جمال العربية

جمال العربية

أسلسُ من الماء وأحلى من الشهد

جاء هذا التعبير الجميل - لأول مرة - في كلام لابن المعتز عن الشاعر ربيعة الرّقى, أما ابن المعتز, فهو الشاعر والناقد الذوّاقة, صاحب النظرات الصائبة في الإبداع الشعري العربي, وصاحب كتاب (طبقات الشعراء) الذي كشف فيه عن وعي عميق بالشعر, وذوق بصير بمواطن الجمال فيه, وقدرة فذّة على تتبع أسراره المستكنة وجوهره الخبيء, وإصدار الحكم النقدي الصائب.

وأما ربيعة الرّقى, فأحد شعراء العصر العباسي الذين لم ينالوا ما يستحقونه من شهرة وذيوع صيت.

وطغت عليه وعلى شعره شهرة الشعراء الذين داروا في فلك الخلفاء والأمراء والولاة, وكانوا حريصين على منادمة الحكام وخدمتهم, والتقرب إليهم, أما ربيعة بن ثابت الأنصاري - الذي سُمّي بالرّقي نسبة إلى بلدته (الرّقة) التي يقول عنها ياقوت: (هي مدينة مشهورة على الفرات بينها وبين حران ثلاثة أيام), وهي من بلاد الجزيرة في سوريا - ومعنى الرقة في اللغة: كل أرض إلى جنب واد ينبسط عليها الماء أيام المدّ ثم ينحسر عنها فتكون جيدة النبات - ربيعة هذا آثر البعد عن بغداد والعراق, وترك خدمة الخلفاء ومخالطة الشعراء, وجعل من شعره ومن قصائده مجالاً فسيحاً لتصوير أشواقه واهتزازات وجدانه, بعيداً عن الموضوعات التي التهمت الجانب الأكبر من شعر شعراء زمانه كالمديح والهجاء. ويبدو أن كونه ضريراً جعله كثير العكوف والاعتزال والبعد عن زحام الحياة, فصفت له آفاق التأمل, وانفسحت أمام بصيرته دروب الوعي العميق بالقلب الإنساني, وأشبه شعره شعر العباس بن الأحنف - الذي خلا ديوانه من كل ما شغل شعراء زمانه باستثناء شعر الحب والغزل الذي صار علما عليه وعلامة فيه -, وحقق كل من ربيعة الرقي والعباس بن الأحنف مكانته المتميزة في ديوان الشعر العربي من غير أن تجبره الحياة على الدوران في طاحونة الشعراء الراغبين والطامعين.

يلتفت عبدالله بن المعتز - في مجال حديثه عن الشعر والشعراء - إلى ربيعة الرقي أكثر من مرة وفي مواضع عدة.

فهو يقول عنه: كان ربيعة أشعر غزلا من أبي نواس لأن في غزل أبي نواس برداً كثيراً, وغزل هذا سليم سهل, ويقول عنه أيضاً: فأمّا شعره في الغزل فإنه يفضل على أشعار هؤلاء من أهل زمانه كثيراً, وعلى كثير ممن قبله, وما أحد أطبع ولا أصحّ غزلاً من ربيعة.

ويقول: وهذا أطبع ما يكون من الشعر وأسهل ما يكون من الكلام.

وحين يعلق على بعض مختارات من شعره يقول: فهذا كما ترى أسلس من الماء وأحلى من الشهد.

الطريف أن (حلاوة الشهد المصفى) نطالعها في شعر ربيعة, في واحدة من قصائده الجميلة في الغزل, حين يقول:

أعلّل نفسي منك بالوعد والمنى

فهلاّ بيأس منك قلبي أعلّل

وموعدك الشهد المصفّى حلاوة

ودون نجاز الوعد صاب وحنظل

وأمنح طرف العين غيرك رقية

حذاء العدا, والطرف نحوك أميل

لكيما يقول الناس: إن امرءا رمى

ربيعة في ليلى بسوء كمبطل

لقد كذب الواشون بغياً عليهما

وما منهما إلا بريء معقل

ينبض شعر ربيعة الرقي بجمال العربية وروعة تجليّاتها, في يسر وانسياب وتدفّق, واحتفال بالصورة الشعرية المعبّرة, واللغة القادرة على اختراق الأزمان والعصور لامتلائها بروح البساطة البعيدة عن كل حشو أو تعقيد, وقربها من لغة الحياة التي خلت من كل تصنّع أو افتعال, فظلت حية طيّعة متوهجة:

زارتك سُعدى وسُعدى منك نازحة

فأرّقتْك وما زارتْك من أمم

أهلا بطيفك يا سُعدى الملم بنا

طيف يسير بلا نجم ولا علم

أنت الضجيع إذا ما نمت في حلمي

والنجم أنت إذا ما العين لم تنم

ما أكذب العين والأحلام قاطبة

أصادق مرّة في وصلها حلمي؟

يا ليت من لامنا في الحب جرّبه

فلو يذوق الذي قد ذقت لم يلُم

الحب داء عياء لا دواء له

إلا نسيم حبيب طيب النسم

أو قبلة من فم نيلت مخالسة

وما حرام فم ألصقته بفم!

