الأبوة المصادرة سمة العالم المعاصر

 الأبوة المصادرة سمة العالم المعاصر

"لقد تركت خلفي ميتاً غضًّا، لم يكن عنده وقت ليكون أبي وإن كان من الممكن أن يكون اليوم ابني" (جان بول سارتر)

يشكل هذا القول أفضل مدخل للحديث عن ظاهرة (استعفاء الأب) المعاصر من وظيفته, ظاهرة تبدو بمنزلة علامة فارقة ضمن العلامات المميّزة للحداثة.

وفي الواقع, يكفي القيام بجولة سريعة في عالم اليوم لإدراك واقع كون التطوّر الحاصل في ظل العصرنة, إنما يتحقق, بالدرجة الأولى, على حساب دور الأب ووظيفته داخل العائلة, إذ تتكشّف الوقائع عن انحسار متزايد لهذه الوظيفة مع تزايد التقدم التقني - العلمي: الهائل والسريع, النمط الذي يميّز القرن العشرين (خصوصاً العقدين الأخيرين منه), وانحصارها في دوره البيولوجي فحسب, فكما يقول د. حب الله: إذا ما تساءلنا اليوم عن معنى التطوّر - بدلالته المزدوجة كتوجّه وقيمة - يتضح بأنه ينحو باتجاه التمتع اللامحدود بالملذات والشهوات, ونحو استقالة الأب أو, على الأقل, نحو انحسار وظيفته.

هذا ما كشفت عنه, بالفعل, نتائج البحوث الميدانية والملاحظات النفس - عيادية وعلاجية بشكل عام, يكفي, للإشارة إلى ذلك, التوقف عند ما تمت ملاحظته في هذا المضمار, على مستوى مجتمعين يمكن اعتبارهما على طرفي خط التقدم, المعدود بمنزلة محك أساسي للتطوّر المميز للمدنية المعاصرة, هما: المجتمع الأمريكي (المعروف بأنه يمثّل قيمة التمدّن, حسب هذا المحك), والمجتمع اللبناني (الذي ينتمي للمجتمع الشرقي وهو مصنّف في خانة دول العالم الثالث, أي غير المتمدّنة, حسب المحك المذكور).

لقد لاحظ الباحثون الأمريكيون, أمثال سيلفي كوفمان وغيرها, ظاهرة غياب الأب عن ساحة الأسرة, فعملوا جادّين لتعزيز (عودته) إليها عن طريق خلق جمعيات من نوع جديد هدفها (إعادة المبادرة الوطنية للأبوّة) . أما المحرّك الأساسي لكل ذلك, فيكمن في اكتشاف المجتمع الأمريكي لواقع ولادة (مجتمع لانموذجي): ترعرع ونما في داخله بفعل حالات الطلاق والولادات غير الشرعية - بخاصة عند المراهقات (البيض والسود على حد سواء) - حيث يقدّر أن حوالي 40% من الأطفال الأمريكيين إنما يذهبون إلى النوم دون آبائهم.

وقد فسّر علماء الاجتماع الأمريكيون هذه الظاهرة كالآتي: تميل العائلة - بعد أن تقلّصت في السابق لتصبح نواثية أي (ثلاثية الأبعاد: أب - أم - طفل), للتقلّص, أكثر فأكثر, والذهاب باتجاه الثنائية (أي: أم - طفل فحسب), إذ يقال اليوم, للإشارة إلى الأب, (رفيقي), (أب أولادي),... إلخ, ويعني ذلك التوجه نحو انتفاء (غياب) التمفعل القائم بين الوظيفتين الوالديّتين (المتباينتين بطبيعتهما, إنما متكاملتان), وبالتالي, غياب الفاصلة الثالثة من البعد الثلاثي الأطراف والمتمثلة بوجود الأب إلى جانب الطفل والأم معاً, الأمر الذي يدفعنا للافتراض, مع د. حب الله بوجود استقالة عند الأب, وفي الوقت نفسه: انحلال البنية الأوديبية.

