هانزكريستان أندرسن... وقصاصاته الورقية المدهشة

هانزكريستان أندرسن... وقصاصاته الورقية المدهشة

عرض: سماء المحاسني

يعد الكاتب الدنمركي "هانزكريستان أندرسن" من أكبر كتّاب الأطفال في العالم، فبضل مواهبه المتعددة، أصبح كاتباً شهيراً، بعد أن كان مغموراً في بداية حياته.

ألّف أندرسن كتاباً جمع فيه مذكراته بعنوان "حكاية حياتي" "The fairy tale of my life"، "1855"، وهي حكاية مميزة لكاتب ترك بصماته في الأدب الدنمركي، بل إن بعض الباحثين يطرحون سؤالاً يتعلق بتاريخ الأدب في العالم، وبصفة خاصة بأدب الخيال العلمي، وهو: هل كان أندرسن سبّاقاً لطرح قضايا علمية من خلال قصصه للأطفال؟ وبعض كتبه التي تحدّث فيها عن رحلاته وجولاته في أنحاء العالم، فمثلاً كتابه "أوربا في ثمانين يوماً" "Europe seen in eight days"، يشبه إلى حد بعيد كتاب "جول فرن Jule Verne"، "حول العالم في ثمانين يوماً"، وقد صدر هذا الأخير بعد كتاب أندرسن بحوالي عشرين عاماً!

ومهما يكن من أمر فأندرسن كاتب يملك حسّاً فنياً إبداعياً، فبالإضافة إلى أنه كتب قصصاً للأطفال جذب بها الملايين منهم في كل مكان من العالم، فقد كان فناناً تشكيلياً في الرسم وفي إعداد القصاصات الورقية، والكتاب الذي أقدّم عرضاً له فيما يلي أبرز للقرّاء هذه الموهبة التي ربما كانت مجهولة لدى الكثيرين.

وقد خصصت "المجلة الدنمركية"، وهي إحدى المجلات البارزة في الدنمرك عدداً كاملاً لدراسة أدب وفن أندرسن، وصدر العدد في مناسبة الذكرى المائة لوفاته، "1975" فقد توفي أندرسن عام "1875" متأثراً بمرض عضال في الكبد.

وقد أبرزت المؤلفة "بث واجنر براست" وهي أمريكية تعيش في كاليفورنيا مع زوجها وابنيها، موهبة أندرسن الفنية، فبالإضافة إلى موهبته الفذّة في الكتابة للأطفال وعنايته بهذه الموهبة التي وجد نفسه شغوفاً بها منذ الصغر، اهتم بناحية فنية ذات صلة بكتابته للأطفال، وهي إعداد القصاصات الورقية المناسبة لقصصه وأبطالها، فانكبّت بث على دراسة جوانب كثيرة في حياة هذا الأديب الدنمركي، وفي هذا الكتاب تروي لنا قصة أندرسن الفنان الذي استعان بفن مبتكر ليعبّر عن قصصه للأطفال، ولكي يمتّعهم ويقدم لهم التسلية والفائدة.

قصاصة ورق

يمثل غلاف الكتاب قصاصة من الورق لأندرسن يبدو فيها المسرح، وفيه راقصون وأشخاص آخرون، وهذه الأشكال الفنية كقصصه تماماً في ابتكارها وأصالتها.

وقدمت المؤلفة لكتابها بتعريف القرّاء أو بتذكيرهم بشخصية محببة إليهم "هانز كريستيان أندرسن" الذي عُرف في كل أنحاء العالم بقصصه للصغار، ومن أشهرها القصص التالية: "البطة القبيحة"، "ثياب الإمبراطور الجديدة"، "حورية الماء الصغيرة"، "الأسرة السعيدة"، "الحذاء الأحمر"، "البلبل"، "قصة أم"، "الأميرة الحقة"، "قطرة الماء"، "فتاة الجليد".

وجدير بالذكر أن أول ترجمة لقصص أندرسن إلى اللغة العربية صدرت في عام 1940، في القاهرة، بعنوان "أقاصيص هانس أندرسن، ترجمها عن الإنجليزية محمود إبراهيم الدسوقي، ضمن سلسلة نقلت إلى العربية أشهر وأفضل الكتب من الآداب الأجنبية، هي "سلسلة عيون الأدب الغربي".

