مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

رحلة بلا حقيبة ولا متاع

على مرفأ الذاكرة أقف اليوم, لأستعرض هذه الأطياف والرؤى التي تمر أمامي, وجوه وأحداث وأسماء وأمكنة, تتتابع وتتـوالى وتعبـر مرفأ الذاكرة, لا كما كنت أراها وهي تتحرك على تلك الرقعة الفسيحة, زماناً ومكاناً, التي نسميها أرض الواقع, ولكن كما يحدث في الأحلام, عندما تتداخل وتختلط مختلف المشاهد والوقائع والأشخاص, بل الأفكار والكلمات والأزمنة والأمكنة, وأرى في دقيقة واحدة من زمن الحلم, ما استغرق حدوثه أعواماً من عمري وعمر تجاربي في الحياة.

عندما نكلوا بالعلماء

ثمة تاريخ طويل يربط بلدتنا (مزده) بالعلم والعلماء, منذ أن كان أهلها (قنطرار) يعيشون في قرية (قنطرارة) بجبل نفوسه التي هدمها الأغالبة وظلت أطلالها حتى الآن تدل على ذلك التاريخ الدموي القديم عندما شنقوا عدداً كبيراً من علمائها ونكلوا بأهلها, لأنها كانت المركز العلمي لسكان الجبل, الذي كان موالياً للدولة الرسمية في تاهرت, معادياً لحكم بني الأغلب وأسلافه. ولذلك لجأ من نجا من مذابح الأغالبة إلى الصحراء, وأسس منذ أكثر من ألف عام, هذه البلدة التي أسماها الناس (مزده), ومعناها المسجد أو المدرسة الدينية بالتعبير البربري المتداول في تلك الأحقاب. ورغم هذه المكانة العلمية التي ظل أهل البلاد يتوارثونها جيلاً عن جيل, ورغم أنني أنتمي لبيت عالم هو جدي الفقيه أحمد بن عبدالله القنطراري, الذي كان معلما للقرآن في المدرسة القرآنية, فإن العلم في تلك الفترة التي بلغت فيها سن الالتحاق بالمدرسة, لم يكن غير دراسة القرآن في الكتاب لأعوام محدودة, أو قضاء أربعة أعوام في المدرسة الابتدائية الوحيدة, التي أضافوا إليها فيما بعد عامين, فصارت ستة أعوام تنتهي بعدها كل فرص وآفاق التعليم في بلدة (مزده).

كانت الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الثانية, أعوام قحط وجفاف ومجاعات, شملت ليبيا كلها, شرقها وغربها, وكان لا بد نتيجة لهذه الظروف أن تتأثر تجارة والدي ويصيبها الكساد, كأي شيء آخر في البلاد. ولهذا فقد كنا نعيش عيشة الكفاف, وكان والدي يبحث عن مصادر رزق أخرى تدعم الدخل القليل الذي يأتيه من الحانوت, فكان كغيره من أهل القرية, يتطلع كل يوم إلى السماء, بأمل أن يرى سحابة عابرة, ويصلي مثلهم لله, يسأله أن يصيب غيثها الأودية القريبة, التي هي ملك مشاع لأهل القرية دون سواهم, يخرجون لحرثها في مواسم الحرث أو يستعيضون عن الحرث بربيع تكثر فيه الأعشاب, يلاقونه بعائلاتهم وشياههم وينتقلون من بيوتهم للإقامة في الأودية والبراري طوال أشهر الربيع, ولم تكن هذه الرحلة ترفا أو نزهة وإنما فرصة لالتقاط لقمة العيش من هذه الموارد التي يتيحها مجيء الربيع, مياهه وأعشابه, وحليب الشياه, وما ينتج عنه من زبد وأجبان.

