شهادة شهرزاد

شهادة شهرزاد

هي شهرزاد إذن في كل زمان تقص حكاياتها. طفلة كنت لا أعرف الأحلام الرغيدة، ففي عذابات النهار لا وقت للأحلام، وفي الليل تنثال عليّ مخاوف النهار فأغدو كفأرة تلتمس الأمان في خشونة جحرها. وتصير الأحلام ضربًا من الكوابيس المتناثرة، لكن الشهرزادات المُعبآت بحكايات مُقطوفة من زمن لا أعرفه كنّ يمنحن تلك الفأرة بستانًا ملوّنًا تشرد فيه وتقرض من ثماره. كانت تلك الحكايات سردًا من عجائب وغرائب يتفتق عنها خيالهن أو تلك التي توارثنها عبر الأجيال من حكايات شعبية تغوص في عوالم الأسفار والسحر والجان والأميرات الجميلات والحب النبيل وأحزان الفراق وموت العشاق.

كانت‭ ‬أولى‭ ‬الشهرزادات‭ ‬هي‭ ‬جدّتي‭ ‬ويا‭ ‬للجدّات‭ ‬الحنونات‭. ‬كنت‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬وهي‭ ‬تصكّ‭ ‬عليّ‭ ‬بفخذيها‭ ‬الثخينين‭ ‬لتحنّي‭ ‬شعري،‭ ‬ولكي‭ ‬تضمن‭ ‬هدوئي‭ ‬كانت‭ ‬تسرّب‭ ‬إليّ‭ ‬مع‭ ‬نسائم‭ ‬البحر‭ ‬العليلة‭ ‬حكاياتها‭ ‬الأليفة،‭ ‬تلوّنها‭ ‬بالغناء‭ ‬الشعبيّ‭ ‬تارة‭ ‬وبالأمثال‭ ‬الشعبية‭ ‬تارة‭ ‬أخرى،‭ ‬وكنت‭ ‬أحلّق‭ ‬مع‭ ‬الحكاية،‭ ‬أفتح‭ ‬لها‭ ‬تلافيف‭ ‬عقلي‭ ‬بشوق‭ ‬وأغلق‭ ‬مِزرابًا‭ ‬قد‭ ‬تهرب‭ ‬منه‭ ‬وأظل‭ ‬أحلم‭ ‬أن‭ ‬أكبر‭ ‬وأصير‭ ‬مثل‭ ‬جدّتي‭ ‬أحكي‭ ‬الحكايات‭. ‬

 

حكايات‭ ‬مدعومة‭ ‬بالفن‭ ‬المسرحي

وإن‭ ‬كانت‭ ‬جدّتي‭ ‬في‭ ‬عجالة‭ ‬تسرد‭ ‬حكاياتها‭ ‬فإن‭ ‬الشهرزادات‭ ‬الأخريات‭ ‬من‭ ‬حاكيات‭ ‬الأحياء‭ ‬كنّ‭ ‬أكثر‭ ‬إفاضة‭ ‬وأمتع‭ ‬قصًّا‭. ‬كانت‭ ‬الواحدة‭ ‬منهنّ‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بالقص‭ ‬المعتاد،‭ ‬بل‭ ‬تأتي‭ ‬بالحكاية‭ ‬مدعومة‭ ‬بالفن‭ ‬المسرحيّ،‭ ‬اكتشفت‭ ‬هذا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كبرت‭ ‬وتعرّفت‭ ‬على‭ ‬فنون‭ ‬المسرح،‭ ‬كانت‭ ‬تمثل‭ ‬بالصوت‭ ‬فتلوّنه‭ ‬بأصوات‭ ‬البشر‭ ‬المختلفة‭ ‬أجناسهم‭ ‬وأعمارهم‭ ‬وبأصوات‭ ‬الحيوانات‭ ‬والزواحف‭ ‬والحشرات‭ ‬من‭ ‬فحيح‭ ‬الأفاعي‭ ‬وصياح‭ ‬الديكة‭ ‬وطنين‭ ‬الذباب‭. ‬وبأصوات‭ ‬الطبيعة‭ ‬من‭ ‬رياح،‭ ‬مطر،‭ ‬حفيف‭ ‬شجر‭ ‬وهدير‭ ‬أمواج‭. ‬كما‭ ‬تقوم‭ ‬بحركات‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬إيمائية‭ ‬من‭ ‬جسدها‭ ‬أو‭ ‬يديها‭ ‬وبتعابير‭ ‬من‭ ‬وجهها‭ ‬الذي‭ ‬تُغيّر‭ ‬قسماته‭ ‬فيبدو‭ ‬بحالة‭ ‬الحب‭ ‬جميلًا‭ ‬وبحالة‭ ‬الشرّ‭ ‬مخيفًا،‭ ‬كما‭ ‬كنّ‭ ‬يستخدمن‭ ‬الطرائف‭ ‬والأوصاف‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الحكاية‭ ‬أكثر‭ ‬متعة‭ ‬ويدفع‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬التغلغل‭ ‬في‭ ‬أدق‭ ‬شرايين‭ ‬الذاكرة‭. ‬كانت‭ ‬عيناي‭ ‬تشخصان‭ ‬إلى‭ ‬ثغور‭ ‬الحاكيات‭ ‬ألتقط‭ ‬كل‭ ‬نأمة‭ ‬وكلمة‭ ‬كما‭ ‬تلتقط‭ ‬الدجاجة‭ ‬الجائعة‭ ‬حبوبها‭. ‬أسمع‭ ‬وأسبح‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المطلق‭ ‬غير‭ ‬المحسوس‭ ‬ولا‭ ‬المرئيّ،‭ ‬أتخيل‭ ‬الأبطال‭ ‬والمواقع‭ ‬والواقع‭ ‬الذي‭ ‬تصفه‭ ‬فأطوف‭ ‬في‭ ‬عوالمها‭ ‬ذلك‭ ‬الطواف‭ ‬الذي‭ ‬أسرى‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬حلم‭ ‬أتشهى‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬أكبر‭ ‬وأبتدع‭ ‬حكاياتي‭ ‬وأقصها،‭ ‬هكذا‭ ‬كنت‭ ‬طفلة‭ ‬عشقت‭ ‬الحكاية‭ ‬باكرًا‭ ‬فكانت‭ ‬رافدي‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬رش‭ ‬مطره‭ ‬على‭ ‬بذار‭ ‬الموهبة‭ ‬المخبأة‭ ‬التي‭ ‬تلمست‭ ‬حريرها‭ ‬وانتظرت‭ ‬إشراقة‭ ‬فجرها،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬إحساسي‭ ‬يؤكد‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬سيكون‭ ‬لها‭ ‬وجود‭ ‬رغم‭ ‬الكبت‭ ‬والقهر‭ ‬والحصار‭.‬

