تراث عربي

تراث عربي

من تراثنا السياسي

ربما لا يعلم الكثير أن تراثنا العربي الإسلامي حافل بالكثير من المؤلفات في التراث السياسي التي عرفت باسم كتب "المكايد والحيل" في فنون الحكم والسلطة، مشيرة إلى أن إتقان الخلفاء والملوك والسلاطين لمثل هذه المكائد والحيل هو شرط بقائهم في سدّة الحكم، وسبيل وجودهم السياسي الفاعل في لعبة السلطة والحكم، بما هي - على الصعيد السياسي - أكثر الوسائل حذقاً ومهارة للوصول إلى الأهداف وتحقيق الغايات، وبما هي ضرب من الحكمة العملية والحنكة السياسية، ومن ثم يرى كبار الساسة تقديمها - في تدبير شئون البلاد وأمر العباد - على ما عداها من الوسائل، ولاسيما السيف، حيث لا يبادر إليه إلا حمقى السياسيين، فهو - وإن كان الوسيلة الأسهل - غير مضمون النتائج، دمويّ العواقب، على حين أن الحيلة - وإن كانت الأكثر صعوبة - نقيض ذلك، وتكشف في الوقت نفسه عن دهاء كبار السياسيين الذين لم يجدوا غضاضة في استخدامها في لعبة السلطة، بما هي لعبة خطرة لا ترحم، والغاية تبرر الوسيلة مبدأ سياسي قديم، وحيث "الحاجة تفتق أبواب الحيل".

من هنا، حفلت كتب التراث بمثل هذه "المكايد والخدائع المتوصل بها إلى بلوغ المقاصد" بكل دلالاتها السياسية والتاريخية والنفسية، وعلى الرغم من أن الكثير من هذه الكتب قد ضاع في مدارات الزمان ومتاهات المكان، فإن الكثير منها أيضاً مازال مخطوطاً في المكتبات الأوربية، وإن كان بعضها قد عرف طريقه إلى النشر مترجماً إلى اللغات الأوربية، مثل كتاب "رقائق الحلل في دقائق الحيل" الذي قدّر له أن ينشر في لغته الأم أخيراً، وهو الكتاب الذي نقتطف منه هذه النصوص التي لا تحتاج منا إلى تعليق، وكأن تاريخنا السياسي يعيد نفسه!

من حيل معاوية

عندما كان معاوية بن أبي سفيان يحتضر أوصى ابنه "يزيد" بجملة أشياء منها أنه قال له: لا ينزلني قبري إلا عمرو بن العاص، فإذا ألحدني وأراد أن يطلع فلا تتركه يفعل ذلك حتى يبايعك، فإن لم يفعل فاشرخ رأسه بالسيف، فما أخاف عليك إلا منه ومن الحسين بن علي عليهما السلام. فلما قضى معاوية نحبه، وحُمل إلى قبره أمر يزيد عمرو بن العاص أن يلحده، فلما ألحده وهمّ بالخروج سلّ يزيد سيفه وقال لعمرو: إما أن تبايعني أو ألحقك به! فقال عمرو: ما هذا منك، ولكنه من هذا، وأشار إلى معاوية مغتاظاً، ثم بايعه مرغماً، وهكذا استقر الأمر ليزيد!!

من حيل المنصور

عندما أراد أبو جعفر المنصور أن يخلع علي بن موسى من ولاية العهد، ويقدّم ابنه المهدي عليه رفض علي أن يجيبه إلى ذلك، غير أن المنصور لما أعياه الأمر بعث إلى خالد بن برمك طالباً منه "الحيلة"، فقال له خالد: ضُمّ إليّ ثلاثين رجلاً من شيعتك من بني العباس، وأكفيك هذا الأمر، ففعل، فلما ذهب خالد ومَن معه إلى علي بن موسى، رفض التنازل عن ولاية العهد، قائلاً: ما كنت لأخلع نفسي وقد جعل الله الأمر إليّ، وبعد أن خرج خالد من عنده، قال للرجال الذين معه: ما عندكم في أمره? قالوا: نبلغ أمير المؤمنين رسالته، ونذكر امتناعه، فقال خالد: لا، ولكن نبلغ أمير المؤمنين أنه قد أجاب ونشهد عليه إن أنكر ونستغفر الله من هذه الكذبة، ففعلوا ذلك، فجعل أبو جعفر المنصور ولاية العهد إلى المهدي، وكتبوا بذلك كتاباً، فأتى به علي بن موسى، فأنكر ذلك، فدعا المنصور خالداً ومَن كان معه من الرجال، فسألهم، فقالوا: نشهد عليه بأنه أجاب وليس له أن يتراجع!!