هذا التعبير الذي أطلقه عبدالله بن المعتز على شعر ربيعة الرقّى: (أسلس من الماء وأحلى من الشهد) نراه أصدق ما يكون تحققا في قصيدته التي يقول فيها:

حمامة بلّغي عنّي سلاما

حبيبا لا أطيق له كلاما

وقولي للتي غضبت علينا

علام وفيم يا سكنى علاما

أفي هجران بينك تصرميني

وما رمنا لصرمكمو صراما

ولم أهجرك مقلية ولكن

حللت عراقكم وحللت شاما

عديني أن أزورك, إن داري

ودارك لا أرى لهما التياما

وإن جميع أهلك عنّفوني

ولاموني ولم أطق الملاما

كرام الناس قبلي قد أحبّوا

كرائمهم, وأحببْن الكراما

جميل والكثير قد أحبّا

وعروة من هوى لاقى حماما

همو سنّوا الهوى والحب قبلي

وما ألفي لهم في الناس ذاما

فيا غنام يا بصري وسمعي

رسيس هواك أورثني سقاما

لقد أقصدت حين رميت قلبي

بسهم الحب إن له سهاما

زجرت القلب عنك فلم يطعني

ويأبى في الهوى إلا اعتزاما

إذا ما قلت: أقصر واسل عنها

أبى من صرمكم إلا انهزاما

ولولا فتنتي بك - فاعلميها

إذن صلّى ربيعة ثم صاما

أقام الحبّ: حبّك في فؤادي

وحبّي في فؤادك قد أقاما

كلانا وامق كلف معنّى

بصاحبه, وما يبغى حراما

أحبّ حديثها وتحبّ قربي

وما إن نلتقي إلا لماما

فيا ليت النهار يكون ليلا

وليت الصبح لا يجلو الظلاما

ويا ليت الحمام مُسخّرات

لنرسل في رسائلنا الحماما

لعلّ حمامة تُهدي إلينا

كتاباً منك نجعله إماما

وتُبلغك المحبّة من مُحبّ

أحبّك قلبه يفعا غلاما

وما ذنبي وحبّك هاج هذا

ولو تُرك القطا لغفا وناما

ولو أبصرْت (غنمة) ذات يوم

وقد سفرت وأحدرت اللثاما

ينوط وشاحها بقضيب بان

ويكسو مرْطُها دعصاً ركاما

إذا ابتسمت حسبت الثغر منها

تألق بارق يجلو الظلاما

جلت ببشامة برداً عذاباً

كأن عليه مسكاً أو مُداما

فلم تزد البشامة فاك طيبا

ولكن أنت طيّبت البشاما

وما أدماء جؤذرها تراعى

وتدنو حين يسمعها بغاما

بأحسن منك يوم رحلت عنا

وقد بلّت مدامعك اللثاما

وكل الحب لغو غير حبّي

فقد أردى الحشا وبرى العظاما

يكشف هذا النص الجميل عن ذوق جديد في الإبداع الشعري, ولغة شعرية جديدة استطاع ربيعة الرقي - ومن جاراه في طرائقه الشعرية - أن يمهّد لها ويرسلها ليتلقفها الرواة والحفظة والوراقون. وهي لغة تنبئ عن عصر أدبي جديد تأكدت ملامحه وقسماته مع اتضاح صور التجديد الشعري في مطالع العصر العباسي, وكان شعراء القرن الثاني الهجري - وبخاصة ابن ميادة والعباس بن الأحنف وأبو الشيعي وأشجع السلمي وأبو نواس ومسلم بن الوليد وعلي بن جبلة - هم رواد هذا الذوق الجديد وباعثوه. وأتاحت الحياة الرخية, والوفرة المنعّمة رخاء في لغة الإبداع الشعري ووفرة في الخيال الشعري الذي ينحو إلى التخلص من فضاء البادية ليصبح أكثر اقتراباً من الطابع المدني للحياة البغدادية الجديدة, وما تمتلئ به جوانب التحضّر من ثراء في الفكر وامتلاء في الشعور وعمق في الوجدان.

من هنا, كان ربيعة الرقي صادقاً مع نفسه وتكوينه الحضري حين انطلق يقول:

دسّت سعاد رسولا غير متهّم

وصيفة فأتت إتيان منكتم

جاء الرسول بقرطاس بخاتمه

وفي الصحيفة سحر خُطّ بالقلم

فيه فنون هوى ظلّت تُغيبه

على الجهول, وما يخفى على الفهم

وقد فهمت الذي أخفت فقلت لها

بُوحي بلا ونعم من بيّن الكلم

قالت: تعال إذا ما شئت مستتراً

والحكم حكمك يا رقّي فاحتكم

أقدمْ ربيعة في رحْب وفي سعة

في غير قمراء, والظلماء فاغتنم

فزرتها واقعا طرْفى على قدمي

وقد تلبّست جُلبابين من ظلم!

فكان ما كان لم يعلم به أحد

وما جرحت وما عللت بالحرم.

 

فاروق شوشة