رحلة الربيع

مشكلتي مع رحلة الربيع, أنها كادت أن تقضي على مستقبلي الدراسي, لأن موعد الخروج إليها كان يأتي مباشرة قبل أداء الامتحان في المدرسة الابتدائية التي التحقت بها, مما أنتج تعارضاً بين الدراسة ومشاركتي في رحلة الربيع. وهناك عاملان اثنان أنقذاني من هذا المصير وجعلاني أستأنف الدراسة, أولهما الجفاف الذي استفحل ومنع الناس من مواصلة الخروج لملاقاة الربيع, لأنه لم يكن هناك ربيع, غير الأرض الشعثاء الغبراء وعواصف الرمل والحصى لكل من يغامر بالابتعاد عن جدران أبنية البلدة, وثانيهما, هو شغفي بالمطالعة, وتفوّقي في دروس الكتابة والقراءة, الذي جعل مدير المدرسة الأستاذ الصديق الدرداري, رحمه الله, يلح على والدي أن يتركني أواصل تعليمي, والسبب في هذا التفوق, يرجع إلى أنني ذهبت وأنا في سن الروضة إلى المدرسة القرآنية لمدة عامين, تعلمت أثناءهما الأبجدية, وجئت إلى المدرسة الابتدائية وأنا متمكن من القراءة, أملك ذلك المفتاح السحري الذي أتاح لي فرصة الولوج إلى عالم باهر جميل هو عالم قصص الأطفال خاصة تلك المستوحاة من ألف ليلة وليلة.

لم يكن وارداً بطبيعة الحال, أن أولد فأجد مكتبة داخل البيت في انتظاري, فما أبعد واحة في عمق البراري القاحلة الجرداء, عن مثل هذا التقليد. حتى ما كان يملكه جدي الراحل من كتب دينية وتراثية, ضاعت وأتلفها الإهمال وحملات التفتيش التي كان يقوم بها جنود الحامية الإيطالية على البيوت بحثاً عن المجاهدين. ولم تكن هناك مكتبة تبيع الكتب أو دكانة تبيع الصحف والمجلات لأجد بينها شيئاً صالحاً للأطفال كي أشتريه, وكانت سعادتي لا حد لها عندما عرفت أن هناك مكتبة تابعة للمدرسة, عامرة بكل أنواع الكتب, ولكن هذه الفرحة انطفأت عندما أخبروني أن مدير المدرسة يمنع التلاميذ من استخدامها كي لا تلهيهم هذه القراءة الحرّة عن متابعة دروسهم وقراءة كتبهم المدرسية, ثم سمح تحت إلحاح عدد من التلاميذ, وتأييد عدد من المدرسين لمطلبهم, بأن يستعير التلميذ كتاباً واحداً في الأسبوع, ولأن هذا التدبير لم يكن يرضي نهمي لقراءة أقصى عدد من الكتب, فقد لجأت إلى زملائي التلاميذ وطلبت منهم أن يستعيروا لي كتباً لأقرأها وأعيدها إليهم, واستطعت بهذه الحيلة أن أقرأ عدة كتب كل يوم.

