أرقام

 أرقام

رجال ضد النساء
العنف قضية تاريخية، وقد كانت البداية: خلافا بين قابيل وهابيل انتهى بأن قتل أحدهما الآخر.

ومنذ ذلك التاريخ تطورت أسباب وأشكال العنف طبقا لتطور المجتمعات والثقافات والمصالح ووسائل العدوان وما تركه كل ذلك على النفس البشرية.. و.. في القرن الأخير سجلت الأرقام ضحايا الحروب والنزاعات الأهلية والطائفية بالملايين مما اعتبره المؤرخون شيئا غير مسبوق، فمن كان يجري قتلهم بالسيف في سنوات بات سلاح نووي أو كيماوي يحصدهم في دقائق!

تطورت قضية العنف، وازدادت محاولات نزع الفتيل ومعالجة الأسباب لتكون النفس البشرية أكثر تهذيبا وأقل ميلا للعنف.

ولكن، وخارج هذه الدائرة تأتي مع نهايات القرن محاولات لتسجيل نوع آخر من العنف لا يجري فيه استخدام القنابل أو الصواريخ.. ولا تتم فيه مواجهات مسلحة أو مقارعات سياسية. إنه العنف ضد المرأة.. أو العنف القائم على أساس الجنس فهي في هذه الدراسات معرضة للأخطار والأوجاع والأمراض.. لأنها امرأة ولأن توازن القوى، في البيت أو في المجتمع لغير صالحها، فمازال الرجل هو "السوبر".. ومازالت المرأة حتى في أمريكا وأوربا هي الأضعف جسمانيا واقتصاديا واجتماعيا.

هذه هي القضية التي أولتها منظمات السكان والمرأة والصحة اهتماماتها في السنوات الأخيرة من القرن.. ولكن هل يمكن أن يتحول ما هو شخصي وخاص على هذا النحو الى دراسة بالارقام تعطي مؤشرات عامة؟.. بل هل يمكن أن يتحول ما هو سري، وهو العنف داخل البيت وفي سرير الزوجية، إلى قضية علنية يتدخل فيها القانون كما يطالبون؟

المحاولة تستحق وقفة.

في عام 1998 وضع فريق تابع لصندوق الأمم المتحدة للسكان دراسة حول القضية وانتهى إلى تعريف يقول: "إن العنف على أساس نوع الجنس هو العنف الذي يتعلق بالرجل والمرأة، وتكون الأنثى عادة هي الضحية فيه، وينجم هذا العنف عن عدم تكافؤ علاقات القوة بين الرجل والمرأة، ويستهدف المرأة لأنها امرأة، ويشمل هذا العنف الأذى الجسدي والجنسي والنفسي بما في ذلك التخويف والمعاناة والقسر أو الحرمان من الحرية داخل الأسرة أو داخل المجتمع المحلي بوجه عام، كما يشمل العنف الذي ترتكبه الدولة، أو الذي تتغاضى عنه".

هكذا كان التعريف، وفي التفاصيل وطبقا لدراسات عديدة قام بها صندوق الأمم المتحدة للسكان تأتي النماذج بالأرقام، ففي بلاد كثيرة يحدث تميز ضد الفتاة قبل أن تولد، فالثقافة العامة في هذه المجتمعات ثقافة ذكورية.. الولد هو الأفضل ونوع الجنين يحدد نوع المعاملة حتى انتشر قتل الإناث في سن الرضاعة، بل والإجهاض الانتقائي للأجنة الإناث، وقد أظهرت دراسة استقصائية أجريت عام "1987" في الصين أن عدد الإناث الرضع كان أقل بنصف مليون أنثى مما كان متوقعا، منذ ذلك التاريخ تزايدت نسبة الذكور على الإناث، وهو ما حدث أيضا في الهند وكوريا وساعد عليه تقدم وسائل الفحص التي تحدد نوع الجنين قبل أن يولد!

البنت في الكثير من المجتمعات غير مرغوب فيها، والعنف وارد للقضاء عليها، أو لاضطهادها وحرمانها من التغذية الكافية أو الرعاية الصحية الملائمة في سن الطفولة مما جعل هذه الظاهرة تنتشر: ظاهرة تفوق عدد الذكور في المجتمع خلافا للنسبة البيولوجية الطبيعية!