وتابعت المؤلفة مقدمتها، فذكرت أن كثيراً ممن قرأوا عن هانز كريستيان أندرسن أو درسوا آثاره القصصية لم يكتشفوا موهبته كفنان، فقد تدرّب على الرسم، وكان يصنع الدمى المتحركة، والمستخدمة في المسرح، كما كان يبتكر الصور البديعة من بضع قصاصات ورقية، وقد نالت هذه القصاصات إعجاب كل مَن شاهدها، وقد كان أندرسن فنّاناً متنوّعاً، فقد كتب إلى جانب القصص، المسرحيات والقصائد والروايات، وكتب عن الرحلات بالإضافة إلى كتابته لسيرته الذاتية ورسائل عدة، غير أنه لم يتحدث في أي من هذه الأعمال عن الهواية المحببة إليه وهي إعداد القصاصات الورقية.

وتتابع المؤلفة حديثها عن الناحية الفنية لدى أندرسن، فهي محور كتابها، إذ تجد أن قصاصاته تمثل قصصه، وتبدو فيها الموضوعات التي تشكّل هذه القصص، فهناك على سبيل المثال: الراقصون، البجع، شجر النخيل، راقصة الباليه، القلاع، حوريات البحر، بل نجد أيضاً بعض قصاصات تمثل المساجد، على أنه لم يستخدمها أبداً كصور توضيحية لقصص ملازمة لها، بل كان يستعين بها عندما يروي هذه القصص للأطفال، وسوف نعود للحديث عن هذا كما تحدثت عنه المؤلفة في فصول كتابها.

وقد بينت المؤلفة للقرّاء أن مجموعة كبيرة من هذه القصاصات الورقية قد حفظت في متحف خاص دُعي باسم "متحف هانز كريستيان أندرسن" بمدينة أودنيسة بالدنمرك.

ويزور هذا المتحف في كل عام ألوف المتفرّجين أو الزائرين ليتعرّفوا على حياة هذا الكاتب الكبير ويتأملوا في مجموعته الفنية.وتتحدث المؤلفة في الفصل الأول عن نشأة هانز كريستيان أندرسن في أحد الأحياء بمدينة أودنيسة، وهي مدينة في الدنمرك، وتستمد معلوماتها عن هذه الفترة من حياته، والتي أثرت إلى حد ما في مسيرة حياته الأدبية والفنية، من مذكراته أو سيرته الشخصية التي كتبها بنفسه، إذ يقول إنه كان يحلم بالشهرة: "كنت دائماً طفلاً حالماً، أغلق عيني وأحلم".وقال يوماً لوالدته: "سوف أصبح مشهوراً ذات يوم".

وُلد أندرسن في الثاني من أبريل عام 1805، وكان طفلاً مدللاً لأبويه، وقد تأثر في طفولته بجدته التي كانت تزور بيته باستمرار وتروي له الحكايات الشعبية وترافقه إلى الاحتفالات والمهرجانات.

كذلك كان محبّاً للمطالعة، فقد كان يقرأ الكتب التي حوتها مكتبة أسرته الصغيرة، ويعيد قراءتها، ومن الكتب التي أعجب بها كتاب "قصص ألف ليلة وليلة"، وربما كانت بعض قصاصاته فيما بعد - ومن بينها تلك التي تمثل مساجد إسلامية - من خلال قراءته لهذا الكتاب.

كما أن حبّه للتمثيل والمسرح ظهر في وقت مبكر، فأولع بالمسرح عندما ذهب إليه مع والديه للمرة الأولى، ومنذ ذلك الحين أصبح المكان المفضل لديه طوال حياته.

وكان يمثل في منزله روايات شكسبير، وهو مازال في الثانية عشرة من عمره، ويعد عرائس تمثل الأبطال أو الشخصيات في هذه المسرحيات.

وأخذت موهبته في التأليف والكتابة تبرز، فكتب بعض القصائد والحكايات، وظل المسرح شغله الشاغل، فكان يطمح إلى التمثيل في المسرح الملكي بكوبنهاجن وهو أكبر مسرح في بلاده في ذلك الحين.

كيف أصبح كاتباً؟

بحثت المؤلفة في الفصل الثاني من الكتاب تطور ونموّ موهبة أندرسن في الكتابة وذلك بعد أن اتجه إلى كوبنهاجن لرؤية مسارحها، وكان لايزال فتى صغيراً، رغم معارضة والدته التي كانت تخشى عليه بعد وفاة والده.

وهكذا أصبح "أندرسن" - الشاب الطويل النحيل ذو الشعر الأشقر والعينين الخضراوين الصغيرتين والأنف الطويل - وحده في هذه المدينة الكبيرة، وعمل بادئ الأمر مغنياً، لكنه لم ينجح، فاتجه إلى الرقص مع الكومبارس في المسرحيات، وحفلات الباليه.

