سلام الهيمنة الإسرائيلية .. إلى أين المصير؟

سلام الهيمنة الإسرائيلية .. إلى أين المصير؟

حديث الشهر

هل هي التسوية النهائية, حقاً, تلك التي توشك أن تكتمل حلقاتها, مع ما يقال عن اقتراب المسار التفاوضي السوري - الإسرائيلي من إطار عام لاتفاق ما, ومع تلك المباحثات الفلسطينية - الإسرائيلية التي استطالت دون أن ندري إن كانت تضع التمهيدات لإعلان الدولة الفلسطينية أم لا? هل هذا السلام القادم غداً, كما ينتظره البعض, يحمل معه بالفعل الأمن والاستقرار, ومن ثم التنمية والرخاء?

ما أبعد الجواب عن الإيجاب, فتاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي يؤكد بوضوح أن الحركة الصهيونية في فلسطين والعالم لم تنظر أبداً إلى المشروع الاستيطاني في فلسطين إلا من منظور واحد هو القمع الدائم للجيران العرب, وربطهم بقوة هذا القهر والإرغام بعجلة المشروع الصهيوني الذي سيعتمد في بقائه واستمراره, بعد تجليه في شكل دولة هي الأكثر تفوّقاً عسكرياً واقتصادياً في المنطقة, على التفوق الدائم لجانب واحد.

وهذا التفوق لا بد أن يقابله بالضرورة ضعف عربي وتبعية عربية دائمة لإسرائيل المتفوقة والمهيمنة.

فإسرائيل التي تتظاهر الآن بالسعي للسلام, كما توضح ذلك أجهزة إعلامها, وتشاركها في ذلك المؤسسات الإعلامية اليهودية في العالم, وبالتالي كل الآلة الإعلامية الغربية الضخمة السائرة في هذا الركب, تواصل في الوقت نفسه, العمل بسرعة هائلة في بناء أكبر ترسانة أسلحة عسكرية في منطقتنا العربية, وتسعى - فوق هذا - لتكون المصدر المهم للأسلحة المتطورة لتركيا, بل وتعرض إنتاجها العسكري المتقدم من السلاح لإيران ودول آسيوية وإفريقية, وتتبرع بتقديم خبراتها العسكرية والأمنية حتى لبعض الدول العربية التي تواجه مشاكل مع جيرانها. أي أنها تسـيـر في كل درب يمكن أن يفضي إلى إضعاف الدول العربيـة اقتصادياً وعسكرياً, فهي تخطط وتشرع بالفعل - على سبيل المثال - في تنفيذ مشاريع عدة في مجال المياه, من بينـها مشروع لتحلية مياه البحر بدعم مالي ضخم من أمريكا والاتحاد الأوربي باستخدام تكنولوجيا متقدمة, وسيوفر هذا المشروع عند اكتماله مياهاً تكفي لإرواء الصحراء وتعميرها, كما يوفر لها أيضاً وسيلة من الوسائل التي تجهد لتجميعها للهيمنة على المنطقة.

فهل تساعد تلك الاستراتيجية وتوجهاتها على إضفاء سمة الاستدامة على التسوية الوشيكة التي تتعجلها الدول الكبرى وقيادات عربية كثيرة مقابل تنازلات يومية أمام المطالب الإسرائيلية خوفاً من ضياع أمل السلام? أو بالأحرى وهم السلام?, ولنضع التساؤل في صياغة أخرى, فنقول: هل تتوافر فرص حقيقية أمام تواصل حلقات السلام العربي - الإسرائيلي لعقود قادمة مع الإصرار الإسرائيلي على ربط استمرارية المشروع الصهيوني اعتماداً على التفوق والهيمنة والضغط متعدد المصادر من أجل إدامة عوامل الضعف العربي?