قرأت جميع كتب الأستاذ كامل كيلاني, عميد مؤلفي قصص الأطفال, وسلاسل المكتبة الخضراء, وأولادنا, وقصصا كثيرة مترجمة مثل ساندريلا وبينوكيو وسجين زندا والزنبقة السوداء وروبنسون كروزو ورحلات جليفر. شكراً لمصر ولدار المعارف التي كانت تصدر هذه السلاسل والتي لولاها لكانت طفولتي أقل سعادة وبهجة. كما قرأت قصصاً مقتبسة من كتاب الأغاني, وكليلة ودمنة, وحكايات التراث العربي مثل سيرة عنترة, وقيس وليلى, وتطورت قراءاتي على مدى الأعوام التي قضيتها في مدرسة مزده, فوصلت إلى روايات جورجي زيدان, وغيرها من قصص التاريخ الإسلامي وقصص الأنبياء. وعرفت المنفلوطي, فقرأت ترجماته لماجدولين والشاعر والفضيلة وفي سبيل التاج ومؤلفاته: النظرات, والعبرات, التي كنت أبكي وأنا أقرأ بعض لوحاتها القصصية. وعرفت في العامين الأخيرين من إقامتي في البلدة, بعض قصص المحدثين, خاصة أصحاب الاتجاه الرومانسي, أمثال محمد عبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي. وأنشأت داخل المدرسة جمعية للنشاط المدرسي, قدمت من خلالها بعض المسرحيات المدرسية كان من بينها مسرحية شعرية عنوانها (عاشق الذهب) قمت فيها بالدور الرئيسي أمام جمهور البلدة. وأصدرت أعداداً من صحيفة حائطية أسميتها (الأمل), وعندما سألني المدرس, وأنا في الصف الثالث الابتدائي, ماذا أريد أن أكون عندما أكبر, قلت دون تردد: أريد أن أكون أديباً, ولعلني لمحت ابتسامة إشفاق تطفو على وجه المدرس, ظننتها سخرية, لأنه لم يكن بالتأكيد يتوقع إجابة تختلف عمّا كان يسمعه من بقية التلاميذ مثل (مدرس) و (موظف) و (شرطي) باعتبار أن مهنا مثل المهندس والمحامي والدكتور لم يكن لها وجود في البلدة وبالتالي فلا أحد يعرف عنها شيئاً. ولذلك فإنني ما إن خرجت من الفصل حتى صممت على أن أقدم له الدليل على جدية مقصدي, وشرعت على الفور في تأليف كتاب عن الحرية من وحي استقلال ليبيا الذي أعلن قبل ذلك الوقت بقليل. ولعل زميلي في إنجاز هذا المشروع الصديق رمضان علي مزده, مازال يحتفظ بأصول هذا الكتاب الذي عكف طفلان في العاشرة من عمريهما على تأليفه ليكون دليل شعبهما نحو طريق الخلاص والانعتاق.

المزيد من القراءات

وأثناء تلك الفترة, وقعت في يدي بعض الأعداد القديمة من مجلة الرسالة وبهرني أسلوب محررها المسئول الأستاذ أحمد حسن الزيات, وأعداد أخرى من مجلة الهلال تعرفت من خلالها على أسماء وأساليب الكتّاب الكبار من أمثال العقاد وطه حسين وأعجبتني مقالات ذات أسلوب شاعري كانت تكتبها السيدة بنت الشاطئ. كما وقع في يدي عدد واحد من مجلة الأديب اللبنانية, قرأت فيه قصة قصيرة تنتمي للأساليب الحديثة, تركت انطباعاً لا يُمحى في نفسي, ولعلها شكلت جزءاً من رؤيتي تجاه هذا الفن منذ ذلك الوقت, وكانت القصة لأستاذنا الكاتب المبدع الدكتور عبدالسلام العجيلي, وكان عنوانها (مصرع محمد بن أحمد حنطي). وقد يندهش القارئ إذا قلت له, إنني مازلت وعلى بعد خمسة وأربعين عاماً, أذكر تفاصيلها بأكثر مما أذكر تفاصيل قصة قرأتها منذ يوم أو يومين, وقد قادتني هذه القصة لقراءة كل ما عثرت عليه من كتب هذا الكاتب النابغة, الذي صار فيما بعد واحداً من الأصدقاء الأعزاء الذين أفخر بصداقتهم وأفرح فرحاً شديداً كلما أتاحت المؤتمرات الأدبية فرصة الالتقاء بهم.

لم تنته أعوام الدراسة في مزده, حتى كنت قد قرأت أغلب ما احتوته مكتبة المدرسة من قصص. وأحياناً كنت أقرأ كتباً خارج مجال القصة, بعضها أجده أكبر من إدراكي, فأرد الكتاب آسفاً لأنني لم أستطع فهمه, كما حدث عندما استعرت (الجمهورية الفاضلة) لأفلاطون أو (البيان و التبيين) للجاحظ.

