أرقام

أرقام

تناقض الأمم!

ما الذي يضير العالم إذا قررت امرأة عدم الإنجاب, أو قررت أسرة أن تحتفظ بحجم صغير لها?

الجواب, إنها حرية شخصية, فللإنسان أن يحدد شكل حياته, ورغم ذلك, فالنتائج كما يبدو خطيرة ليس من باب ما أطلقوا عليه (القنبلة السكانية وخطر شح الموارد), ولكن من باب آخر اسمه: (تناقص الأمم)!

نعم, هناك شعوب تتناقص أعدادها, ويتراجع سكانها بالقياس لما يحدث في العالم, وأبرز هذه الشعوب هي شعوب أوربا التي طالما اعتبرناها قلب العالم وجزءاً رئيسياً من مستقبله, فإذا بها الآن عكس التيار!

تقول الأرقام التي أذاعها صندوق الأمم المتحدة للسكان في أواخر (1999) إن الزحف الذي قامت به البشرية ليصل عدد السكان إلى (6) مليارات نسمة في نهاية القرن بعد أن كان العدد (1.7) مليار نسمة فقط في بدايته, هذا الزحف كان يبتعد رويداً رويداً عن أوربا, لذا فإن التقرير الأخير يقول إن نسبة نمو السكان في أوربا خلال الأعوام الخمسة الأخيرة من القرن كانت صفرا, بل إن تعداد القارة الذي سجل (729) مليون نسمة في العام الأخير من القرن سوف يصبح - طبقا للتوقعات - (702) مليون فقط عام (2025), بنقصان قدره (22) مليون نسمة!

كانت أوربا تمثل (20%) من سكان العالم عام 1960, فإذا بها تهبط إلى (12%) عام (2000), وإذا بالتوقعات تقول إنها لن تتجاوز (7%) من عدد سكان العالم عام (2050)!

الغريب أن الدول الصغيرة في أوربا سوف تزداد صغرا, والمؤشر هو ما جرى خلال التسعينيات حيث تناقص أو ثبت سكان بلدان مثل: بلغاريا, وكرواتيا, والتشيك, واستونيا, وجورجيا والمجر ورومانيا والاتحاد الروسي, أي أن نسبة النمو في هذه البلدان كانت بالسالب وعدد المواليد لا يعوّض عدد الوفيات!

في الوقت نفسه, وفي بلدان كبيرة مثل فرنسا وبريطانيا كان النمو محدودا لا يتجاوز نصفا في المائة, وهو ما يجعل الصورة العامة كما نرى: تلد النساء ولا يزيد السكان!

هذه الأسباب

قد يكون السبب: زيادة نسبة التعليم, فالأسرة المتعلمة, كما تشير الدراسات, أكثر رغبة في حجم صغير حيث يرتبط بالتعليم على الأرجح: اشتغال المرأة وخروجها للحياة العامة, أي انشغال الزوجين.

أيضاً قد يكون السبب تحسنا في الصحة, فتراجع وفيات الأطفال يبعث الطمأنينة في الأسرة, فلا تلجأ للإنجاب (على سبيل الاحتياط).

وربما يكون من الأسباب تأخر سن الزواج, وانفراط العلاقة بين الحياة الجنسية والزواج الشرعي, فكثير من الزيجات تتم بشكل غير رسمي ولا تحرص على إنجاب الأطفال, بل إن بعض بلدان الشمال في أوربا وغيرها تسجل زيجات تزيد على خمسين بالمائة من الحالات بعيداً عن الكنيسة والمسجد والموثق المدني, إنها مجرد حياة مشتركة يعترف بها المجتمع.

الأسرة الصغيرة أيّا كان أساس شرعيتها باتت هي النموذج في معظم دول الشمال, وفي أوربا بشكل أكبر, لذا فقد تغير هيكل المجتمع, واحتل فيه الشيوخ, مع تحسن متوسطات الأعمار نسبة أعلى, وبما يعنيه ذلك من مشاكل جديدة في سوق العمل, وفي مجال الرعاية الصحية والترفيه, و.., بينما تصبح المشكلة في آسيا أو إفريقيا رعاية الأطفال والنشء, تصبح المشكلة الأكبر في الشمال: رعاية الآباء والأجداد, أما الأطفال فهم يشبّون في مناخ صحي ومستوى اقتصادي مرتفع.

هل هي الرغبة من النساء في التخفف من أعباء الإنجاب? هل هي الرغبة من الرجال في اقتصاد الإنفاق?

الأكيد أن الحياة المستهدفة في نطاق الأسرة الصغيرة وراء هذه التغيرات والتي تساندها جهود علمية وطبية من وسائل لمنع الحمل وتنظيم الأسرة والتعقيم في بعض الأحيان.

الطريف أن ذلك يحدث في وقت تزداد فيه الحرية الجنسية, وتصدر الصحف والمجلات لتندد بظاهرة الحمل المبكر لفتيات في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من العمر, حتى أن هناك إحصاءات يقدمها صندوق الأمم المتحدة للسكان حول الحمل كعائق من عوائق ذهاب الفتيات إلى المدرسة!