شروط إسرائيل المجحفة

ويتصل بهذا التساؤل المشروع سؤال آخر: ألن يؤدي فرض شروط مجحفة على العرب اليوم, بحكم ضعفهم وتفوّق عدوّهم, إلى إمكان نشوب حروب جديدة في مرحلة لاحقة? وهل ستكتفي إسرائيل بفرض شروطها اليوم, والسماح للعرب بعد الصلح والتوقيع بأن يلتفتوا لشئونهم وإعادة بناء أوطانهم, وفي المقدمة بناء قوتهم العسكرية والاقتصادية? أم أنها ستضع خطا أحمر على حركة تلك المجتمعات وتمنع تجاوزه في أي اتجاه حتى لا يختل ميزان القوة في يوم ما لصالح العرب, فتفقد الدولة العبرية تفوّقها عليهم? إننا لا ندعو هنا لوقف المفاوضات, فهي أحد أشكال النضال - الآني على الأقل - لاستعادة الحقوق العربية, وهي الوسيلة المتاحة لرفع معاناة القمع اليومي عن كاهل سكان الأرض المحتلة, ولكن بشرط أن تُدار هذه المفاوضات بشكل صحيح, وأن ندرك أن إسرائيل في حاجة للوصول إلى هذه الاتفاقيات بأكثر من حاجتنا إليها.

إن التاريخ ينبئنا أن هناك دولاً وشعوباً فرضت عليها شروط استسلام مجحفة في مرحلة من مراحل صراعها مع دول أخرى, وقد أدت - تلك الشروط - إلى انفجار حروب أخرى لاحقة أشد قسوة وضراوة, وألمانيا خير مثال على ذلك, فشروط الحرب العالمية الأولى المجحفة هي التي أدت بها إلى خوض الحرب العالمية الثانية, ورغم هزيمة ألمانيا النازية في هذه الحرب أيضاً إلا أن الدول الغربية المنتصرة استفادت من الدرس السابق فلم تسع لوضع شروط جديدة بقدر ما سعت إلى وضع مشروع شامل لإعادة بناء ألمانيا وتعويض الشعب الألماني عن خسائره في الحرب والتخفيف من حدة شعوره بالهزيمة, خوفاً من تكرار ما حدث بعد الهزيمة الأولى, وقطعاً لطريق بروز النعرة الفاشية الألمانية من جديد.

إن التفاؤل الشديد, والاستعجال المفرط للوصول إلى سلام دائم وشامـل قريـب لدى أركان القرار السياسي العربي, يؤديان بهم إلى تعجل في القـبول والموافـقة على كل ما تريده إسرائيل منهم, وكأننا نسعى إلى التخلص من قضيـة طارئـة وإزاحتها عن كواهلنا بحثا عن الراحة, وبعدها ستسعد شعوبنا وتتفرّغ للتنـمية والاستقرار, ولقد قيل قبل أكثر من عشرين عاماً إن التصالح والسلام وإنهاء حالة الحرب سيوفر مبالغ ضخمة من ميزانيات التسلح, توجه للتنمية والبناء, ولم تثبت صحة تلك التصوّرات, فاستمرت ميزانيات التسلح في المنطقة العربية كلها في تصاعد جنوني حتى يقال إنها أكبر منطقة في العالم يتآكل فيها السلاح بفعل الصدأ.

ميراث التعصب

ومما يعزز من إمكانات تصاعد التوتر والنزاع - بعد التصالح - إلى مستوى الخطورة على هذا السلام المصنوع في المنطقة, واقع التركيبة الإسرائيلية الحالية التي تؤكد تفوق الجناح الديني التوراتي المتطرف بصورة متزايدة, وهو الجناح الذي يعتمد في فكره وإيمانه على أن الوجود الصهيوني الديني قائم على إلغاء الطرف الآخر, وهو هنا الفلسطيني العربي المسلم. كما أن هذا الطرف العربي الإسلامي - كذلك - ليس مستعداً للتنازل عن مبادئه الدينية وتوجهاته ومنطلقاته الثقافية, كما هو الحال لدى الجانب الصهيوني المتعصب الذي هو بدوره ليس لديه الاستعداد للتخلي عن فكره اليهودي الإلغائي القائم على بناء دولة دينية تحت الشعار الدائم له (شعب الله المختار). وهؤلاء المتدينون المتخلفون والمتعصبون هم الذين يرجحون الآن ميزان قوى الرأي في السلطة الإسرائيلية, ويتزايد عددهم بفعل مصادر الهجرة اليهودية التي تمدّهم بأفواج مستمرة إلى فلسطين وخاصة من الدول التي يتميز يهودها بالانغلاق والتعصّب الديني (إفريقيا, اليمن, روسيا, الدول العربية, دول آسيوية أخرى), ووجود هؤلاء خطر مؤكد على أي مرحلة سلام قادمة ولو كانت بضمانات بعض الدول الكبرى كأمريكا مثلا.