وأكبر‭... ‬أكبر‭... ‬تبدأ‭ ‬خطاي‭ ‬تألف‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬تنقلني‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الاستماع‭ ‬والتخيّل‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬القراءات‭ ‬والاختيار،‭ ‬فالتهمت‭ ‬ما‭ ‬امتلأت‭ ‬به‭ ‬مجلات‭ ‬الأطفال‭ ‬السائدة‭ ‬حينذاك‭ ‬وقصص‭ ‬الأطفال‭ ‬المزخرفة‭ ‬بالصور‭ ‬الملونة‭ ‬وكانت‭ ‬مكتبة‭ ‬المدرسة‭ ‬مليئة‭ ‬بها‭ ‬وكلما‭ ‬اعتليت‭ ‬بالصفوف‭ ‬زاد‭ ‬شغفي‭ ‬إلى‭ ‬القراءة،‭ ‬فانكببت‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬الشعبية‭ ‬وألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬والأساطير‭ ‬وروايات‭ ‬جورجي‭ ‬زيدان‭ ‬والمقامات‭ ‬والشعر،‭ ‬وغيرها‭ ‬مما‭ ‬يتوافر‭ ‬في‭ ‬المكتبة‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬يأتي‭ ‬به‭ ‬أخي‭ ‬الكبير‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭. ‬بدأت‭ ‬أتأثر‭ ‬وأكتب،‭ ‬وكانت‭ ‬وسيلتي‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬النشر‭ ‬مجلة‭ ‬الحائط‭ ‬التي‭ ‬خصّتني‭ ‬المعلمة‭ ‬أنا‭ ‬وأختي‭ ‬أسماء‭ ‬بتحريرها،‭ ‬مشيدة‭ ‬بمواهبنا‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬والكتابة‭.‬

 

البذرة‭ ‬الأولى‭ ‬للكتابة

في‭ ‬المرحلة‭ ‬المتوسطة‭ ‬ارتقت‭ ‬قراءاتي‭ ‬إلى‭ ‬المنفلوطي‭ ‬وجبران‭ ‬ومي‭ ‬زيادة‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالحليم‭ ‬عبدالله‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الرومانسيين،‭ ‬فوجدتني‭ ‬بحماسة‭ ‬أكتب‭ ‬القصص‭ ‬والروايات‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬مازلت‭ ‬أحتفظ‭ ‬ببعضها‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬رغم‭ ‬سذاجتها‭ ‬وركاكة‭ ‬لغتها‭ ‬وبساطة‭ ‬أفكارها،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬البذرة‭ ‬الأولى‭ ‬لطفلة‭ ‬تشبّعت‭ ‬بالحكايات‭ ‬وبالقراءات‭ ‬الأولى‭. ‬كانت‭ ‬المدرسة‭ ‬هي‭ ‬الجنة‭ ‬التي‭ ‬رأفت‭ ‬بالطفلة‭ ‬المحرومة‭ ‬من‭ ‬حنان‭ ‬الأبوين‭ ‬واحتضنت‭ ‬الموهبة‭ ‬التي‭ ‬أقاموا‭ ‬الحدّ‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬لكن‭ ‬باب‭ ‬الجنة‭ ‬أُغلق‭ ‬بقرار‭ ‬قاسٍ‭ ‬من‭ ‬أبي‭ ‬وكنت‭ ‬مازلت‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬لكنه‭ ‬رغم‭ ‬قسوته‭ ‬تلك‭ ‬فتح‭ ‬لي‭ ‬باب‭ ‬جنة‭ ‬أخرى،‭ ‬كان‭ ‬شاعرًا‭ ‬وعاشقًا‭ ‬للقراءة‭ ‬وكانت‭ ‬مكتبته‭ ‬تزخر‭ ‬بكل‭ ‬كنوز‭ ‬الثقافات،‭ ‬فسقطت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬النعيم‭ ‬وتعرّفت‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأسماء‭ ‬الشهيرة‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬عرب‭ ‬وأجانب،‭ ‬أمثال‭ ‬يحيى‭ ‬حقي،‭ ‬توفيق‭ ‬يوسف‭ ‬عوّاد،‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬زكريا‭ ‬تامر،‭ ‬يوسف‭ ‬حبشي‭ ‬الأشقر،‭ ‬موباسان،‭ ‬تشيخوف،‭ ‬سومرست‭ ‬موم،‭ ‬وغيرهم‭. ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬دفعني‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭. ‬وأظن‭ ‬بل‭ ‬أُؤكد‭ ‬أن‭ ‬حماسي‭ ‬قد‭ ‬تفاقم‭ ‬حين‭ ‬قرأت‭ ‬لكاتبات‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬عربيات‭ ‬وأجنبيات،‭ ‬أمثال‭ ‬غادة‭ ‬السمان،‭ ‬ديزي‭ ‬الأمير،‭ ‬سميرة‭ ‬عزام،‭ ‬لطيفة‭ ‬الزيات،‭ ‬فرجينيا‭ ‬وولف،‭ ‬بيرل‭ ‬باك،‭ ‬الأخوات‭ ‬برونتي،‭ ‬وغيرهن‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬والدي‭ ‬يزوّدني‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬مكتبته‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يُنشر‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الآداب‭ ‬والرسالة‭ ‬والجيل‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬المهمة،‭ ‬هكذا‭ ‬أصابتني‭ ‬الغيرة‭ ‬المشروعة‭ ‬لأن‭ ‬أصبح‭ ‬قاصّة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬حلمي‭ ‬محدودًا‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬حاكية‭.‬

 

الرواية‭ ‬ومدينتي‭ ‬القديمة

لقد‭ ‬أذهلتني‭ ‬وسحرتني‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الروايات‭. ‬لن‭ ‬أنسى‭ ‬كيف‭ ‬استلبني‭ ‬همنغواي‭ ‬حين‭ ‬قرأت‭ ‬له‭ ‬‮«‬لمن‭ ‬تقرع‭ ‬الأجراس‮»‬‭ ‬في‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات‭ ‬متواصلة،‭ ‬وجذبتني‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الأم‮»‬‭ ‬لمكسيم‭ ‬غوركي‭ ‬حتى‭ ‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬أمّه‭ ‬أمي،‭ ‬وعزفت‭ ‬‮«‬الإخوة‭ ‬كارامازوف‮»‬‭ ‬لديستويفسكي‭ ‬على‭ ‬وتر‭ ‬حساس‭ ‬لدي‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬تذوقت‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬عداوات‭ ‬الإخوة‭ ‬غير‭ ‬الأشقاء‭. ‬وحين‭ ‬قرأت‭ ‬‮«‬ذهب‭ ‬مع‭ ‬الريح‮»‬‭ ‬لمارغريت‭ ‬ميتشل‭ ‬أعجبت‭ ‬أيما‭ ‬إعجاب‭ ‬بشخصية‭ ‬‮«‬سكارلت‭ ‬أوهارا‮»‬،‭ ‬وقرّرت‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مثلها‭ ‬بقوتها‭ ‬وإصرارها‭ ‬الذي‭ ‬جعلها‭ ‬تحقق‭ ‬أحلامها‭. ‬أما‭ ‬حين‭ ‬قرأت‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬وتلمست‭ ‬العلاقة‭ ‬المتينة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬قاهرته‭ ‬القديمة‭ ‬عدت‭ ‬بذاكرتي‭ ‬إلى‭ ‬مدينتي‭ ‬القديمة‭ ‬داخل‭ ‬السور‭ ‬بأحيائها‭ ‬وأزقتها‭ ‬وتراثها‭ ‬الشعبي‭ ‬وعوالم‭ ‬ناسها،‭ ‬فأدركت‭ ‬ما‭ ‬للمدينة‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬دفعتني‭ ‬أن‭ ‬أمسك‭ ‬بفأسي‭ ‬وأنكش‭ ‬ما‭ ‬تجذّر‭ ‬في‭ ‬قلبي‭ ‬وذاكرتي‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬السحر‭ ‬والواقع‭ ‬الذي‭ ‬عشت‭ ‬عمرًا‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬مدينتي‭ ‬القديمة‭. ‬لقد‭ ‬وجدت‭ ‬ذاكرتي‭ ‬وكأنها‭ ‬بانتظاري‭ ‬تفك‭ ‬حصارها‭ ‬وتهديني‭ ‬أسرارها،‭ ‬هكذا‭ ‬أخذت‭ ‬مدينتي‭ ‬الجزء‭ ‬الأكبر‭ ‬والحار‭ ‬من‭ ‬كتاباتي‭ ‬فكان‭ ‬ذلك‭ ‬الواقع‭ ‬الصاخب‭ ‬رافدًا‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬الكتابة‭ ‬أيضًا‭. ‬لقد‭ ‬أشبعتني‭ ‬تلك‭ ‬القراءات‭ ‬الروائية‭ ‬وضاعفت‭ ‬توقي‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬وصار‭ ‬الكتاب‭ ‬مهجة‭ ‬الروح‭ ‬وصديق‭ ‬الليل‭ ‬والنهار،‭ ‬فكانت‭ ‬تلك‭ ‬القراءات‭ ‬الزخمة‭ ‬المستمرة‭ ‬الرافد‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬زاد‭ ‬إقبالي‭ ‬عليها‭ ‬نتيجة‭ ‬لما‭ ‬أتأثر‭ ‬به‭.‬‭ ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الكتابات‭ ‬من‭ ‬مخزون‭ ‬الحكايات‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تذب‭ ‬ولم‭ ‬تبهت؟‭ ‬أم‭ ‬كانت‭ ‬لبابات‭ ‬الأحلام‭ ‬وعذابات‭ ‬الأيام‭ ‬والسنوات؟‭ ‬أم‭ ‬هجير‭ ‬شوق‭ ‬مكبوت‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬إنسانة‭ ‬محبوبة‭ ‬يُشار‭ ‬إليّ‭ ‬من‭ ‬أعدائي‭ ‬قبل‭ ‬أصدقائي؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬نمو‭ ‬الأشجار‭ ‬وتفرعها‭ ‬من‭ ‬طين‭ ‬الروح‭ ‬التي‭ ‬غرست‭ ‬بذارها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قرأت؟‭ ‬إنها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬ما‭ ‬جعلني‭ ‬أعيش‭ ‬بانتظار‭ ‬شيء‭ ‬يأتي‭ ‬ويسلمني‭ ‬مفتاح‭ ‬الدخول‭ ‬الأول‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صعبًا‭ ‬أن‭ ‬أتأمل‭ ‬وأفكر‭ ‬وأحشو‭ ‬رأسي‭ ‬بعشرات‭ ‬الأفكار‭. ‬إن‭ ‬الصعوبة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬الانتقاء‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحشوات‭ ‬المتراصة‭ ‬لما‭ ‬يتناسب‭ ‬والفكرة‭ ‬التي‭ ‬تشعل‭ ‬بداخلي‭ ‬حريقًا‭ ‬أو‭ ‬تُزهر‭ ‬بستانًا‭.‬