أوديب وعقدته

ربّ معترض على اعترافنا بـ(البنية الأوديبية) كركيزة أساسية في انبناء شخصية الطفل بحجة كونها من إبداعات التحليل النفسي ومفاهيمه, وبالتالي, ليست بالضرورة مؤكدة موضوعياً وواقعياً, وعلى ذلك نجيب: عدا عن كون (الوضعية الأوديبية) قد شكّلت مجال دراسات وأبحاث أنثروبولوجية ونفسية شديدة التنوّع والتعدد أدت, عموماً, لتأكيد هذه الوضعية وأهميتها الواقعية في النمو - إن لم يكن بوجود الأب كفاصلة ثلاثية فبوجود العم أو الخال أو.. تبعاً لتراكيب البنية العائلية في هذا المجتمع أو ذاك - كإحدى مراحل تطوّره (أي تطوّر النمو), فإن دراساتنا الميدانية, بالإضافة لملاحظاتنا النفس - عيادية وعلاجية, قد أكّدت ذلك بما لا يقبل الشك.

هنا, وبالعودة إلى مجتمعنا اللبناني (شرقي الانتماء), لا بد من الإشارة إلى تماثل النتائج التي توصّلنا إليها مع تلك الخاصة بالمجتمع الأمريكي رغم الفروق الهائلة التي تفصل بينهما كمجتمعين, ونقصد بذلك, ملاحظتنا لظاهرة غياب الأب عن ساحة نمو طفله ولاستقالته من وظيفته, حيث توصّلنا معاً للخلاصة نفسها, أي لـ(المناداة بعودة الأب), لكن, مع الإشارة حتماً لخصوصية المعطيات الثقافية - الاجتماعية في كل من المجتمعين. وتعقيباً على ذلك نقول, لا عجب إن توصّل الباحثون للظاهرة نفسها إلى نتائج مماثلة - خصوصاً حين ترتبط هذه الظاهرة بواقع اجتماعي - بشري شمولي - لأن المجتمع البشري يتصّف, مهما اختلفت معطياته الثقافية: المحلية والواقعية, بمميزات شمولية تُعد الوظيفة الوالديّة من أهمها, وحين نقول (الوظيفة الوالدية) نقصد تلك الخاصة بالأم وبدورها إلى جانب الطفل, كما نقصد وظيفة الأب ودوره وارتباطهما الوثيق بحيث ينعكس أي اختلال يلحق بإحداهما على الأخرى.

لكننا نتوقف, ضمن هذا الإطار, عند الوظيفة الأبوية نظراً لما لحقها من انعكاسات سلبية شديدة الخطورة نجمت عن تأثير الحداثة والعصْرنة, وطالت الأب المعاصر: أينما كان ولأي مجتمع انتمى, وإن بدت أكثر سلبية, مثلاً, في مجتمع معين كـ(المجتمع اللبناني) منها في مجتمع آخر كـ(الأمريكي), نظراً لتضافرها مع تأثير عوامل أخرى موجودة في هذا المجتمع دون ذاك, تفرض الضرورة نفسها, بالتالي, إيضاح مقوّمات دور الأب ووظيفته كأب ضمن إطار المجتمع البشري:

ماهية دور الأب ووظيفته: يشكل الأب (كما أجمع مجمل العلماء على ذلك) مبدأ الحياة البشرية نظراً لكونه يمثّل رمز السلطة والقدرة داخل العائلة, أي أنه, بتعبير آخر, يمثل القانون الاجتماعي منذ فجر الحياة عند الطفل, وذلك, عبر منعه تحقيق إشباع رغباته غير المتلائمة مع المعطيات الثقافية - الاجتماعية أي, مع مجموع القيم المتوجّب عليه التقيّد بها كفرد ليكون مقبولاً كعضو اجتماعي فعّال داخل المجتمع الذي ينتمي إليه.

