مساحة ود

 مساحة ود

حامض.. حلو

في هذه العيادة بالضبط, لا يعتمدون إلا على سعة صدر المريضات وتحليهن بالصبر, فالأبيض المغبّر يحاصرنا, وساعة تتكتك عالياً ترصد ضجرنا, بالقرب من غرفة الكشف الغامضة ببابها الموصد ممرضة ممتلئة تشي ملامحها بود مفقود, تأخذ مكانها القيادي خلف منضدة يستريح عليها دفتر كبير تسجل فيه أسماء المرضى وتطبق بآلية وأمانة شعاراً يحمله الحائط خلف ظهرها.

"الزيارة الأولى 500 ليرة - المراجعة لمرة واحدة 200 ليرة".
أدرجت عندها اسمي, ما كان علي بعد ذلك سوى الانتظار, وما أكثر ما فعلت في أماكن مشابهة وأوقات مختلفة, رغم ولعي بتقليب صفحات المجلات, فإن التي أمامي أكل عليها الزمان وشرب, قديمة جداً وممزقة, حملتني مضطرة لتجاهلها.

تشغلني لوحة إعلانية تزيّن الجدار المقابل في لقطة مقرّبة لطفل عار ممتلئ بالعافية, يمتص متلذذاً زجاجة الحليب, مستعيناً بكفّيه وقدميه للتشبث بها, إلى جوارها تماماً دعاية طبية أخرى عن فوائد الإرضاع الطبيعي.

في المقعد الخالي إلى جانبي جلست امرأة أخرى, فتية سمراء تغطي رأسها بمنديل عقد على عجل, ملابسها تشي بعهد أناقة غابرة, ما فتئت تقضم شفتها السفلى بتوتر واضح وبعصبية تظهر في حركة متواصلة تؤرجح بها قدمها إلى الأمام والخلف.

قطعت مساحة الصمت بيننا سائلة: منذ متى تنتظرين?
أجبتها مبتسمة: قبلك بقليل فقط.
الهدوء الودود الذي ينغم صوتي عادة شجعها على الاسترسال, قالت:
"أطفالي أربعة بين الواحد والآخر سنة واحدة, اثنان منهم ولدا في العام نفسه, أحدهما في الشهر الأول, والآخر في الشهر الأخير منه, يقول عني زوجي هازئاً - ولود لدود - أقسم أني كدت أقبّل يدي حماتي كي تترك الصغار عندها لحين عودتي من زيارة الطبيبة, مَن يحتمل صغاراً, لا يستطيع أحد منهم الاعتماد على نفسه".

سحبت من الأكسجين نفساً مستعصياً, ثم قالت متابعة: (لا أعرف كم سيلزمني من الوقت هنا, المصيبة أنني حامل مرة أخرى, أريد منها - وأشارت نحو الباب المغلق - أن تجهضني مهما كلّفني ذلك, حتى جسدي لا يحتمل حملاً خامساً, متعبة دائماً, لا طاقة بي لأمومة إضافية. هل تدرين إن كانت تقوم بمثل تلك العمليات, وكم ستكلفني يا ترى? ليس مهماً, المهم أن أخلص من هذه المصيبة الجديدة.. ما شكوتك يا أختي؟".

كانت تتحدث مستفيضة دون أن تدري حقّاً أنني أستمع, لم تكن تنظر إليّ, كانت تفضفض تعبها بحوار أحادي الجانب, جمّدت قدمها عن حركتها النواسية, ورفعت نحوي وجهاً تعاقب عليه ألف لون خلال جزء من الثانية حين وصل مسمعها صوتي الخفيض على استحياء يجيبها:

"إنها زيارتي الأولى لهذه العيادة... قالوا عنها شاطرة في علاج العقم".

 

سوزان خواتمي