في صيف عام 1957, تركت البلدة ولم أعد إليها بعد ذلك إلا زائراً, فقد أضحت مدينة طرابلس ومنذ ذلك العام, هي مقر إقامتي الدائم, الذي لا أغادره, إلا لأعود إليه, حتى لو استمر الغياب عدة أعوام.

تركت بلدة (مزده), بعد أن رسمت بصماتها فوق وجداني, وتركت شيئاَ من أضوائها وظلالها وعبير أرضها ممزوجاً بدمي وأنفاسي على مدى العمر, وأسهمت في وضع اللبنات الأولى لتكويني الأدبي بما زرعت في نفسي من حب للحكايات والأهازيج وغناء الأعراس ومدائح النبي في أعياد المولد النبوي الشريف والإنشاد الديني في بقية المناسبات الدينية والاجتماعية, غير ما قدمته لي مدرسة القرية من كريم العطايا والنفحات الإنسانية والروحية.

التحقت في طرابلس بمعهد متوسط أنشأته اليونسكو ضمن برنامج المساعدة الثقافية لليبيا التي تقول عنها النشرات الاقتصادية الصادرة عن الأمم المتحدة في بداية الخمسينيات بأنها أفقر دولة في العالم بين أعضاء الهيئة الأممية. ينقسم المعهد إلى قسمين, التجاري والمهني, ويحتل موقعاً بأجمل أحياء المدينة وأكثرها ازدحاماً بالمآثر المعمارية الشهيرة التي تفنن المهندسون الإيطاليون في إشادتها لتكون مقار لمؤسسات الإدارة الاستعمارية وأماكن للترفيه وأخرى للعبادة خاصة بالمستوطنين, فورثها الشعب الليبي, وفي شارع أطلقوا عليه شارع (هايتي), وهي الدولة الصغيرة التي حسم صوتها في الأمم المتحدة الصراع لمصلحة استقلال ليبيا. كان مقر المعهد الذي انتسبت لقسمه التجاري وأقمت بين جدرانه كطالب بالقسم الداخلي من عام 1957 إلى 1960, هي كل مدة الدراسة بهذا المعهد, وكانت هذه المدة القصيرة التي تنتهي بالحصول على شهادة التخرج, سبباً في شدة الإقبال على المعهد, باعتباره يمثل أقصر طريق للحصول على وظيفة مضمونة بجهاز الدولة, نتيجة لندرة الكوادر الإدارية في ذلك الوقت, بالإضافة إلى أن مدير المعهد السيد ستيفن, الإنجليزي الجنسية, ونائبه السيد وليم الهولندي, كانا حريصين على أخذ الخريجين بأنفسهما إلى المصارف والإدارات الحكومية, لضمان الحصول على وظائف لهم.

انتقلت من البيئة القروية, الرعوية, البدوية, والحياة في إطار العائلة الكبيرة, وتحت إشراف الأب بشخصيته المهيمنة على أجواء البيت والعائلة, وأسلوب حياة أقرب إلى الفطرة والطبيعة, إلى مدينة كل شيء فيها مغاير لبيئة ومجتمع القرية, بمتاجرها ومسارحها ومقاهيها وضجيج سياراتها وسطوع أضوائها وجمال شوارعها وفخامة بيوتها وعمائرها وزحام أسواقها وتنوع وبهاء الملابس التي يرتديها رجالها وجرأة وجمال نسائها الأجنبيات اللاتي ينثرن عطرهن الفاتن الفواح في الميادين الفسيحة التي تحف بها الأقواس والشرفات وتزيّنها النوافير وأشجار الزينة. وحيث كانت الجالية الإيطالية تهيمن على مراكز الترفيه والتجارة وتضفي جوّاً أوربياً إيطالياً على العاصمة الليبية, وتعهد لنسائها بإدارة المقاهي والمطاعم والحانات والأندية. وكان جمال الحدائق وروعة شاطئ البحر, مصدراً للحظات من الهناء والسعادة, تقدمها طرابلس الفاتنة لفتى ريفي, يغترب لأول مرة عن قريته وأسرته.