ودون هذا المنع, لن يتمكن هذا الطفل من تحقيق انبنائه النفساني المتوازن الذي يمكّنه من الاندماج مع ثقافة مجتمعه, وذلك نظراً لحاجته الماسّة إلى قانون - مرجع (والأب يمثّل هذا القانون) يرسم له الحدود الواجب التزامها وعدم تخطّيها.

يشكّل الأب, هنا, تلك الصورة المثيرة للاطمئنان والقلق في آن معاً لكونه: محبوباً ومثار إعجاب (أي مثالاً أعلى لأنا الطفل, ويشكّل ذلك أحد مقوّمات وظيفة الأب المباشرة إلى جانب الطفل) من جهة, ومكروهاً ومثار خوف (أي منافسا للطفل ومثيرا لقلق الخصوصية عنده, يشكّل ذلك عنصراً آخر من مقوّمات وظيفة الأب المباشرة إلى جانب طفله الذي يميل للتماهي بصفاته, وبالتالي لمنافسته على امتلاك الأم عند الصبي, أو لمنافسة الأم على امتلاك الأب بعد تماهيها بصفاتها عند البنت) من جهة أخرى.وباختصار نقول مع بورو: (يطلب من الأب أن يكون نموذجاً للتماهي والسلطة: فالسلطة هي وظيفة الأب الأساسية تماماً كالحب الذي يشكّل وظيفة الأم المبدئية).

هذا, وتجدر الإشارة إلى أن الوظيفة الأبوية تشكّل أحد المظهرين (المزدوجين) اللذين تدرك الأبوّة من خلالهما وهما: (الإحساس بالأبوّة), الذي يشتمل على كل ما يحدث بداخل الأب نتيجة علاقة الطفل به, و(الوظيفة الأبوية) التي تشتمل على كل ما يحدث بداخل الطفل نتيجة علاقة الطفل بأبيه, أما بالنسبة لهذه الوظيفة, فيمكن القول إنها تتميّز بمظهرين: الأول غير مباشر, وتتلخص الوظيفة (غير المباشرة), ضمن إطاره, وبالوجود الفعلي للأب إلى جانب الأم يدعمها معنوياً ومادّياً لتتمكن من فطم الطفل, وإبعاده عنها, تدريجياً, في طريق الاستقلالية الذاتية. والثاني مباشر, وتتلخص وظيفة الأب (المباشرة), ضمن إطاره, بعدة عناصر جوهرية: الأب كمنظم للمسافة النفسية القائمة بين الأم والطفل وذلك بفضل تأمين الحب والطمأنينة للأم حتى يتسنى لها عدم التعلق بطفلها والرغبة في امتلاكه..., الأب كمنافس في الوضعية الأوديبية (أو كموضوع حب بالنسبة للفتاة), ولذلك تأثير نوعي غاية في الأهمية على نمو الطفل, إذ يتناول ناحيتين مهمتين في هذا النمو: المستوى التناسلي - التكويني حيث يشكّل كل من الأب والأم نموذجا يتماهى به ويحاكي صفاته كـ(ذكر أو أنثى), ومنافسا له في آن معاً, والمستوى البنيوي حيث يرتبط تكوين (مثال الأنا) و(الأنا الأعلى) عند الطفل ارتباطاً وثيقاً بوظيفة الأب, إذ تنمو (الأنا الأعلى) بفضل ردعه وزجره للطفل.. فيما ينمو (مثال الأنا) من جرّاء تمثّل هذا الأخير به كنموذج, هذا بالإضافة لكون بنية (الأنا الأعلى) تشكّل المدماك الأساسي لانبناء الضمير الأخلاقي, في حين تشكّل بنية (مثال الأنا) ركيزة المثل العليا (الجماعية والأيديولوجية) التي على الفرد تبنّيها فيما بعد, وأخيراً, الأب كأول وجه يمثّل الآخر : أول وجه يتعرّف إليه الطفل وعن كثب, بعد تعرّفه إلى أمه.

