مساحة ود

 مساحة ود

الأم .. أنبل المخلوقات

الأم هي أنبل مخلوق في الوجود، وأفضل عضو في جسم المجتمع، فمن أعماق فؤادها ينبجس نبع الحنان، وفي حضنها تترعرع الفضائل، وهي رمز التفاني ومثال التضحية، تبذل ذاتها في سبيل بيتها وزوجها وأولادها، وتذوب على هيكل العطف كما تذوب الشمعة، لا تشكو ولا تتململ، ولكنها تبتسم للعذاب وللصعاب لأن دافعا خفياً يقويها ويشدد عزيمتها، ويوحي إليها أن رسالة الأمومة لا تخط إلا بمداد هو مزيج من دموع ودماء. لقد سلحت الطبيعة الأم بعتاد يمكنها من الثبات أمام هجمات الدهر.

وهذه حادثة واقعية تشير إلى جلالة الأمومة وروعة الفداء، وتثبت أن الأم في أبعد الأمم والشعوب عن الحضارة، تتمتع بأعظم قسط من الحنان، وتبذل روحها من أجل سلامة أبنائها.

في اليوم الخامس من شهر أغسطس العام 1949 أصيبت جمهورية الأكوادور في أمريكا الجنوبية، بهزة أرضية عنيفة، ذهب ضحيتها نحو خمسةوعشرين ألف شخص، بين قتيل وجريح، وهدمت خمسون قرية ومدينة.

وكانت امرأة من الهنود الحمر، تحمل طفلها بين ذراعيها، حينما انشقت الأرض وابتلعتها. غير أن غريزة الأمومة، دفعتها للقيام بحركة سريعة كالبرق، نبيلة رائعة، فيها أسمى معاني التضحية، ذلك أن تلك الأم، ما كادت تشعر بالخطر الداهم، حتى رفعت الرضيع فوق رأسها، وعلى نهاية أصبعها. وبمثل لمح البصر، ابتلعت الأرض الأم الحنون وسحقتها، عندما أغلقت عليها الهوة. على أن طفلها بقي فوق يدين جامدتين حياً، لم يصب بمكروه. ولم يبق على المنقذين الذين أتوا من جميع الأقطار المجاورة، سوى انتشاله برفق، من فوق يدي أمه المسكينة.

والأمثلة على حنان الأم وعطفها، أكثر من أن تحصى، فليس أيسر عليها من أن تبذل نفسها في سبيل سلامة ابنها وسعادته. وقد تفنن كبار الرسامين والنحاتين، في رسم لوحات، وصنع تماثيل، تبين ما تبديه الأم نحو أفلاذ كبدها من ضروب الحنو وصنوف الفداء.

وما يقال عن حملة الريش والأزاميل، يقال أيضاً عن حملة الأقلام، ولاسيما عن الشعراء الأفذاذ من شرقيين وغربيين. وللشاعر القروي رشيد سليم الخوري قصيدة عنوانها (حضن الأم) تعد بحق من روائع الشعر العالمي الخالد على مر الزمن.

إن رسالة الأمومة أنبل الرسالات، وأكثرها فائدة ونفعاً، لأنها مكتوبة بمداد المحبة الصادقة والتضحية المثلى. وإذا كان للمدارس والمعاهد والجامعات، تأثير كبير في تثقيف العقول وصقل الأذهان، فإن للإم تأثيرا أكبر، لأنها تعمل في مدرسة البيت ما لا يعمله أقدر الأساتذة في أعظم كليات العالم، ولأنها تجد وتكد وتسعى إلى تربية أنجالها بدافع من نفسها وبوحي من غريزتها، وبفيض من مشاعرها، دون أن تشكو التعب، أو تشعر بالسآمة والملل، أو تطالب بأجر أو عوض أو مكافأة. وشتّان بين من يعمل مأجوراً، ومن يبذل وقته وراحته ونور مقلتيه في سبيل أداء واجب فرضته عليه الطبيعة منذ الأزل.

 

رياض عبدالله حلاق