وفي هذا الوقت بالذات، بدأ يفكر في الكتابة للمسرح، لكن المسرح الملكي رفض في بادئ الأمر أول أعماله المسرحية لأنه لم يدرس فن الكتابة المسرحية، غير أن إدارة المسرح اقتنعت بموهبته في تلاوة القصة Storytelling، فقدمت له منحة دراسية في التعليم الابتدائي والثانوي، فأتم دراسته عام 1927 ثم دخل الجامعة.

ومارس الكتابة أثناء دراسته، وبالفعل نشر أول كتاب له في عام 1381، بالإضافة إلى كتاب آخر تضمن قصائده الشعرية، وصدرت له بعد ذلك بعض المسرحيات، ومُنح إثر ذلك منحة دراسية ملكية للسياحة في البلاد، وكانت هذه المنحة فرصة سانحة له لأنه كان يحب السفر والرحلات والكتابة عن مشاهداته، فبدأ أولى جولاته في أوربا، ولدى عودته، أتم أولى رواياته، لكنه بدأ عملاً آخر دفع به سريعاً إلى الشهرة، وهو الكتابة للأطفال، ويقول حول هذا في سيرته الذاتية العبارات التالية:

"كتبت بضع قصص للأطفال مثلما أرويها لهم تماماً، أريد أن أكسب محبة الأجيال القادمة".

ونشرت في مايو من عام 1835، أربع قصص له في كتاب "قصص مدهشة للأطفال" كانت ثلاث منها قد نسجت على روايات قديمة من التراث، أما الرابعة فكانت من مخيلته وهي بعنوان: "أزهار إيدا الصغيرة" "Little Idas Flowers"، وكان قد رواها للصغيرة إيدا ثيله، وهي ابنة أستاذ شاب كان صديقاً لأندرسن، في الفترة التي ابتدأ فيها حياته بمدينة كوبنهاجن، فقد قدمت له باقة من الزهور الذابلة وتساءلت: لماذا ذبلت الزهور الجميلة في الليل؟ ففسّر لها "أندرسن" ذلك بقوله إن الزهور كانت قد رقصت في الليلة السابقة مما جعلها تشعر بالتعب، ولذلك ذبلت.

دوره في المسرح

تنتقل المؤلفة في فصل آخر للحديث عن المسرح وأندرسن، فقد كان من عشّاق المسرح، وكان يشاهد في الليلة الواحدة مسرحيتين أو ثلاثا، وهكذا تأثر بفن إبداعي آخر هو فن المسرح، فكتب سبعاً وأربعين مسرحية.

واستمر حبّه للمسرح، فكان عندما يروي قصصه للأطفال، يتحدث إليهم كما لو كان على خشبة المسرح، ويجمع الأطفال والكبار حوله في دائرة، ويروي إحدى قصصه بطريقة تمثيلية تجذب أنظار المشاهدين، كما أنه كان يقدم لهم قصاصاته الورقية التي تمثل الأشخاص أو المشاهد المصاحبة للقصة مما يبعد عنهم الملل، ولما ذاعت شهرته في رواية القصص للصغار، دعاه الكثير من الناس ليروي القصص في بيوتهم ويتناول طعام العشاء معهم.

أما الفصل الرابع، فتطلعنا فيه المؤلفة على جانب مهم في حياة أندرسن، فقد كان مغرماً بالسفر والرحلات، وكانت هذه الرحلات ذات فائدة كبيرة له في عمله الفني، فكلما شاهد منظراً بادر إلى مقصه ليعد قصاصة ورقية تمثل ذلك المنظر، فكأنه يحمل كاميرا يصوّر بها.

وكان يلتقي أثناء رحلاته بكبار الأدباء والفنانين، فيتحدث إليهم مثلما حدث أثناء رحلته إلى إنجلترا، فقد لقي الروائي الإنجليزي الشهير تشارلز ديكنز وأصبحا من الأصدقاء، كما أبدى كل منهما إعجابه بأدب الآخر.

والتقى في فرنسا أيضاً أدباء مثل بلزاك، وفكتور هوجو وألفرد دي فيني وغيرهم، وبلغ عدد رحلاته "29" رحلة.

وفي كل رحلة، كان يعد النماذج الفنية من القصاصات الورقية، ففي تركيا أعدّ قصاصة تمثل أحد المساجد الكبيرة وتبدو فيها المآذن.

وكان يهدي القصاصات للناس، فيحتفظون بها لأنها من فنان كبير وكاتب شهير.