بدأت‭ ‬بكتابة‭ ‬القصة‭ ‬وعشقتها،‭ ‬فأصدرت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1976‭ ‬أول‭ ‬مجموعة‭ (‬امرأة‭ ‬في‭ ‬إناء‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬توالت‭ ‬الإصدارات،‭ ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬أغفل‭ ‬الرواية،‭ ‬وتراكم‭ ‬لدي‭ ‬من‭ ‬المخطوطات‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أرفض‭ ‬نشره‭ ‬لقناعتي‭ ‬أنها‭ ‬تجارب‭ ‬فجّة‭ ‬يتركز‭ ‬أغلبها‭ ‬على‭ ‬مواضيع‭ ‬الحب‭ ‬وقضايا‭ ‬المجتمع‭ ‬ولا‭ ‬ترقى‭ ‬إلى‭ ‬جماليات‭ ‬وفن‭ ‬الرواية،‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬عام‭ ‬1985‭ ‬فكتبت‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬المرأة‭ ‬والقطة‮»‬‭ ‬وجرؤت‭ ‬على‭ ‬نشرها‭ ‬بتشجيع‭ ‬من‭ ‬الأديب‭ ‬الكبير‭ ‬والأب‭ ‬الروحي‭ ‬الدكتور‭ ‬سهيل‭ ‬إدريس‭. ‬لقد‭ ‬جاءت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بالصدفة،‭ ‬فلم‭ ‬أخطط‭ ‬لها،‭ ‬لكن‭ ‬حدثًا‭ ‬بسيطًا‭ ‬سلمني‭ ‬خيطها‭ ‬الرفيع‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬يؤجج‭ ‬الكاتب‭ ‬ليكتب‭ ‬غير‭ ‬لقطة‭ ‬بسيطة،‭ ‬صورة،‭ ‬حلم،‭ ‬وجه،‭ ‬فكرة،‭ ‬أو‭ ‬حدث‭ ‬غريب‭ ‬فيصطاد‭ ‬أيًا‭ ‬منها‭ ‬ليكون‭ ‬بمنزلة‭ ‬رأس‭ ‬الخيط‭ ‬الذي‭ ‬ينسج‭ ‬منه‭ ‬مادته،‭ ‬مرتكزًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬اختزنه‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬تكوينه‭ ‬الأول،‭ ‬من‭ ‬إرث‭ ‬اجتماعي‭ ‬وديني‭ ‬توارثه‭ ‬وتشبع‭ ‬به،‭ ‬ومن‭ ‬شرائط‭ ‬حياته‭ ‬الملونة‭ ‬المكتظة‭ ‬بالمشاهد‭ ‬والوجوه‭ ‬والأحلام‭ ‬ومن‭ ‬تجاربه‭ ‬الذاتية‭ ‬فهي‭ ‬ضرورة‭ ‬لتزويد‭ ‬العمل‭ ‬الروائي‭ ‬بالصدق‭ ‬والحقيقة،‭ ‬ومن‭ ‬تجارب‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬ومن‭ ‬مخزونه‭ ‬الثقافي‭ ‬وقراءاته‭ ‬الجادة‭ ‬المتواصلة‭ ‬التي‭ ‬تزوده‭ ‬بنظرة‭ ‬ثقافية‭ ‬شاملة‭ ‬وبخبرة‭ ‬أدبية‭ ‬تساعده‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬توظيف‭ ‬فكرته‭ ‬بشكل‭ ‬فنّي‭ ‬جميل‭. ‬

 

الأمثال‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬الحكايات

لم‭ ‬يكن‭ ‬يعنيني‭ ‬أن‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬شكل‭ ‬للرواية،‭ ‬كانت‭ ‬قراءاتي‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬تشحنني‭ ‬وكذلك‭ ‬حضور‭ ‬الحكاية‭ ‬القديمة،‭ ‬أما‭ ‬الحاكيات‭ ‬القديمات‭ ‬فقد‭ ‬فرضن‭ ‬وجودهن‭ ‬فأتذكر‭ ‬كيف‭ ‬استخدمن‭ ‬عنصر‭ ‬التشويق‭ ‬والجذب‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬الحكاية‭ ‬وكيف‭ ‬لجأن‭ ‬لتطعيم‭ ‬الحكايات‭ ‬بالأمثال‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬حفلت‭ ‬بها‭ ‬رواياتي‭ ‬اللاحقة‭. ‬إن‭ ‬تلك‭ ‬العفوية‭ ‬التي‭ ‬قصصن‭ ‬بها‭ ‬دفعتني‭ ‬للابتعاد‭ ‬عن‭ ‬التعقيد‭ ‬والتكرار‭ ‬واستخدام‭ ‬اللغة‭ ‬الصعبة‭. ‬ولم‭ ‬يغب‭ ‬عني‭ ‬إصرار‭ ‬الحاكيات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حكاياتهن‭ ‬على‭ ‬نصرة‭ ‬الخير‭ ‬على‭ ‬الشر‭ ‬دائمًا،‭ ‬ولعلهن‭ ‬كن‭ ‬يقصدن‭ ‬بذلك‭ ‬ترسيخ‭ ‬الأشياء‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الصغار‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعلني‭ ‬أبتعد‭ ‬عن‭ ‬النهج‭ ‬الإصلاحي‭ ‬ودفعني‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أنصر‭ ‬الشر‭ ‬على‭ ‬الخير،‭ ‬فقد‭ ‬رأيت‭ ‬ذلك‭ ‬الانتصار‭ ‬بأم‭ ‬العين‭.‬

أما‭ ‬النهايات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقف‭ ‬عندها‭ ‬الحاكيات‭ ‬القديمات‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬جميعها‭ ‬نهايات‭ ‬مغلقة‭ ‬وفي‭ ‬غالبيتها‭ ‬سعيدة‭ ‬ربما‭ ‬لإرضاء‭ ‬السامعين‭ ‬وزرع‭ ‬روح‭ ‬التفاؤل‭ ‬لديهم،‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬جعلني‭ ‬أتمرّد‭ ‬وأجعل‭ ‬النهاية‭ ‬مؤلمة‭ ‬كما‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وأترك‭ ‬النهاية‭ ‬مفتوحة‭ ‬كما‭ ‬الحياة‭ ‬لأجعل‭ ‬عقل‭ ‬القارئ‭ ‬يشاركني‭ ‬التعب‭ ‬والتفكير‭ ‬ليبحث‭ ‬عن‭ ‬النهاية‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬مناسبة‭ ‬لفهمه‭ ‬وعاطفته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قراءته‭ ‬للعمل‭.‬