مخاطر غياب الأب

نتوقف هنا للإشارة إلى المخاطر الناجمة عن غياب الأب, كأول وجه يمثّل الآخر بفعل استقالته أو عجزه عن تأمين دوره إلى جانب الطفل: فبغيابه عن ساحة نمو هذا الأخير, ومنذ بدايات تكوينه, تصعب عليه إمكانات فرض نفسه عليه, ومن ثمّ لعب الدور المتوقع منه القيام به, إذ يصعب على الولد الذي لم يتعرّف إليه, مبكّراً, تقبّله, فينظر إليه كدخيل جاء لينافسه كـ(غريب) على حب الأم وامتلاكها (عند الصبي وعند الفتاة, أيضاً, التي تتعلق, هي الأخرى, بالأم في غياب الأب), هذا بالإضافة لاضطراب الهوية عند الطفل نتيجة افتقاره للصورة المرجعية وللنموذج المرتبط تأمينهما بوجود الأب داخل العائلة.

بالعودة إلى كل ما سبق ذكره, نجد أن تأمين الأب للسلطة المعدود بمنزلة عنوان رئيسي لقيامه بوظيفته ودوره, يرتبط ارتباطاً وثيقاً بكل مقوّمات دوره داخل العائلة: إلى جانب الأم وخصوصاً إلى جانب الطفل, لكن ذلك يبدو, في ظل الحداثة والعصرنة, صعب التحقيق إن لم يكن مستحيلاً نظراً لدخول عوامل جديدة متعددة ومتنوعة على نمط الحياة يبقى أهمّها, اختلاف مفهوم السلطة, اليوم, وبشكل شبه جذري, عمّا كان عليه في الماضي غير البعيد (أي خلال بدايات هذا القرن وحتى الستينيات منه تقريباً): فالأب كان, في مجمل الحضارات, رمز السلطة ومالكها الشرعي الوحيد ودون منازع, إذ كان الوحيد الذي يجسّد الشرائع الاجتماعية, حيث لا تظهر المرأة والطفل إلا كأتباع له, والسلطة كانت موجودة, كبنية, على مستوى كل الشرائح الاجتماعية, امتداداً لعلاقة الأستاذ بتلامذته: المطبوعة بالسلطة الأبوية والممثلة لها, هذا, بالإضافة لتميّز العلاقات الفردية والاجتماعية بوجوب الخضوع للسلطة الذي كان يتعزز ويتقوّى, أكثر فأكثر, بفعل مجمل السياقات (العائلية والاجتماعية) التي كانت, بدورها, تستمد فعاليتها من قوة التقاليد المترسّخة في الأذهان.

إن الإنسان المعاصر يجد نفسه كريشة في مهب الرياح تتقاذفه مشاعر الضياع والقلق من كل صوب, وبالفعل, اعتبر القلق سمة القرن المعاصر منذ بدايته, فكيف إذن, اليوم في ظل كل ما استجد, وخصوصاً, في ظل العصْرنة وما تحمله من قيم اجتماعية أقل ما يُقال فيها إنها متناقضة, وهي تُفرض على الفرد المتوجّب عليه الامتثال لها. يكفي لإيضاح ذلك ذكر (المنافسة) المفروضة اليوم كقيمة اجتماعية والتي تتطلب من هذا الفرد وجوب العودة إلى محكات النجاح الاجتماعي, القبول بإعادة النظر في مؤهلاته, لكن, وفي الوقت نفسه, وجوب أن يفرض نفسه ككائن اجتماعي حر ومستقل عن الآخرين, من شأن ذلك حرمانه, كإنسان, من إمكان التحكم بمصيره الشخصي وإثارة القلق في داخله, خاصة أن الحداثة تربط النجاح بامتثال الفرد للصورة الاجتماعية المرسومة سلفاً أكثر منها باستقلاليته كفرد.