واصلت وأنا في المدينة قراءة الأعمال الأدبية بأكثر همة وعزيمة مما كنت أفعل في البلدة, فالمصادر التي تتيح لي حرية الاختيار لا حصر لها, مكتبات كثيرة تبيع جميع ما يصدر في المشرق العربي من مجلات وصحف ودوريات. مكتبة عامة تقع في وسط المدينة, وفي ميدان الشهداء, تتبع الحكومة, وتتخصص في الدوريات, حيث كل ما يصدره العالم العربي من صحف ومجلات على مختلف أشكالها واهتماماتها وتوجهاتها, متوافر وموجود ومتاح مجاناً للجمهور. وفي هذه المكتبة كنت أقضي أغلب ساعات الفراغ ونهارات العطل والإجازات, وفي المساء كنت أعود محمّلاً بكتب استعرتها من المركز الثقافي المصري, لأعكف على قراءتها بالقسم الداخلي. وفي هذه الأثناء, تعرفت على أغلب رموز الأدب والثقافة أمثال الحكيم وطه حسين والعقاد ومحمود تيمور ونجيب محفوظ ويحيى حقي وجبران ومي زيادة. وأعجبتني الطريقة المبتكرة التي كتب بها يوسف إدريس قصصه القصيرة, وأعجبني الشعر الغنائي الذي كان يكتبه نزار قباني. وأدمنت قراءة مجلة أدبية أسبوعية كانت تصدر في القاهرة تلك الآونة اسمها (الرسالة الجديدة) يرأس تحريرها يوسف السباعي, وأخرى شهرية اسمها (كتابي), قرأت من خلالها ملخصات أهم الأعمال الروائية العالمية, وأذكر أنني في تلك المكتبة الحكومية, المتخصصة في الدوريات, قرأت عام 1958 العدد الأول من مجلة العربي, التي صرت واحداً من قرّائها الأوفياء الذين داوموا على قراءتها حتى اليوم.

وبدأت, يوماً بعد الآخر, أحاول استكشاف الأجواء الأدبية في العاصمة, وأتعرف على ملامح الأدب الليبي الذي لم أكن حتى ذلك الوقت أعرف عنه شيئاً, لأن عدد الكتب التي أصدرها كتّاب ليبيون كان قليلاً جداً. وهذا القليل لم يكن متاحاً لقارئ صغير في السن مثلي يقرأ قراءة عشوائية دون منهج أو خطة, فاتجهت إلى الصحف والمجلات المحلية التي كانت رغم قلتها تحفل بإسهامات الأدباء الليبيين وتنشر قصائد ومقالات الجيل الذي عاصر مرحلة المقاومة الوطنية, وتشير إليه بإكبار وتقدير مثل أحمد رفيق المهدوي وأحمد قنابه وعلي وأحمد الفقي حسن وأحمد الشارف الذي توفي في تلك الفترة, مع العناصر الشابّة من أدباء جيل الخمسينيات أمثال الأساتذة علي مصطفى المصراتي وخليفة التليسي وعبدالقادر أبوهروس ومحمد فريد سيالة وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم.

فرقة الأمل

وبعد انقضاء عام واحد على وجودي في طرابلس, أي عام 1958, انضممت إلى فرقة مسرحية اسمها فرقة الأمل, التي تضم بين أعضائها أربعة أدباء ناشئين هم عبدالحميد المجراب وبشير الهاشمي ويوسف الشريف ونجم الدين الكيب. ومع هذه المجموعة التي صرت ركنا من أركانها, بدأت أولى الخطوات الجادّة والحقيقية على طريق المغامرة الأدبية والإبداعية.

