بالغة الصغر لا ترى تفاصيلها بالعين المجردة؟

مادة "الزيولايت" تقدم الحل في رأي منير نايفة الذي يجرب الآن استخدام الخروم والتجاويف المجهرية في جزيئات "الزيولايت" كقوالب لصناعة أسلاك ومفاتيح كهربائية على المستوى الذري. تعمل هذه المفاتيح عن طريق حبس ذرة فلزية في قفص الجزيء ويتم تشغيل المفتاح بتحريك الذرة من مكان إلى آخر داخل القفص باستعمال نبضات الجهد الكهربائي. ويقوم نايفة مع فريق علماء من فلسطين والاردن والسعودية بتجارب لوصل هذا المفتاح الجزيئي بدائرة كهربائية مستخدمين في ذلك المجهر الألكتروني، الأداة التي مكنت نايفة من تحريك الذرات ورسم صورة القلب.

المجهر الالكتروني

قبل المجهر الإلكتروني الذي ابتكر في الثمانينيات من القرن الماضي لم يكن ممكنا "رؤية" الذرات. ويختلف المجهر الإلكتروني عن المجاهر البصرية المعتادة، فهو لا "يرى" الأشياء ضوئيا بل يقصفها بحزم من الالكترونات. والإلكترونات هي جسيمات أولية موجودة داخل جميع الذرات وهي التي تنشئ التيار الكهربائي عند انتقالها الحر بين الذرات. وتتحرك الحزمة الإلكترونية كالموجة مخترقة الشيء المراد رؤيته. وتؤخذ عادة من الشيء المراد تصويره بالمجهر الالكتروني شريحة بالغة الرقة. فتنطبع صورة الشيء في الحزمة الالكترونية التي تبثها عبر عدسات الكترونية مماثلة لعدسات المجاهر البصرية. ويمكن لهذه العدسات أن تكبر الصورة 200 ألف مرة. وفي مختبر نايفة لمست بيدي أكثر المجاهر الالكترونية تطورا، يطلق عليه اسم "مجهر الماسح النفقي"، وهو يعمل بالطريقة التالية:

تمتد ذؤابة مستدقة الطرف من المجهر إلى سطح المادة وعندما تقترب من السطح جداً يتدفق عبرها تيار كهربائي يخترق الغيوم الالكترونية للذرات. هذه "الغيوم" تشكل سطح كل مادة، سواء كانت جسم إنسان أو صخرة أو قطعة معدن. وتزداد قوة التيار الكهربائي بتناقص الفجوة بين الذؤابة المستدقة للمجهر وسطح المادة حتى تبلغ مقدار ذرة واحدة. تعتمد تقنية الاقتراب الشديد من السطح دون التماس به على فكرة "النفق" التي ابتكرها علم "فيزياء الكم". ومع تكرار الاقتراب من السطح تتكون صورة موقع الغيوم الالكترونية وصورة الذرات المنفردة بالتالي. هكذا استخدم نايفة مجهر "الماسح الالكتروني النفقي" للكشف عن الذرات والجزيئات وهي في حالتها الصلبة أو تلك المنتشرة على السطوح الصلبة. وأتاح له ذلك تجميع الذرات من سطح المادة والتحكم بها واستخدامها ذرة فذرة لكتابة: أحب فلسطين.

أفعال الفيزياء

يقول "ألبرت أينشتاين" عن زملائه علماء الفيزياء "لا تسمع أقوالهم بل انظر إلى أفعالهم". ساعدت هذه النصيحة "سندباد علمي" على إدراك أن نايفة وفريقه من الفيزيائيين العرب الذين يستخدمون المواد والعمليات الالكترونية الدقيقة هم في الواقع مهندسون يصممون آلات على المستوى الذري. قياسات أجزاء هذه الآلات تجري بالميكرونات وهي أصغر عشرات المرات من سمك شعرة الرأس. ومثل أجهزة الترانزستر يمكن إنتاج ملايين منها مرة واحدة. هذا يعني أن ما يبدو "لعب عيال" بتراب البادية هو هندسة هياكل من الزيولايت والسليكون الاسفنجي قد تحدث تغيرات في حياة الناس تفوق التغيرات التي أحدثها الكمبيوتر خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. فأجهزة الكمبيوتر لم تفعل في الواقع سوى ادارة المفتاح لتمرير الالكترونات عبر الأسلاك. لكن المعدات الميكانيكية الدقيقة ستمد الأجهزة الالكترونية بالحواس التي تحتاج إليها للبصر والسمع والحس بالحرارة وغير ذلك من القدرات الفزياوية.

وسيحدث تزاوج أجهزة الميكانيك والالكترونيات انقلابات في جميع فروع العلوم والهندسة. صناعات ميكانيكية جديدة ستظهر يطلق عليه اسم "الصناعات الميكانيكية الكهرو الكترونية" تقوم بصنع أجهزة بالغة الصغر، ومختبرات علمية في حجم راحة اليد. ويجري الآن تلامذة آل نايفة وأبناؤهم تجارب لتصغير حجم جهاز المطياف الخاص بقياس كتلة الذرات والجزيئات الذي يبلغ وزنه 22 كلغم إلى حجم مفكرة جيب. هذا الجهاز الصغير الذي يمكن تصنيعه تجارياً سيدشن عصر أجهزة الجيب العلمية الرخيصة. تجارب أخرى تجرى لبناء مختبرات كيماوية لصناعة الأدوية في حجم حاسبة الجيب، أو لاجراء فحوصات الحمض النووي للجراثيم في المياه، أو خلط المواد الكيماوية وتحويلها إلى طاقة كهربائية بطريقة أكثر كفاءة من البطاريات التقليدية. "الصناعات الميكانيكية الكهرو الكترونية" ستفتح للاكترونيات الدقيقة الأبواب الواسعة على العالم الكبير خارج حدود مجرد معالجة المعلومات وخزنها، وستغير بذلك كل الأدوات التي يستخدمها الناس في حياتهم اليومية، من السيارات والطائرات إلى الهواتف والتلفزيونات.

 

محمد عارف