أما أسلوبه في إعدادها فقد خصصت المؤلفة الفصل السادس في كتابها للبحث في هذا الموضوع، إذ إن أهم ما يميزه هو أسلوبه المغاير لما عهد في عصره، فقد ابتكر أسلوباً عفوياً بسيطاً بعيداً عن الأسلوب الذي عرف في أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

وتقدم لنا المؤلفة لمحة عن تاريخ هذا الفن وتطوّره، فقد بدأ في الصين قبل حوالي ألفي عام، فهو فن قديم جداً، فقد اخترع الورق في هذه البلاد قبل عام 200 م، ومازال فنّاً شائعاً في ألمانيا وبولونيا والمكسيك.

على أن الناس في أوربا لم يستخدموا كثيراً قصاصات مثل تلك التي كانت في الصين، فكانت الصور ذات الخيال الأسود هي الشائعة، أما ما كان يعده أندرسن، فقد كان مختلفاً تماماً، إذ لم يستخدم سوى الورق الأبيض والملون، وتميزت تصاميمه بجمالها وبأنها تعبّر عن فنان ذي موهبة فذّة وأصيلة، وكان يجد سهولة في إعدادها أثناء جلوسه مع بعض الأصدقاء وأطفالهم، وكما كانت قصصه للأطفال مجددة في أسلوبها - إذ كان يتبع أسلوب الحياة اليومية البسيطة في الحوار برواياته - فقد تجاهل أيضاً الأساليب المتبعة في زمنه بالنسبة لهذا النمط من الفن التعبيري.

حياته الخاصة

كان أندرسن يحب الأطفال ويتوق لقضاء أوقات طويلة معهم، ومع ذلك لم يتزوج يوماً ولم يكن له أطفال، كما لم يمتلك بيتاً، بل كان يقضي معظم أوقاته في الفنادق وفي بيوت الأصدقاء الذين يستضيفونه ليحكي القصص لأطفالهم، ذلك أنه كان كثير التنقل والسفر من مكان لآخر، وتطلعنا المؤلفة على عبارة من مذكراته في هذا الصدد، فهو يقول: "كلما كبر المرء ومهما تنقل في أنحاء العالم، فهناك مكان واحد يطمئن إليه هو بيته الخاص".

وقد كانت لأندرسن هواية أخرى محببة إلى قلبه هي إعداد دفاتر للأطفال Scrapbooks، يلصق فيها الصور الملوّنة أو بعض قصاصاته الورقية.

الخاتمة

تختم المؤلفة كتابها الطريف بالحديث عن تميّز أندرسن كفنان وأديب، فقد كان معبّراً بصدق عن نفسه، فعندما كتب حكايته للأطفال: "البطة القبيحة"، ربما كان يرمز إلى نفسه، فقد كان يشعر بدمامته، بكبر أنفه وصغر عينيه، وقامته المفرطة في الطول والنحيلة جداً، لكن البطة عندما كبرت اكتشفت أنها بجعة، وهكذا أندرسن، إذ رغم ملامحه التي لم تكن متناسقة، فقد اكتشف أنه يتمتع بذكاء وفطنة وأسلوب ساحر.

وقد ابتدع لنفسه أسلوباً جديداً، فتجنب اللغة المزوّقة التي كان يستعملها المؤلفون في عصره ومنهم كتّاب قصص الأطفال، فكتب بأسلوبه الحديث العادي، وهو ما لم يجرؤ غيره من الكتّاب على استعماله. كذلك كان مبتكراً في قصاصاته الورقية، ومن خلال هذا أثبت أندرسن أنه فنان ممتاز استطاع بنجاح أن يعبّر عن عالم خيالي قصصي جميل، ومازال أطفال العالم اليوم مثلما كان الأمر قبل مائة عام، يستمتعون بفنه وأدبه، وقصصه للأطفال التي ظهر أول مجلد منها بعنوان "حكايات مروية للأطفال Fairy Tales, told for children" هي المفضلة لدى الأطفال ومن أشهرها ملكة الثلج، البطة القبيحة وغيرهما.

وثّقت المؤلفة كتابها بمجموعة مهمة من الكتب والمراجع التي استعانت بها في دراستها لفن وأدب أندرسن، بعضها تحدث عن حياته، ومن أبرزها ذلك الكتاب الذي كتب فيه سيرته الذاتية بنفسه وكتب أخرى ألفها باحثون من الدنمرك تعرّضت لمسيرته الفنية بصفة خاصة، ومن أحدث هذه الكتب كتاب من تأليف ميليس عن موهبته في إعداد القصاصات الورقية.

وبالإضافة إلى ذلك، اعتمدت المؤلفة على رسائله الشخصية المتبادلة مع غيره من الكتّاب والأدباء، وتضمنت مراجعها أيضاً كتباً تفيد أولئك الراغبين في معرفة المزيد عن هانز أندرسن الفنان والأديب ذي المواهب المتعددة.

 

 

بثواجنربراست