وتمضي رحلة العنف بسبب نوع الجنس، فتسجل دراسة أجريت في نيجيريا عام "1988" أن "16" بالمائة من المرضى الإناث اللواتي يلتمسن العلاج للأمراض المنقولة عن طريق الاتصال الجنسي كن طفلات دون سن الخامسة وأن "6" بالمائة أخريات كن في أعمار بين السادسة والخامسة عشرة، والأكثر وطبقا لدراسة في مستشفى الولادة بليما أن "90" بالمائة من الأمهات الصغار بين الثانية عشرة والسادسة عشرة أصبحن حوامل نتيجة علاقة محرمة، ونفس الشيء أشارت إليه دراسة في كوستاريكا، بل لقد ثبت أنه في المجتمعات المتحررة أيضا توجد نفس الظاهرة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية كانت كثيرات من ضحايا العلاقات غير الشرعية تحت الرابعة عشرة وكانت التقارير تقول: "انهن أكثر ميلا لتعاطي المخدرات والكحول وأكثر تعرضا للمشاكل النفسية".

الصمت والخضوع

وطبقا للأدبيات الدولية التي راجت في العقد الأخير من القرن العشرين فإن ضحايا الختان هن في نفس الوقت ضحايا للعنف غير المبرر الذي تمارسه الأسرة ضد بناتها، وبالأرقام تقول أوراق صندوق السكان إن هناك عددا يتراوح بين "85" و"114" مليون امرأة وبنت يعيش معظمهن في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا قد تعرضن للختان وبما يشوه الأعضاء التناسلية!

وهكذا تتوالى حلقات العنف ابتداء من مرحلة الجنين الأنثى، إلى الطفلة المضطهدة، إلى الحمل القسري في سن المراهقة بعلاقة شرعية أو غير شرعية. وفي الحالة الأخيرة تكون مواجهة حالات الحمل بالإجهاض وما ينتج عنه من مخاطر، أو بالقتل، وهي جريمة شائعة لغسل العار في كثير من البلدان، وقد تكون النهاية بالانتحار!

ولكن ودون ذلك تحدث جرائم عنف أخرى فتسجل دراسة أجريت في "35" بلدا متنوعا أن نسبة تتراوح بين الربع والنصف من الإناث قد تعرضن للإيذاء الجسدي من جانب الأزواج وأن نسبة أعلى قد تعرضن للإيذاء النفسي لكن "ثقافة الصمت" تحول دون أن تبوح المرأة بما يجري داخل بيتها، خوفا أو حرجا أو قبولا للأمر الواقع.

والنتيجة لكل هذه الأشكال من العنف أمران: فقدان عدد من سنوات الصحة والعافية، أو الإصابة بأمراض جسدية ونفسية تم إحصاؤها أيضا.

وسواء كان العنف سببا للوفاة المبكرة أو سببا لفقدان "العمر الجميل" فإن ترجمة ذلك لأرقام تقول إن الاغتصاب والعنف داخل الأسرة يمثلان سبب خسارة مقدارها خمسة بالمائة من سنوات الحياة المعافاة للنساء اللواتي في سن الإنجاب، وترتفع النسبة لتصل إلى "16" بالمائة في الصين، ويجرى مقارنة كل ذلك بأسباب أخرى للوفاة أو المرض مثل: الإصابة بالإيدز، أو الإصابة بالسرطان، أو الوقوع ضحية لحادث سيارة، أو التعرض لأمراض القلب أو السل.. تجرى المقارنة فتكون آثار العنف في نفس المرتبة إن لم تزد في بعض البلاد.

كيف يمكن التصدي لكل ذلك، وبعض ميراث تاريخي يتعلق بثقافة سائدة وموروثة؟

تميل الدراسات الآن لتدخل القانون حماية للمرأة، فهل يمكن تقنين ما يجري داخل البيت؟ لقد اعتبرت محكمتان من المحاكم الدولية المعنية بجرائم الحرب، العنف الجنسي ضد الإناث "جريمة ضد الإنسانية" وجرت مطاردة مرتكبيها بأحكام صادرة من محكمة معنية بالبوسنة وأخرى في بورندي.. حدث ذلك في جرائم الحرب. ولكن إذا كان العنف أسريا وداخل جدران مصمتة كيف يتحول الأمر لتحقيق أمام القاضي و"من يجرؤ على الكلام"؟

إنها قضية التقدم والتخلف، قضية ثقافة الصمت والخضوع أو الثقافة التي تعلي من شأن المرأة وتحقق التوازن بينها وبين الرجل.

أدبيات نهاية القرن وجهود المؤسسات الدولية في الحقبة الأخيرة تطالب بإنهاء الحرب الباردة داخل كل بيت، بل داخل كل خلية في المجتمع تجرى فيها التفرقة بين رجل وامرأة ويجرى فيها اضطهاد المرأة، لأنها امرأة!

 

محمود المراغي