معرض العربي

 معرض العربي

سيزان.. ومشهد الجبل

في 21 سبتمبر يكتب سيزان خطابا إلى صديقه إميل برنار قائلاً "أتمنى أن أموت وأنا أرسم.." أمنية تحققت بعد ذلك بأيام, وانتقل سيزان إلى جوار ربه في 22 أكتوبر 1906, عن عمر يناهز 67 عاماً.

منذ ذلك اليوم لم يتوقف الحديث عن هذا الفنان, الذي اعتبره النقاد والمؤرخون "أبا الفن الحديث". كان لي الحظ أن أرى في منتصف السبعينيات, عرض "السنوات العشر الأخيرة" لأعمال سيزان في الجراند باليه بباريس. في هذا المعرض الذي زرته سبع عشرة مرة, اكتشفت لماذا يجمع النقاد والمؤرخون على أن سيزان هو من فتح الباب للفن الحديث على مصراعيه. كان الفن قبل سيزان يرتكز على الوصف والاعتماد على الطبيعة في ظاهرها وأهم إنجازاته تمثل في المدرسة التأثيرية بظلالها وألوانها أو في الكلاسيكية الجديدة والرومانتيكية التي اعتمدت على جلال التاريخ وعظمة الأسلاف.

اللوحة المعروضة, والتي رسمها في السنوات الأخيرةمن حياته, ضمن مجموعة كبيرة أخرى لجبل سانت فيكتوار, الذي كان يراه من نافذة مرسمه في أكس آن برفنس بجنوب فرنسا, حيث عاش سنواته الأخيرة بعد طول ترحال. رسم سيزان هذا الجبل عشرات المرات, في أضواء تختلف باختلاف ساعات اليوم, ومن كل الزوايا. هذا العمل يحمل أهم سمات إنجاز سيزان. اكتسب المنظر الصلابة وإحكام التكوين الذي كان قد ضاع أو تحلل في اللوحات التأثيرية نتيجة انبهار التأثيريين بتتبع الضوء واهتزازاته تتبعا أضاع في أحيان كثيرة تماسك العمل وصلابته.

تحرر الفنان بفضل الأعمال الأخيرة لسيزان, وهذا المنظر خير مثال لهذا التحرر حيث أصبحت كل لمسة على سطح اللوحة لا تعمل خادمة في الوصف الظاهري للطبيعة. بحث سيزان في هذا المنظر عن التكعيبات التي تتولد في الطبيعة نعم, ولكن تحويرات الفنان وحريته أصبحت هي الطريق. تكعيبات أدت فيما بعد إلى المدرسة التكعيبية, التي ولدت بفضل أبحاث سيزان, على يد بيكاسو وبراك. لو أغمضنا العين نصف إغماضة, أو لو حجزنا مساحات من اللوحة ورأيناها منفصلة, لوجدنا أعمالاً وبحثاً تجريدياً, بحثاً يبحث فيه الفنان عن إيقاع لوني, وإيقاع مساحات, وإيقاع تكعيبات.

إيقاع.. إيقاع.. إيقاع..
إيقاع تشكيلي في اللون.
إيقاع تشكيلي في المساحات.
إيقاع تشكيلي قبل الوصف, وبعد الوصف أيضاً, ومن هنا تحررت اللوحة, وأصبح المضمون تابعاً للشكل, متولداً منه, وافتراق الموضوع عن أن يختلط بالمضمون, وتأثر الفنانون, وتأثر الفن وتخلقت المدارس الحديثة بعد أن فتح سيزان لها الباب. تخلقت التكعيبية, تخلقت التجريدية.

تعالوا معي أريكم فناناً مصرياً تأثر بهذا البحث بل سأدعي أنه طوره وسار به خطوات. انظروا إلى منظر رمسيس يونان في أعماله الأخيرة. ارتبط سيزان بجبل سانت فيكتوار, وظل مرتبطاً به, رغم تحرره في آن واحد, لكن رمسيس يونان استطاع أن يخطو إلى الأمام خطوة جديدة, وخلق لنا المنظر خلقاً, أي أنه غير موجود في الطبيعة أصلاً, لكنه بناه بناء, من مخيلته العبقرية, لكنه ظل منظراً طبيعياً, وأنا أضيف أنها طبيعة الفن. فلننحن لعبقرية سيزان, ولننحن أيضاً لعبقرية رمسيس يونان.