فأمضى المنصور الأمر وشكر خالد بن برمك على ذلك، وقال: لقد كفيتني أمراً مهماً، وكان المهدي يعرف لخالد ذلك ويجعلها من أياديه الجسام!!

وتستخدم الحيلة أيضاً للتخلص من الخصوم والمنافسين السياسيين والعسكريين، دون رحمة، وما أكثر ما كان ذلك، حيث إن قمة اللعبة السياسية لا تسع إلا واحداً:

خلا يوماً أبو جعفر المنصور مع يزيد بن أبي أسيد فقال له: يا يزيد: ما ترى في قتل أبي مسلم "الخراساني، قائد الجيوش العباسية"فقال: أرى أن تقتله وتتقرّب إلى الله بقتله، فو الله ما يصفو لك ملكك ولا تهنأ بعيش ما بقي، قال يزيد: فنفر مني نفرة ظننت أنه سيأتي عليّ، ثم قال: قطع الله لسانك وسلّط عليك عدوّك، أتشير علي بقتل أنصر عباد الله لنا وناصرنا على عدوّنا? أما والله لولا حفظي ما سلّف منك لأعددتها هفوة من هفواتك ولضربت عنقك، قم عني لا أقام الله حيلك!!

قال يزيد: فقمت وقد أظلم بصري، وتمنيت أن تسيخ الأرض بي، فلما قتله قال لي: يا يزيد أتذكر يوم أن شاورتك في قتل أبي مسلم? قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: كان ذلك والله في نفسي وما أشك فيه، لكن خشيت منك أن تشيعه فيسمعه فينجو، فقلت لك ما قلت!

فرّق تسد

أحياناً كان يلجأ الخلفاء والملوك إلى سياسة "فرّق تسد"، إذا ما استشعروا قوى يتنامى خطرها أو تهدد عروشهم، على نحو ما حدث عند شغب جند المنصور عليه، وقد خشي أن يجمع أحد كلمتهم فتخرج الخلافة من يده، فاستدعى شيخاً من شيوخ بني العباس ودهاتهم، يدعى قيثم ابن العباس، وطلب منه الحيلة! فانصرف الشيخ إلى رؤساء الجند، وراح يزكي فيهم النعرات القبلية والإقليمية والعرقية الكامنة، حتى وقعت بينهم نار الحرب، وافترق الجند فصارت مُضر فرقة، واليمن فرقة، والخراسانية فرقة، ثم دخل قيثم بعد ذلك على أبي جعفر المنصور وأخبره بما جرى، متباهياً بصنيعه للمنصور، وهو يقول: لقد فرّقت بين جندك، وجعلتهم أحزاباً متصارعة!، فقويت بذلك شوكة المنصور، وثبتت له الخلافة.

وتحفل مصادرنا التراثية بالكثير الكثير من حيل الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء والولاة والقضاة، وقادة الجيوش ومقدمّي الشّرَط "الأمن" ممن كانوا يعمدون إلى استخدام الحيلة في القضاء على خصومهم ومنافسيهم، وفي قطع دابر كبار قطاع الطرق المعتصمين بأعالي الجبال، وفي الكشف عن عتاة اللصوص، إذا لم يُقرّوا - تحت وطأة التعذيب - بجرائمهم، أو لم يكن ثمة دليل يدينهم.