إن التضاد الثقافي بين الثقافة العربية الإسلاميـة واليهـودية (الشرقيـة والغربيـة) لا يمكن الرهان على حلّه أو حتى تعايشه ضمن الإطار القائم حالياً في المنطقة, أي في وجود دولة يهودية, وأؤكد على كلمة يهودية, ودول عربية إسلامية محيطة بها, ناهيك عن الشعب الفلسطيني الساعي للاستقلال في دولة ملاصقة ومتداخلة مع الدولة العبرية. والتاريخ - مرة أخرى - يؤكد لنا أن كل التجمعات اليهودية - سياسية كانت أم اقتصادية - التي تكوّنت في التاريخ سرعان ما تصطدم بها القوى المحيطة, ويؤدي هذا التصادم - دائماً - إلى ضرب تلك التجمعات اليهودية والقضاء عليها, حدث هذا في روسيا القيصرية, وحدث في ألمانيا النازية, وليس هذا نتيجة لتعصب هذه الجماعات المتصارعة مع اليهود بقدر ما هو نتيجة للفكر والثقافة اليهوديين اللذين لا يقبلان التعايش مع الآخر, ويعملان على التميز والاستعلاء واستغلال الآخرين. وتاريخ اليهود حافل بالصراعات, مع الرومان والبابليين والمسيحيين في أوربا, وفي الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام عندما حاولوا احتواء الدعوة الجديدة وإخضاعها لسيطرتهم الاقتصادية تمهيداً للسيطرة عليها سياسياً ثم عسكرياً.

فهل يؤمن المفاوض العربي اليوم بأن التاريخ لن يعيد نفسه, وأن الصراع الثقافي العربي - الصهيوني قد أصبح في حكم المنتهي? وهل أصبحت الطريق سالكة أمام قيام سلام آمن وعادل لشعوب المنطقة العربية رغم أن في قلبها دولة تؤمن بالتفوق ويحكمها فكر توراتي عنصري يملك اليوم من التفوق العسكري ما يملؤه مزيداً من الغرور والاستعلاء على العرب والمسلمين?

لا تنازل ولا تغيير

إن مسيرة الدولة العبرية, وكل مراحل التفاوض مع العرب (السرية منها والعلنية) تؤكد أن إسرائيل ليس لديها أدنى استعداد لأي تنازل أو تغيير في فكرها الديني أو الثقافي, للوصول إلى مستوى من التعايش والتصالح مع ثقافات شعوب المنطقة, فمهما تنازل العرب عن مساحات من الأرض أو عن أنهر ومصادر للمياه أو عن مواقع عسكرية إستراتيجية, أو حتى عن جزء من حريتهم السياسية في علاقاتهم العربية - العربية أو العربية - الدولية, فسيبقى مطلوباً منهم التنازل عن الأصعب والأعمق أثراً وهو ما يمس صميم فكرهم الديني والثقافي, ومبادئهم التي قامت عليها كياناتهم السياسية والقومية, ويبدو أن بعض الجهات والمؤسسات هنا وهناك بدأت في تنفيذ بعض هذه التنازلات ولو بخفاء إعلامي كإزالة بعض الشعارات والمصطلحات السياسية والثقافية من أجهزة الإعلام والمناهج الدراسية إرضاءً لمطالب إسرائيلية, ولكنها لن تتمكن من مواصلة هذا التنازل الذي هو في النهاية من صميم ثقافة العرب والمسلمين وأساس وجودهم التاريخي.

إن ذكرى مرور قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين في مايو عام 1948م تدعونا إلى أن نتأنى قليلاً في سيرنا نحو البحث عن السلام العاجل بأي ثمن, وألا نلغي التاريخ من حساباتنا, فلقد صمد العرب أكثر من خمسين عاماً, وقدّموا تضحيات وتضحيات, لكنها لم تكن بلا ثمن, فالصراع العربي - الإسرائيلي خلق حالة جديدة في المنطقة, حالة قابلة للتطوّر لمصلحة العرب, إذا ما حاولوا أن يمسكوا بخيوطها بأيديهم ويستخدموا ما في التاريخ, تاريخ المنطقة والصراع, بعقل مفتوح وثقة بإمكاناتهم البـشـرية والجـغرافية ومصادر قوتهم الاقتصادية, فسيتمكـنون في النهاية من الوصول إلى نتائج ملموسة لمصلحتـهم واستقرار أوطانهم والمنطقة بأسرها في نهاية المطاف.

 

سليمان العسكري