بتعبير آخر نقول, يُطلب من هذا الفرد التضحية بجزء كبير من حريته الشخصية, وتضييق فسحة إشباعه الليبيدي ليبقى قريباً من الأنا الأعلى الجماعية: الأكثر فأكثر تطلّباً, إنما, وفي الوقت نفسه, تدفعه لتكديس المقتنيات وتغريه بالملذات اللامحدودة, وذلك تماشياً مع روح التسويق الهادف للربح السريع. باختصار, نقول: يجد هذا الإنسان نفسه منهكاً, في ظل النظام القيمي المعاصر الذي يحاصره بخليط هائل من المتناقضات التي لا يجد مخرجاً للتحرّر منها إلا بكسر العقد الاجتماعي, و/أو بتجاوز القانون الذي يمليه هذا العقد.

من هذه النقطة بالذات: كسر العقد وتجاوز القانون الاجتماعي, تنشأ الأعراض الاضطرابية التي تشمل, يوماً بعد يوم, نسبة متزايدة من الأفراد المعاصرين, والأب, ممثّل هذا القانون الاجتماعي, هو جزء من هذا المجتمع.

لا عجب, في غمرة ما أسلفناه (وهو غيض من فيض بالنسبة لما يتعرض له الإنسان المعاصر), إن أحس الأب المعاصر بانعدام الطمأنينة النفسية فأخفق, بالتالي, من حيث إمكان تقديم نفسه كنموذج يمثّل صورة الأب القادر, السلطوي, الواثق من نفسه.. إلخ, ومجمل ردّات الفعل (من استقالة وتسلّط وقلق واستعفاء و...) الملاحظة بكثرة عند الآباء المعاصرين (لأي مجتمع انتموا) إنما تعبّر, واقعياً, عن الضعف الذي اعترى شخصيتهم وأدى لعجزهم عن القيام بالدور المتوقع منهم القيام به داخل أسرهم.

أما خطورة الانعكاسات السلبية الناجمة عن هذا العجز, فهي ترتبط بواقع كون الطفل يحتاج, ليس فقط لحماية الآخر, بل, خصوصاً, لثقته, لمصداقيته, ولمقدرته على بث الطمأنينة في نفسه إذا كنّا لا نود له أن ينحرف, لكن, كيف يمكن تأمين الحماية حين يظهر هذا الآخر - المفترض أن يتجسّد, خلال فترة معينة من نموّه كطفل, بالأب الواقعي - عاجزاً, ضعيفاً, غير ثابت في وجوده, أو, غير موجود أصلاً? وبكلمة مختصرة: مستقيلاً ومستعفياً.

حواجز حضارية

يصدق واقع الحال هذا على المجتمع المعاصر بشكل عام, فما القول, إذن, بالمجتمع الشرقي (اللبناني من ضمنه) الذي يتعرّض, بالإضافة إلى كل ما سبق ذكره, لصعوبات إضافية تنجم, بالدرجة الأولى عن الحواجز الحضارية التي لايزال ينشأ في ظلها (وتأتي الذهنية التقليدية في رأس قائمة هذه الحواجز) والتي يتلقّاها الإنسان الشرقي, إن في البيت, أم في المدرسة, أم حتى في الجامعة, هذا ما أكّدته نتائج البحوث الميدانية, ومن ضمنها البحث الذي حققناه في العام 1996 بخصوص مفهوم الذات المكوّن عند الشبيبة اللبنانية الراشدة - ما بعد الحرب -, وتتميز هذه التنشئة, عموماً, بـ: تقييد الفرد بما يقوله الآخرون, انعدام حقه في المعارضة وفي إثبات الذات (وهما الطريق الأساسية المؤدية بالفرد لتعلم المبادرة المؤدية ومن ثم لاتخاذها), ترويضه (منذ الصغر) على الخضوع والامتثال الخضوعي لكل ما هو سلطة عليا... إلخ. لكن تربية هذا الفرد على قيم الماضي التقليدية, رغم تمتع مجتمعنا بمنتجات المدنية المعاصرة, لا بل رغم لهاثه وراءها, بدت الأكثر سلبية, إذ شوّهت وعيه المعاصر الذي تميّز, عند نسبة مرتفعة من شبيبتنا, بميلها شبه الدائم لنقل نمط التفكير والسلوك الخاص بالأجداد (أي النمط التقليدي) على الوضعيات الحالية - المعاصرة وأسّست, في داخلها, مشاعر العزلة (تجاه الذات وتجاه العالم المحيط بها) الأمر الذي ساهم, أكثر فأكثر, في اضطراب هويتها الشخصية.