حين‭ ‬طويت‭ ‬ملف‭ ‬الرواية‭ ‬الأخير‭ ‬وسلمتها‭ ‬إلى‭ ‬الناشر‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬الهاجس‭ ‬الأكثر‭ ‬عذابًا‭ ‬من‭ ‬عذاب‭ ‬الكتابة،‭ ‬كيف‭ ‬سيستقبل‭ ‬الناس‭ ‬هذا‭ ‬المولود؟

لقد‭ ‬تباينت‭ ‬آراء‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬تصنيف‭ ‬الرواية‭ ‬وتحليلها،‭ ‬رأى‭ ‬البعض‭ ‬أنها‭ ‬رواية‭ ‬جريئة‭ ‬ارتقت‭ ‬عن‭ ‬الإثارة‭ ‬واستفزاز‭ ‬الغرائز،‭ ‬وصنفها‭ ‬البعض‭ ‬رواية‭ ‬إنسانية‭ ‬مرتبطة‭ ‬بظروف‭ ‬القهر،‭ ‬والبعض‭ ‬رآها‭ ‬شاعرية‭ ‬في‭ ‬لغتها‭ ‬ومناخاتها،‭ ‬وقد‭ ‬شجعني‭ ‬نجاحها‭ ‬على‭ ‬المضيّ‭ ‬لإيلاد‭ ‬تراث‭ ‬الماضي‭ ‬الزاخر‭ ‬المتعمقة‭ ‬جذوره‭ ‬بداخلي،‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬النجاح‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬اتجاهي‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬جاء‭ ‬صدفة‭ ‬أخرى‭ ‬ولدت‭ ‬على‭ ‬إثرها‭ ‬روايتي‭ ‬الثانية؟

أقول‭ ‬دائمًا‭ ‬إن‭ ‬ثمة‭ ‬صدفة‭ ‬تخدم‭ ‬الكاتب،‭ ‬فيجد‭ ‬نفسه‭ ‬منساقًا‭ ‬إلى‭ ‬بداية‭ ‬ما‭ ‬ثم‭ ‬يصبح‭ ‬متورطًا‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬تورطًا‭ ‬جميلًا‭ ‬أخّاذًا،‭ ‬لكنه‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬عسير‭ ‬ومتعب‭. ‬هكذا‭ ‬جاءت‭ ‬روايتي‭ ‬الثانية‭ ‬‮«‬وسميّة‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬البحر‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1986‭ ‬والتي‭ ‬حظيت‭ ‬بنجاح‭ ‬كبير‭ ‬واختيرت‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬أفضل‭ ‬مئة‭ ‬رواية‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

لقد‭ ‬تكونت‭ ‬الرواية‭ ‬بداخلي‭ ‬تكوّن‭ ‬طفل‭ ‬لا‭ ‬أعلم‭ ‬مسبقًا‭ ‬أوجه‭ ‬الجمال‭ ‬والتشوّه‭ ‬فيه،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬كتبتها‭ ‬تركت‭ ‬العمل‭ ‬بها‭ ‬فترة‭ ‬عدت‭ ‬بعدها‭ ‬أرتب‭ ‬أوضاعه‭ ‬بالشكل‭ ‬الذي‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬بولادة‭ ‬أكثر‭ ‬اكتمالًا‭ ‬ونضجًا‭.‬

لم‭ ‬أجد‭ ‬صعوبة‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬حالة‭ ‬حب‭ ‬تربط‭ ‬قلب‭ ‬وسمية‭ ‬بقلب‭ ‬عبدالله،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صعبًا‭ ‬أن‭ ‬أصطاد‭ ‬شخوص‭ ‬الرواية،‭ ‬فهي‭ ‬نماذج‭ ‬واقعية‭ ‬عرفها‭ ‬مجتمعنا‭ ‬الكويتي‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬جُبِلَ‭ ‬على‭ ‬الطيبة‭ ‬والتواضع،‭ ‬فأم‭ ‬وسمية‭ ‬زوجة‭ ‬التاجر‭ ‬الكبير‭ ‬ابنة‭ ‬الطبقات‭ ‬المقتدرة‭ ‬ذات‭ ‬الحسب‭ ‬والنسب‭ ‬تمثل‭ ‬نموذجًا‭ ‬نسائيًا‭ ‬ساد‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬لا‭ ‬تسيطر‭ ‬عليه‭ ‬الروح‭ ‬الطبقية‭ ‬ولا‭ ‬يتعامل‭ ‬بأساليبها‭ ‬رغم‭ ‬الفوارق‭. ‬وشخصية‭ ‬مريوم‭ ‬الدلالة‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬مجتمع‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بخروج‭ ‬نساء‭ ‬الطبقات‭ ‬العليا،‭ ‬فتأخذ‭ ‬الدلالة‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬توفير‭ ‬الحاجيات‭ ‬النسائية‭ ‬لهن،‭ ‬وكذلك‭ ‬تكون‭ ‬همزة‭ ‬الوصل‭ ‬بين‭ ‬البيت‭ ‬المغلق‭ ‬والعالم‭ ‬الخارجي،‭ ‬تنقل‭ ‬أخبار‭ ‬السوق‭ ‬وحكاياته‭ ‬وأحداث‭ ‬الأحياء‭ ‬الأخرى‭ ‬وهي‭ ‬نموذج‭ ‬حيّ‭ ‬للمرأة‭ ‬المكافحة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬يغيب‭ ‬فيه‭ ‬الرجال‭ ‬شهورًا‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬الغوص‭ ‬والأسفار‭.‬