آفاق التشكيل اللبنان
ذاكرة الألوان من 1915 إلى 1965
بقلم: جهاد فاضل

بعنوان "التشكيل اللبناني" اقامت وزارة الثقافة والتعليم العالي في لبنان معرضا استعادياً لفناني حقبة 1915 1965 في قاعة قصر الأونسكو ببيروت. وقد شكل هذا المعرض التفاتة ما نحو ذلك الكم الهائل من الأعمال الفنية التي سبق للدولة اللبنانية أن اقتنتها من الفنانين خلال المعارض التي كانت وزارة التربية والفنون الجميلة في لبنان "هكذا كان اسمها الرسمي" تقيمها دورياً في كل ربيع.

وبالرغم من الجهود المضنية التي قامت بها اللجنة المكلفة اقامة هذا المعرض من أجل أن يجد فنانو تلك الحقبة جميعا مكانا لهم في هذه التظاهرة الاستعادية, فان فقدان أعمال الكثيرين منهم, او تشوهها, أو عدم الفراغ من ترميمها, قد حال دون ذلك. ولكن المعرض كان مناسبة لتعريف الأجيال الجديدة إنجازات رواد النهضة الفنية اللبنانية.

ومن المعروف أن وزارة الثقافة والتعليم العالي تملك مجموعة قيمة من الأعمال التشكيلية التي تحمل تواقيع فنانين ومبدعين لبنانيين. وهذه المجموعة تغطي حقبة طويلة من تاريخ التشكيل اللباني, رسماً ونحتاً, تبدأ مع أعمال لجبران خليل جبران وجورج قرم وعمر الأنسي ومصطفى فروخ, ولا تنتهي باعتبارها في اغتناء متواصل. ولأنه لحق بهذه المجموعة إهمال كبير, فقد أطلقت وزارة الثقافة منذ عدة أشهر مشروعاً لترميم مجموعتها التشكيلية. وقد قطع هذا المشروع شوطا طويلا, وهو لايزال مستمراً. ولهذا السبب اكتفت اللجنة المكلفة تنظيم هذا المعرض بثلاث لوحات من أعمال كل فنان وكل ذلك أعطى المعرض صورة بانورامية عن فناني تلك الحقبة وإن كان بعض النقاد قد أخذ على المعروض من أعمال بعض الفنانين أنه لا يمثل كل التمثيل خط تطورهم.

على أن الأمر انتهى باللجنة إلى اختيار ما اختارته من لوحات من باب اقتناعها بأن أفضل الممكن خير من سواه, ومن باب اقتناعها أيضا بأن هذا المعرض الاستعادي الذي ختم من الناحية الواقعية نشاطات بيروت عاصمة ثقافية لعام 1999, ليس سوى خطوة أولى نحو مسيرة طويلة تهدف إلى حفظ التراث التشكيلي اللبناني والتعريف به.

والواقع أن هذه المجموعة النادرة كان يمكن لها أن تشكل أجمل نواة لمتحف وطني للفن الحديث. ولكن مشاريع إقامة هذا المتحف قد تعثرت دائما لأسباب مختلفة منها مالية ومنها عدم اهتمام الدولة اهتماما جديا, وفي حقب مختلفة, بالشأن الثقافي. ولكن الذين شاهدوا هذا المعرض أشادوا بالقيمة الفنية العالية للأعمال المعروضة. وقد وصف أحد النقاد الفنيين ما رأى بأنه "مجموعة نادرة وقيمة" طاولتها مع الأسف سياسة الإهمال وعدم الصيانة, إضافة إلى ما جنته عليها الحرب وما خلفته من نتائج كارثية أدت كلها إلى تدمير القسم المهم منها. كما أن يد السرقة امتدت لتطاول قسماً آخر يصعب إحصاؤه الآن.

وقد علقت في المعرض أعمال أساسية لفريد عبود, نقولا نمار, شفيق عبود, بول غيراغوسيان, إيلى كنعان, منير نجم, إيفيت أشقر, عارف الريس, رفيق شرف, حسين ماضي, حسن الجوني, هيلين الخال, جان خليفة, سعيد إلياس عقل, هاروت طوروسيان وسواهم.

أما الذين غابت, أو غيبت, أعمالهم فكانوا كثيرين أيضا. فلم يكن هناك أعمال لسعدي سينوي, بيبي زغبي, فيليب موراني, بوربس نوفيكوف, علي قبيسي, فريد عواد, اسادور, هرير, عاصم ستيتيه, وسواهم, برغم أن الدولة اللبنانية كانت اشترت أعمالا لهؤلاء الفنانين وكان من المفروض أن تكون ضمن جردة الوزارة.

وبالرغم من هذا النقص, فإن المعرض شكل استعادة لذاكرة فنية مهمة للوطن, وإطلالة جيدة على قرن جديد. وقد عبر فنانون كثيرون معاصرون شاهدوا المعرض عن حلمهم ببناء متحف وطني للفن الحديث, وهو حلم طالما راود أسلافهم الفنانين الراحلين.

 

عدلي رزق الله