على هذا المستوى بالذات, أي (اضطراب الهوية), يستحيل تجاهل ما أشار إليه أمين معلوف بخصوص الانحرافات اللازمة, اليوم وكـ(سمة تطبع المدنية المعاصرة), لمفهوم الهوية, حيث يصعب على الإنسان, بنهاية القرن العشرين وبداية الألف الثالثة, عيش انتماءاته المختلفة بحرية, وحيث تتميز عملية تأكيده لذاته, غالباً, بعملية نفي للآخر, لا لشيء إلا لأنه ينتمي إلى دين أو لون أو ثقافة أو... مختلفة: (نفي) يمكن أن يؤدي (كما يلاحظ اليوم في ظل الحروب المنتشرة في العديد من أصقاع العالم الحديث - المعاصر) للتذابح باسم الهوية, ومجتمعات العالم الثالث (ومن ضمنها المجتمع الشرقي) تبدو الأكثر تعرّضا للانعكاسات السلبية في هذا المضمار, نظراً لما تتعرض له من إلغاء لثقافاتـها أي لخصوصياتها وقيمها.

بالعودة إلى موضوعنا الأساسي (الأبوّة المصادرة), لا بد لنا من الإشارة , وبشكل مواز للسمات السلبية التي أشرنا إليها بهذا الخصوص, إلى نقطتين رئيسيتين (تتسّمان بالإيجاب):

أولاً, لم يستجب كل الآباء (ولا كل الأفراد المعاصرين), لحسن الحظ, بنفس ردّات الفعل المشار إليها سابقاً تجاه ما يحيط بهم من وقائع.

ثانياً, تبين أن افتقار الأهل للدراية والخبرة وجهلهم الواجبات المفروضة عليهم كـ(آباء, وأزواج, وأشخاص) كان العامل الأساسي لإخفاقهم في الدور المتوجّب عليهم القيام به وبالتالي حدوث العديد من الإشكاليات والاضطرابات. هذا من جهة: ومن جهة أخرى, أبدى العديد من أهلينا (آباء وأمهات) رغبة صادقة في التعرّف على مسئولياتهم تجاه أولادهم كي يتعاملوا معهم بالشكل الأفضل.

من هنا, نستخلص أهمية وفائدة (التوعية) المتوجّب على المسئولين, وفي كل القطاعات, القيام بها: بدءاً بالمسئولين عن مقدرات المجتمع وقراراته الأساسية, مروراً بالقطاع الإعلامي (ذي الدور المهم جداً, اليوم, في إيصال المعرفة إلى الجميع أينما كانوا), وبالمثقفين (ذوي الدور المهم, في كل مجتمع, من حيث إحداث التغييرات الأساسية - الضرورية والمتوجّب عليهم فرض مكانتهم إذ لا يجوز لهم التخلي عنها ولأي سبب كان), وصولاً للقطاع العائلي الذي يحتاج اليوم, أكثر من أي وقت مضى, إلى التعرّف إلى مقومات دوره تجاه الأطفال الذين يتولاهم بالرعاية والتنشئة.

وخلاصة القول تكمن بما يلي: صحيح أن المهمة المطلوبة صعبة وتتطلب تضافر جميع الجهود, لكنها ضرورية وليست اختيارية بحيث يمـكن التخلي عنها.

 

كريستين نصار