أما‭ ‬وسمية‭ ‬فقد‭ ‬أحيتها‭ ‬ملامح‭ ‬الطفلة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬شعرت‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬أنها‭ ‬تشق‭ ‬عباب‭ ‬القلب‭ ‬والذاكرة‭ ‬وتتربع‭ ‬أمامي‭ ‬بظلالها‭ ‬وجمالها،‭ ‬وبراءتها‭ ‬تساعدني‭ ‬أن‭ ‬أصفها‭ ‬كما‭ ‬عرفتها‭. ‬كذلك‭ ‬شخصية‭ ‬عبدالله‭ ‬فقد‭ ‬قفزت‭ ‬أمامي‭ ‬وجوه‭ ‬عشرات‭ ‬الصبيان‭ ‬ممن‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬الأحياء‭ ‬التي‭ ‬تنقلت‭ ‬إليها‭ ‬بسبب‭ ‬زواج‭ ‬أبي‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬امرأة،‭ ‬ولأن‭ ‬الحياة‭ ‬كانت‭ ‬بسيطة‭ ‬فقد‭ ‬حظي‭ ‬زماننا‭ ‬بحرية‭ ‬الاختلاط‭ ‬البريء‭ ‬بين‭ ‬البنات‭ ‬والأولاد،‭ ‬فلا‭ ‬غرابة‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬تنشأ‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬بريء‭ ‬بين‭ ‬قلبين،‭ ‬يشدهما‭ ‬الحب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬لقاء‭ ‬بريء‭ ‬لا‭ ‬تنطوي‭ ‬النية‭ ‬أن‭ ‬يتعدى‭ ‬حدود‭ ‬اللعب‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬البحر‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬زماننا‭ ‬خاليًا‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬بكل‭ ‬أشكاله،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬السائد‭ ‬تخويف‭ ‬الصغار‭ ‬لأجل‭ ‬ضمان‭ ‬انضباطهم‭ ‬وهدوئهم‭ ‬والتزامهم‭ ‬بمواعيد‭ ‬النوم،‭ ‬هذا‭ ‬الخوف‭ ‬كان‭ ‬يوازيه‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬الأهل،‭ ‬غضب‭ ‬الأب،‭ ‬الأخ‭ ‬والجدّة،‭ ‬غضب‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬عقوبات‭ ‬عديدة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬حنونة‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬أغلبها‭ ‬قاسية‭ ‬تترك‭ ‬آثارها‭ ‬على‭ ‬الجسد‭.‬

كان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬توظيف‭ ‬هذا‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬ذلك‭ ‬الخوف‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬وسمية‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬ملجأٍ‭ ‬للاختباء‭ ‬فيه‭ ‬حين‭ ‬فاجأت‭ ‬الشرطة‭ ‬لقاءها‭ ‬البريء‭ ‬بعبدالله‭ ‬لحين‭ ‬انزياح‭ ‬سبب‭ ‬الخوف،‭ ‬لكن‭ ‬اللحظة‭ ‬طالت‭ ‬وغرقت‭ ‬وسمية‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الخوف‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬الصغار‭ ‬وحدهم،‭ ‬كان‭ ‬للمجتمع‭ ‬تقاليده‭ ‬وقوانينه‭ ‬التي‭ ‬ترسخ‭ ‬الخوف‭ ‬لدى‭ ‬الكبار،‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬الناس،‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الغرباء‭ ‬الآتين‭ ‬بعادات‭ ‬غير‭ ‬عاداتهم،‭ ‬الخوف‭ ‬على‭ ‬البنات‭ ‬والأولاد‭ ‬من‭ ‬الجنوح‭ ‬والزلل،‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬فضيحة،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬وسيلة‭ ‬تدرأ‭ ‬الفضيحة‭ ‬عن‭ ‬بيت‭ ‬وسميّة‭ ‬الرفيع‭ ‬وتقنع‭ ‬الناس‭ ‬بسبب‭ ‬معقول‭ ‬للغرق،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬اعتادوا‭ ‬غدر‭ ‬البحر‭ ‬الذي‭ ‬غيّب‭ ‬بنات‭ ‬ونساء‭ ‬حنّين‭ ‬شعورهن‭ ‬وغطسن‭ ‬لغسلها‭.‬

وقد‭ ‬وجدتْ‭ (‬مريوم‭) ‬الدلالة‭ ‬وسيلتها‭ ‬لحماية‭ ‬شرف‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬أكرمها‭ ‬أهله،‭ ‬وأيضًا‭ ‬لحماية‭ ‬ولدها‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬موت‭ ‬وسمية‭ ‬التي‭ ‬أحبها‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬خيار‭ ‬لأم‭ ‬وسمية‭ ‬المفجوعة‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تقبل‭ ‬بهذا‭ ‬الحل‭.‬

لقد‭ ‬كتبت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬وعيي‭ ‬وفهمي‭ ‬لمجتمعي‭ ‬القديم،‭ ‬لم‭ ‬أهتم‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬شكل‭ ‬جديد‭ ‬ولم‭ ‬أخضع‭ ‬لتقنيات‭ ‬حديثة‭ ‬لأكتب‭ ‬نصًا‭ ‬كريستاليًا‭ ‬تبتهج‭ ‬له‭ ‬عيون‭ ‬الحداثيين‭. ‬كان‭ ‬همي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لغتي‭ ‬ذات‭ ‬دلالة‭ ‬وشخوصي‭ ‬أرواحًا‭ ‬تتحرك‭ ‬وأن‭ ‬أقبض‭ ‬على‭ ‬القضية‭ ‬الإنسانية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬قبضًا‭ ‬يسمح‭ ‬بإبراز‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬رغم‭ ‬بساطته‭ ‬كان‭ ‬يحاصر‭ ‬ويقهر‭.‬

ما‭ ‬بين‭ ‬الروايتين‭ ‬‮«‬المرأة‭ ‬والقطة‮»‬‭ ‬و«وسمية‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬البحر‮»‬،‭ ‬نشطتُ‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬فأصدرت‭ ‬مجموعتين‭ ‬‮«‬فتحيّة‭ ‬تختار‭ ‬موتها‮»‬‭ ‬و«حالة‭ ‬حب‭ ‬مجنونة‮»‬،‭ ‬أثناء‭ ‬ذلك‭ ‬كنت‭ ‬أتعايش‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬مرضية‭ ‬لصديقة‭ ‬عزيزة‭ ‬مقيمة‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬بدأ‭ ‬صراعها‭ ‬مع‭ ‬مرض‭ ‬السرطان‭. ‬في‭ ‬البداية‭ ‬واجهتْ‭ ‬مرضها‭ ‬بشجاعة‭ ‬مدهشة،‭ ‬لكنها‭ ‬وحين‭ ‬ساءت‭ ‬حالتها‭ ‬ودخلت‭ ‬مرحلة‭ ‬اليأس‭ ‬الداكن‭ ‬أعلنت‭ ‬نقمتها‭ ‬على‭ ‬المرض‭ ‬وأخذت‭ ‬تطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬وحكمة‭ ‬الله‭ ‬فيهما‭.‬