وبعد مرور ما يقرب من عام ونصف العام, من التحاقي بفرقة الأمل, وفي ديسمبر 1959, أرسلت مجموعة خواطر أدبية لصحيفة أسبوعية اسمها (الطليعة) فنشرتها في أبرز أبوابها وهو (يوميات الطليعة), ولكن بعد أن أسقطت اسمي, وعندما اتصلت بهم أبدي احتجاجي, اعتذروا لي وأفسحوا في الأعداد التالية مكاناً لباب أسبوعي أكتبه تحت عنوان خواطر وتأملات. وكانت صحيفة (فزان) التي تصدر في الجنوب قد اكتسبت سمعة بين الأدباء على اعتبار أنها أكثر جرأة من صحف العاصمة الواقعة تحت سيطرة الحكومة الاتحادية, فأعطيتها أول قصة قصيرة أكتبها ونشرتها عام 1960 تحت عنوان (هارب إلى المدينة). وبدأت منذ ذلك التاريخ أصنع لنفسي اسماً في عالم الكتابة الأدبية والصحفية وأحرر باباً يومياً في جريدة الدولة الرسمية (طرابلس الغرب) اسمه (لا تسرع الخطى). ثم أنتقل في العام التالي إلى واسطة إعلامية أكثر انتشاراً هي الإذاعة لأحرر لها أبواباً يومية صباحية مثل (مجرد رأي) و(حكمة الأجيال) دون أن أهمل نشاطي في مجال المسرح الذي بات يأخذ مني ساعات المساء بعد أن دعتني مجموعة من الجيل المسرحي الجديد لتأسيس فرقة من فرق الهواة تعنى بقضايا التحديث والتجديد في المسرح توليت إدارتها وانهمكت في إعداد برامجها, والمساهمة في عروضها بالكتابة والإخراج والتمثيل. ولاتزال هذه الفرقة تواصل رسالتها حتى الآن, وقد بقيت مديراً لها ولم أتركها إلا بعد تأسيسها بسبع سنوات عندما أنشأت الدولة أول فرقة للمسرح الوطني, وكنت ضمن الأعضاء العشرة المؤسسين لها, والذين حظوا بشرف العمل تحت إشراف واحد من عباقرة الفن المسرحي تمثيلاً وإخراجاً هو الفنان التونسي الراحل محمد العقربي.

الرحيل إلى مصر

كنت أثناء ذلك قد أكملت دراستي بالمعهد التجاري والتحقت بقسم الإعلام التابع لإدارة الجمعيات التعاونية, وفضلته عن العمل في إدارات أخرى باعتباره قريباً من المجال الصحفي. وقد شجعني على ذلك وجود شخصية فكرية تدير المرفق, هو الأستاذ محمد أبوزيد الشريف, رحمه الله. وفي مستهل عام 1962 لاحت فرصة دراسية متواضعة, لكنها تتلاءم مع ظروفي حيث سيبقى المرتب جارياً أثناء فترة البعثة, رشحني لها الأستاذ الشريف كي أذهب إلى مصر ضمن بعثة تتولى مسئوليتها هيئة الأمم المتحدة, ولمعهد أنشأته الهيئة الدولية هناك لتدريب الكوادر العربية في مجال الخدمة الاجتماعية هو (المعهد الدولي لتنمية المجتمع) الذي يقع في قلب الريف المصري وفي قرية من قرى المنوفية اسمها (سرس الليان), وكان الالتحاق بهذا المعهد فرصة ذات ثلاثة أبعاد, يتمثل بعدها الأول في المكان, فقد كان المكان يقع في عمق البيئة الشعبية الريفية, لشعب من أعرق شعوب الأمة العربية, وفي قلب المحيط الذي جاء منه السواد الأعظم من الشعب المصري, وهو محيط الريف والفلاحين والزراعة النيلية. والبعد الثاني يتمثل في الزمان, أي عامي 62 و 63 حيث بدأت التجربة الناصرية في مصر تبلور مشروعها الاشتراكي, وبدأ جيل الستينيات الذي ترك بصمة قوية في الحياة الثقافية, وفي الإبداع الأدبي والفني, يصنع أكثر اللحظات ازدهاراً في هذه المجالات. وثالث هذه الأبعاد يتصل بالعنصر الإنساني, فقد تعرفت بشكل عملي, ومن خلال الممارسة اليومية, والمعايشة الحية لهذه العينة من المواطنين العرب القادمين من المشرق والمغرب, على الوشائج العميقة التي تربط بين أبناء هذه الأمة (وأضيف هنا هامشاً صغيراً مادمنا نقف على أرض الكويت التي منها تصدر مجلة العربي, وهو أنني كنت سعيداً وأنا أرى دولة الكويت ترسل ضمن بعثتها شابّاً فلسطينياً اسمه زهدي, وترسل أيضاً فتاة من طلائع النساء المتعلمات اسمها لؤلؤة التي احتفلنا بخطبتها على زميل لقبه العطار, حدث هذا منذ ما يقرب من أربعة عقود, فأين يا ترى هؤلاء الأصدقاء الآن?), وقد تأكدت منذ تلك الأيام صلتي بالرؤى والأفكار الوحدوية. هذا عن جانب الزملاء, أما عن جانب الأساتذة, فقد استقطبت الهيئة الدولية مجموعة من أكفأ العناصر الأكاديمية, الذين توثقت صلتي بهم بسبب الرابطة الأدبية, إض افة إلى الرابطة التعليمية أمثال الدكاترة عبدالحميد يونس ورشدي خاطر وعبدالفتاح الزيات ومحمود الشنيطي وسعيد عبده ومحمد سعيد قدري ولويس كامل مليكه ومازلت ألتقي أحياناً بأستاذنا محيي الدين صابر وأتابع إسهامات أستاذنا حامد عمّار.