حيل الخصوم
وأمراء الزنج المعاصرون

ويستغل الخصوم السياسيون الحيلة أيضاً في تجنيد العامة والتغرير بهم، كما فعل علي بن محمد بن عيسى المعروف بالبرقعي أمير الزنج الذي استغل الدين لأغراض سياسية، فأظهر الصلاح ومشى في زي النسّاك زمنا، ثم رفع رقعة "كتاباً" إلى الخليفة المعتمد، يقول فيها: إنني اجتزت البصرة فرأيت عبيدها - على كثرتهم - يُسامون سوء العذاب في الخدمة والكدّ نهاراً، فإذا كان الليل قُيّدوا، وما بهذا أمرنا الشرع الحنيف الذي دعا إلى حسن العشرة معهم، وطلب منه كتاباً إلى أهل البصرة يوصيهم بالعبيد، وينهيهم عن الإساءة إليهم، ويمنعهم من تقييدهم، وكان أهل البصرة - لقربها من البحر - يقيّدون عبيدهم بالليل حذراً من أن يهربوا إلى المراكب، فلا يكون لسادتهم عليهم سبيل، فكتب له السلطان: هذا رغبة في الخير، وظنّ خير، فلما ورد البصرة وأحضر الناس، ألزمهم العلم بما في الكتاب، فأجابوا إليه واستحسنوه، ورضوا وقبلوا، وشاع ذلك الخبر في الزنج، وسألوا عمّن كان السبب فيه فقيل: رجل صالح يلبس الصوف ويأكل الحلال ويعمل الخوص، ويأكل من كسبه، ويرفع الشوك من الطرقات، ويأكل الشعير مع الرماد، وينام على المزابل مع الكلاب، فنظروا - الزنج - إليه بعين التعظيم، ودعوا له، وتفانوا في خدمته، واجتمعوا عليه، حتى إذا ما استوثق بهم أسرّ لهم بما في نفسه ودعاهم إلى القيام بثورته المعروفة بفتنة الزنج "868-883 م" حتى "بلغ كيده في الإسلام كل مبلغ، فهتك الحرم وقتل الأطفال وسبى العلويات، وبلغ من هذا ما لم تبلغه الروم ولا فعله الترك"، على حد تعبير المصادر التاريخية!

الحشّاشون
والبستان السرّي

ابتكر ملك الحشّاشين "زعيم إحدى فرق الإسماعيلية من أصحاب المذهب الباطني" وسيلة عجيبة لتجنيد بعض الناس لاغتيال خصومه، إذ يروي صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" أن هذا الملك كان إذا أراد أن يرسل شخصاً ليقتل أحداً، فإنه يسقيه خمراً مبنّجا، حتى إذا ما سكر حمله إلى بستان قد أعدّه لهذا الأمر "فيه كل شيء خلقه الله" وفيه أيضاً من الجواري الحسان والغلمان الصغار الذين لا يمكن أن يكون هناك أحسن منهم، فإذا ما أفاق الرجل من سكرته وجد نفسه في ذلك الموضع، فيتعجب منه ويقول: أين أنا؟ فتقول له الجواري: أنت في الجنة، أنفذك الملك إلينا، ونحن الحور العين، وهؤلاء الولدان، ثم إنهن يخدمنه غاية الخدمة، فيبقى في ذلك الموضع أسبوعاً كاملاً، يأكل ويشرب ويستمتع ويلتذ، ثم إنهن يسقونه خمراً مُبنّجا فينام، ويحملونه إلى منزله، فإذا أفاق رأى زوجته في منزله! فيهرع إلى الملك يسأله العودة إلى الجنة، فيقول له عندئذ: اذهب فاقتل فلانا، فإن قتلْت ذهبت إلى موضع ما رأيت، وإن سلمت حملتك أنا إليها، فيعتقد الجاهل ذلك حقا، ويرمي بنفسه في المهالك، من دون أن يدري أنه قد غُرّر به!

مُلحة الوداع
كلنا لصوص

ذكر ابن الجوزي: بلغنا أن رجلا وعظ أميراً، فأنفذ إليه الأمير مالاً من بيت المال، فقبله، فلما عاد الرسول، قال الأمير: كلنا صيّاد، ولكن الشباك تختلف!

 

محمد رجب النجار