أثارتني‭ ‬أسئلتها‭ ‬فدفعني‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬كتب‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬الموت‭ ‬مما‭ ‬أصابني‭ ‬بالكآبة‭ ‬وأسقطني‭ ‬بالعتمة،‭ ‬ورغم‭ ‬السوداوية‭ ‬التي‭ ‬حاصرتني‭ ‬كان‭ ‬جنين‭ ‬الرواية‭ ‬يتكون‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬وبدأت‭ ‬ولادة‭ ‬‮«‬الموت،‭ ‬المغنية،‭ ‬الأصدقاء‮»‬،‭ ‬لكنها‭ ‬ولادة‭ ‬متعسرة،‭ ‬فما‭ ‬أن‭ ‬أسترسل‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬حتى‭ ‬يقفز‭ ‬وجه‭ ‬صديقتي‭ ‬أمامي،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الاقتحام‭ ‬المفاجئ‭ ‬لوجهها‭ ‬يثير‭ ‬حزني‭ ‬فأتوقف‭. ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬مخطوطة‭ ‬لم‭ ‬تكتمل‭ ‬بعد،‭ ‬لذلك‭ ‬لن‭ ‬أتحدث‭ ‬عنها‭ ‬لكنني‭ ‬أسميها‭ ‬الرواية‭ ‬المشؤومة،‭ ‬لأنني‭ ‬حين‭ ‬تخففت‭ ‬من‭ ‬حزني‭ ‬وعدت‭ ‬إليها‭ ‬ماتت‭ ‬صديقتي‭ ‬فتركتها،‭ ‬ثم‭ ‬حين‭ ‬عدت‭ ‬إليها‭ ‬جاء‭ ‬الغزو‭ ‬فنسف‭ ‬شعوري‭ ‬بالأمان‭ ‬وفقدت‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الكتابة،‭ ‬وحين‭ ‬عدت‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1996‭ ‬وقطعت‭ ‬بها‭ ‬شوطًا‭ ‬جاءت‭ ‬دعوى‭ ‬الظلاميين‭ ‬ضدي‭ ‬وبدأت‭ ‬رحلتي‭ ‬إلى‭ ‬المحكمة‭ ‬ولم‭ ‬تنته‭ ‬القضية‭ ‬إلا‭ ‬عام‭ ‬2000،‭ ‬كانت‭ ‬التجربة‭ ‬مرّة‭ ‬وقاسية‭ ‬مما‭ ‬زودني‭ ‬بمادة‭ ‬جيدة‭ ‬للكتابة،‭ ‬فوجدتني‭ ‬أبدأ‭ ‬بكتابة‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬المحاكمة‮»‬،‭ ‬واعتبرتها‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية،‭ ‬لكن‭ ‬النقاد‭ ‬والأصدقاء‭ ‬صنفوها‭ ‬رواية‭ ‬لما‭ ‬تميزت‭ ‬به‭ ‬حسب‭ ‬رأيهم‭ ‬من‭ ‬خط‭ ‬دراميّ‭ ‬وفن‭ ‬روائي‭ ‬تطعمت‭ ‬فصوله‭ ‬بالأحلام‭ ‬والذكريات‭.‬

 

الكتابة‭ ‬بين‭ ‬الحب‭ ‬والعداوة

قلت‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬الكاتب‭ ‬ويدفعه‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬حدثٌ‭ ‬ما،‭ ‬لقطة،‭ ‬فكرة‭. ‬هكذا‭ ‬فوجئت‭ (‬بالعصعص‭) ‬يهتز‭ ‬أمامي‭ ‬إثر‭ ‬موقف‭ ‬ما‭ ‬فيشوش‭ ‬باهتزازاته‭ ‬المتلاحقة‭ ‬صورة‭ ‬الرواية‭ ‬تلك،‭ ‬وبإلحاح‭ ‬شديد‭ ‬لم‭ ‬أقاومه‭ ‬احتل‭ ‬العصعص‭ ‬الموقع‭ ‬فبدأت‭ ‬الكتابة‭.‬

إن‭ ‬الكتابة‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تحقق‭ ‬لك‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬مما‭ ‬كنت‭ ‬تحلم‭ ‬به‭ ‬وتسعى‭ ‬لتحقيقه‭ ‬فإنها‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬تمنحك‭ ‬حب‭ ‬الناس،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تكسبك‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭ ‬فإنها‭ ‬أيضًا‭ ‬تفتح‭ ‬عليك‭ ‬أبواب‭ ‬عداوات‭ ‬لم‭ ‬تسع‭ ‬لفتحها‭ ‬وإشعال‭ ‬حرائقها،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬عن‭ ‬إعلان‭ ‬عداوته‭ ‬وملاحقته‭ ‬مما‭ ‬يثير‭ ‬انتباه‭ ‬الناس‭ ‬ويصل‭ ‬حد‭ ‬السخرية‭ ‬منه،‭ ‬فحين‭ ‬يغيب‭ ‬عنك‭ ‬ذلك‭ ‬العدو‭ ‬التابع‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يوجه‭ ‬لك‭ ‬السؤال‭: ‬أين‭ ‬عصعصك؟‭ ‬السؤال‭ ‬رغم‭ ‬طرافته‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬المعنى‭ ‬وكأن‭ ‬ذيلًا‭ ‬قد‭ ‬نبت‭ ‬لك‭. ‬ذلك‭ ‬السؤال‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أثارني‭ ‬فشعرت‭ ‬فجأة‭ ‬أنني‭ ‬بحاجة‭ ‬للتخلّص‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العصعص،‭ ‬ليس‭ ‬للسعي‭ ‬بقطعه‭ ‬فهذا‭ ‬يستحيل‭ ‬ولكن‭ ‬بالوسيلة‭ ‬التي‭ ‬أدرك‭ ‬يقينًا‭ ‬أنها‭ ‬تريحني‭.‬