كانت الحياة الثقافية خارج المعهد, تضج بالحركة والنشاط والحيوية, وكنت أستخدم صفتي الصحفية لدخول المحافل الأدبية والكتابة عنها للصحف الليبية, وقد أتاح لي ذلك الالتقاء بعدد كبير من الأدباء والفنانين وإجراء حوارات صحفية معهم واشتركت في عضوية النادي التابع لمسرح الجيب وشاهدت أغلب عروضه, وحضرت الندوات التي كان يديرها النقّاد الكبار محمد مندور ورشاد رشدي ولويس عوض وعبدالقادر القط ورجاء النقاش. وحرصت على أن يكون جزء من تدريبي العملي بالمسرح القومي بالأزبكية, وكان رئيسه ضابطاً مثقفاً اسمه آمال المرصفي, أتاح لي فرصة الاستفادة من مخرجي الرعيل الأول أمثال فتوح نشاطي, وعبدالرحيم الزرقاني, ونبيل الألفي, وكمال ياسين. وتعرفت على المخرجين الوافدين حديثاً من بعثاتهم الدراسية مثل الأستاذ سعد أردش والصديق الدكتور كمال عيد الذي جاء إلى العمل في ليبيا خبيراً للمسرح وانتدبته للعمل معي أستاذاً بالمعهد الوطني للتمثيل والموسيقي عندما كنت مديراً لهذا المعهد.

مع يوسف إدريس

توثقت, خلال هذه الفترة, علاقتي بعدد من المبدعين الكبار, بينهم الدكتور يوسف إدريس الذي كنت شديد القرب منه والمحبة له, واستفدت من عمق ملاحظاته على ما أكتب وتواصلت هذه العلاقة إلى أن انتقل إلى دار الخلود. كذلك فارس القصيدة العربية الحديثة الأستاذ صلاح عبدالصبور, الذي لم أعرف له مثيلاً في الصفاء والشفافية والنبل وشاعرية المعاملة والسلوك, وتعرفت في ذلك الوقت على أصدقاء أعزاء, أضاءوا سماء مصر الأدبية وأضحوا من أكثر نجومها لمعاناً, مثل الأستاذ عبدالله الطوخي وصبري موسى ورجاء النقاش وشقيقه الراحل وحيد النقاش وأحمد عباس صالح, الناقد والمفكر, الذي لم تنقطع لقاءاتي به سواء في مصر أو لندن حيث يقيم الآن.