والأطرف هو تلك الدراسة التي قدمها مجلس السكان في نيويورك حول الشابات النشطات جنسياً اللاتي لم يتزوجن مطلقاً ويستخدمن وسائل تنظيم الأسرة, وهي دراسة حول العالم النامي, وتشير إلى أن نسبة هؤلاء الفتيات قد قاربت الـ(70%) من الشريحة السنية في البرازيل وبنين! يحدث ذلك في الجنوب, فما بال ما يحدث في الشمال?!

إنه الهرم المقلوب للقيم والتقاليد والذي يساهم في هذه النتيجة: نقصان عدد السكان.

وهذه النتائج

أوربا, بعد خمسين عاماً سوف تصبح (7%) فقط من سكان العالم, فهل تستمر قلبه وعقله المفكر بجوار الولايات المتحدة واليابان? وهل تكسب أكثر أم تخسر أكثر في مواجهة قارات كثيفة السكان, وبلدان تزحف بسكانها مثل الصين والهند واللذين سيشكلان بعد ربع قرن أكثر من ثلث سكان الدنيا?

تاريخياً, كان تعداد السكان هو الرصيد الجاهز لزيادة الإنتاج, بل كان في الوقت نفسه هو الوعاء التجنيدي الذي تخرج منه الجيوش, أي أن عدد السكان كان أحد عناصر القوة والمنعة, كان مثل حائط جغرافي يصد العدو ويخيف الخصوم على بعد.

وتاريخياً, كان التفوق العلمي وكانت العبقريات موجودة بدرجة أكبر في الأمم الكبيرة, فـ(الانتخاب) هنا يرتبط في كثير من الأحيان بعدد السكان, الذي يزيد فتزداد فرصة ظهور علماء وفنانين ومثقفين وفلاسفة وعباقرة, والعكس صحيح في الأمم الصغيرة, وإن كان الباب أمامها غير مغلق.

كان ذلك هو التاريخ, لكن تقدم العلوم والتكنولوجيا وتغير طبيعة الاقتصاد في الآونة الأخيرة جعل كل ذلك ضرباً من الماضي, فلم يعد الإنتاج بحاجة كبيرة للبشر بل إنه بحاجة لعقول إلكترونية وأسواق خارجية مفتوحة! ولم يعد الإنتاج السلعي - والذي يستخدم عمالة كثيفة هو صاحب القسط الأكبر في الناتج المحلي لأي بلد, بل زحف اقتصاد الخدمات, واقتصاد المعلومات, وباتت المعاملات المالية على الهواء مباشرة عبر البورصات والشاشات أكبر حجماً وأكثر خطراً من المبادلات السلعية!

والشيء نفسه في المجال العسكري, فلم تعد الجيوش الكبيرة هي الأقوى, ولكنها الجيوش المتقدمة تكنولوجيا.. الآن, يعرف العالم الطائرة بلا طيار (!), ويعرف (الحرب عن بعد), من خلال الصواريخ ودون التحام على الإطلاق, والآن تزداد القوة التدميرية للأسلحة لتنجز ما كانت تنجزه جيوش ضخمة في الحرب العالمية الثانية, تفعل ذلك في دقائق أو ساعات.

كل شيء يتغير, والخطير أن التناقض يتسع بين شمال العالم وجنوبه في ظل عنصر السكان وعنصر تركـّز الثروة والمعرفة.

في تقرير التنمية البشرية الذي أصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام (1999) أن (20%) من سكان الأرض يحوزون (86%) من الناتج المحلي للعالم, وأن النسبة نفسها من السكان تتميز في أنماط حياتها ومستوى معيشتها في مختلف المجالات, حتى مجال الغذاء, فهي تستهلك ما يوازي (16) ضعفا لما تستهلكه النسبة نفسها من سكان الأرض الأكثر فقراً!

هذا البون الشاسع يزداد اتساعاً بالتقدم, ويساعد على ذلك تناقص عدد السكان, فكلما قل العدد زاد نصيب الفرد من كل شيء!

والظاهرة هنا مؤشر تقدم وإنذار خطر, سوف يزداد حظ الأوربي من الحياة, ولكن وبسبب البون الشاسع مع الآخرين, سوف تزداد ضغوط الجنوب وتزداد حدة التوتر في العالم الذي ينقسم الآن إلى عالمين رغم ما يستهدفون من عولمة تفتح الحدود وتصنع واقعاً جديد أو تجعل الكل في واحد!

السؤال, ومع شمال يزداد تقدماً ويقل سكاناً, وجنوب يسير على عكس ذلك في كثير من مواقعه, السؤال: هل يصبح الجنوب مجرد سوق للشمال وفناء خلفي يتلقى النفايات والإحسانات وكلمات الرثاء?

السؤال ينطبق أكثر على إفريقيا, فناء أوربا الخلفي وجارتها جغرافيا.

 

محمود المراغي