هكذا‭ ‬شرعت‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬فأطل‭ ‬وجه‭ ‬ذلك‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬عُرف‭ ‬في‭ ‬حينا‭ ‬القديم‭ ‬بولعه‭ ‬في‭ ‬قص‭ ‬ذيول‭ ‬الحيوانات،‭ ‬مما‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬المشاكل‭ ‬لأهله‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬قام‭ ‬بقطع‭ ‬ذيول‭ ‬حيواناتهم‭ ‬الأليفة‭.‬

كان‭ ‬ذلك‭ ‬الطفل‭ ‬أول‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬تصدرت‭ ‬مشروع‭ ‬الرواية‭ ‬وسلمتني‭ ‬خيوطها‭ ‬الناعمة‭ ‬للبدء‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭. ‬وما‭ ‬أن‭ ‬استيقظ‭ ‬‮«‬سلّوم‮»‬،‭ ‬هكذا‭ ‬أسميت‭ ‬الطفل‭ ‬حتى‭ ‬استفاقت‭ ‬أمامي‭ ‬أحياء‭ ‬قديمة‭ ‬كاملة‭ ‬بأزقتها،‭ ‬بيوتها،‭ ‬روائحها‭ ‬ووجوه‭ ‬بشرها‭ ‬النائمين‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬قطفت‭ ‬ذلك‭ ‬الخزين‭ ‬بحنان‭ ‬وحرص‭ ‬شديدين‭ ‬محاذرة‭ ‬أن‭ ‬تسقط‭ ‬منه‭ ‬أية‭ ‬عوالق‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬صغيرة‭ ‬خاصة‭ ‬أنماط‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المتشابكة‭ ‬لمجتمع‭ ‬ضم‭ ‬غير‭ ‬سكانه‭ ‬الأصليين‭ ‬جنسيات‭ ‬أخرى‭ ‬عاشت‭ ‬به‭ ‬وتآلفت‭ ‬مع‭ ‬أهله،‭ ‬إما‭ ‬بحكم‭ ‬الجيرة‭ ‬كالعراق‭ ‬وإيران،‭ ‬وإما‭ ‬بالهجرة‭ ‬كقدوم‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬بعد‭ ‬نكبة،‭ ‬1948‭  ‬وقد‭ ‬استلزم‭ ‬هذا‭ ‬استخدام‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لهجة‭ ‬عامية‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬الرواية‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬رسم‭ ‬الشخصية‭ ‬الخارجية‭ ‬لسلّوم‭ ‬صعبًا،‭ ‬كانت‭ ‬الصعوبة‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬تكوينه‭ ‬النفسيّ‭ ‬الذي‭ ‬يدفعه‭ ‬لتلك‭ ‬الأفعال‭ ‬وتوظيفه‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬توظيفًا‭ ‬له‭ ‬تبريراته‭ ‬وتكون‭ ‬لفكرة‭ ‬العصعص‭ ‬دلالاتها‭ ‬المقنعة‭. ‬لقد‭ ‬امتدّ‭ ‬عالم‭ ‬فسيح‭ ‬أمامي‭ ‬لهذه‭ ‬الرواية‭ ‬وساهمت‭ ‬حالتي‭ ‬النفسية‭ ‬المرتاحة‭ ‬أن‭ ‬أستجلب‭ ‬لها‭ ‬الأحداث‭ ‬المتنوعة‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيل‭ ‬ذلك‭ ‬المجتمع‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬جماليات‭ ‬وبشاعات‭ ‬وصراعات‭ ‬اجتماعية‭ ‬لم‭ ‬تجف‭ ‬جذورها‭ ‬وامتدت‭ ‬لتطال‭ ‬مجتمعنا‭ ‬اليوم‭ ‬وبأشكال‭ ‬مختلفة‭.‬

أتصور‭ ‬أن‭ ‬أربع‭ ‬روايات‭ ‬منشورة‭ ‬غير‭ ‬كافٍ‭ ‬لأتحدث‭ ‬عن‭ ‬تجربتي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬خاصة‭ ‬لشعوري‭ ‬أنني‭ ‬مازلت‭ ‬أحبو‭ ‬في‭ ‬عالمها،‭ ‬لكنها‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تعطي‭ ‬صورة‭ ‬صادقة‭ ‬لتجربة‭ ‬التعب‭ ‬والعراك‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الجميل‭ ‬والذي‭ ‬أصبح‭ ‬اليوم‭ ‬هاجسي‭ ‬الوحيد‭ ‬ومتعتي‭ ‬البالغة‭. ‬وهي‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تتعبني‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬وسيلتي‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬الفضاءات‭ ‬المعتمة‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تحقق‭ ‬لي‭ ‬متعة‭ ‬البوح‭ ‬والسكون‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬أكثر‭ ‬اتساعًا‭ ‬من‭ ‬عالمنا‭ ‬الذي‭ ‬يضيق‭ ‬رغم‭ ‬اتساع‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬المتعددة‭.‬

أما‭ ‬العمل‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬مازلت‭ ‬أتعارك‭ ‬وإياه‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬فهو‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬صمت‭ ‬الفراشات‮»‬،‭ ‬إنها‭ ‬عالم‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬يُفرض‭ ‬على‭ ‬النساء‭ ‬بكل‭ ‬أشكاله‭.‬

إن‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬روائي‭ ‬جديد‭ ‬يضاعف‭ ‬قلقي‭ ‬ويدخلني‭ ‬دائرة‭ ‬الخوف‭ ‬والتربص‭ ‬الدقيق‭ ‬لما‭ ‬أكتب،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬محاولات‭ ‬تحظى‭ ‬بنجاح‭ ‬يتفاوت‭ ‬حجمه‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬رواية‭ ‬وأخرى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يدفع‭ ‬بالكاتب‭ (‬أيّ‭ ‬كاتب‭) ‬أن‭ ‬يواصل‭ ‬محاولاته‭ ‬حتى‭ ‬يتبوأ‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬يحلم‭ ‬بها،‭ ‬ولذلك‭ ‬سأظل‭ ‬أحلم‭ ‬وأحلم‭... ‬حلم‭ ‬الاستمرار‭ ‬والتجدد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬تعثرٍ‭ ‬ونهوض‭ ‬وأمل‭ ‬في‭ ‬التحقق‭ ‬■