لم أنقطع خلال هذه المدة التي أقضيها في القاهرة عن كتابة القصص والرسائل الصحفية للجرائد الليبية, وقد جمعت ما نشرته لي هذه الصحف من قصص قصيرة, اخترت من بينها عشر قصص لإصدارها في كتاب بعنوان (الجراد), وهو اسم قصة من قصص المجموعة حظيت باهتمام كبير, وترجمت إلى لغات كبيرة, وأعادت نشرها صحف في المشرق كمثال لنضج هذا الفن في ليبيا مثل مجلة المعرفة السورية وجريدة الطريق اللبنانية. وقرأت لناقد شهير, هو الأستاذ أفنان القاسم, دراسة فيما بعد, نشرتها له مجلة (شئون فلسطينية), يقول فيها عن هذه القصة بأنها كانت تدشيناً لكتابة قصصية جديدة تحتفي بالبطولة الجماعية بدل البطل الفرد. أقول بأنني أعددت هذا المخطوط للنشر, وأعطيته لأستاذنا الدكتور عبدالحميد يونس من أجل تصويب ما قد يكون فيه من أخطاء, ويبدو أنه تحدث عن المخطوط أمام أحد الصحفيين فنشر عنه خبراً في الصفحة الأخيرة بجريدة الأهرام, وكان ذلك في مطلع عام 1963 وبعد أسابيع قليلة من مرور الذكرى العشرين ليوم مولدي.

لم تنشر المجموعة تحت هذا الاسم, ولكنها نشرت تحت اسم جديد, وجدته أكثر شاعرية هو (البحر لا ماء فيه) بعد أن قدمتها إلى اللجنة العليا للفنون والآداب في ليبيا لتدخل ضمن مسابقة الأعمال الأدبية التي أعلنت نتائجها عام 1965, ولتفوز بالمرتبة الأولى في مجال القصة القصيرة. وكان الشيء الذي يبعث على الفخر بالنسبة لي, هو أن أعظم الكتّاب الليبيين شاركوا في هذه المسابقة, وبينهم نوابغ خلد الشعب الليبي ذكرهم وأطلق أسماءهم على المدارس والميادين مثل القصاص الراحل خليفة التكبالي الذي أخذ كتابه (الكرامة) الترتيب الثاني بعد كتابي, وعلي الرقيعي, الشاعر الكبير الراحل, الذي نال الترتيب الثاني في الشعر.

تلك إذن, هي العشرون عاماً الأولى من عمري, بما حفلت به من أحداث, وما حققته أثناءها من اعتراف المجتمع الأدبي بمواهبي, وما حملته من أعباء ومسئوليات قبل بلوغها بعدة سنوات, بما في ذلك إعالة أسرتي ورعاية إخوتي الذين كانوا أصغر سنّاً مني. إنها الأعوام التي وضعت الأسس لكل ما أنجزته خلال أكثر من سبعة وثلاثين عاماً أعقبتها, وأنظر اليوم إليها بكثير من الزهو والفخر, مدركاً أنني أنتمي لجيل انتخبته الظروف التاريخية ليكون حلقة وصل بين عصرين, وعهدت إليه بمهمات جسام قبل أن يتخطى عتبات الطفولة والصبا, عارفا في الوقت ذاته أن ذلك قد لا يتكرر مع أجيال أخرى, و يجب ألا يتكرر, فمن حق أي فتى دون العشرين أن يستمتع بسني المراهقة والصبا, وأن يواصل تحصيله العلمي وهو متحرر من الأعباء والمسئوليات.

كان ذلك هو كتابي الأول الذي أصدرت بعده أكثر من ثلاثين كتاباً شملت مختلف مناحي الإبداع, الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والمقالة الفنية.

وكانت تلك الجائزة هي بداية الطريق الذي أوصلني لأن أشرف بتسلم أعلى وسام في بلادي وهو وسام الفاتح العظيم.

 

أحمد إبراهيم الفقيه