شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

الغياث من الصليبيين .. يا خير الدين!

كان رجال محاكم التفتيش والسفّاحون من الصليبيين, وهم يطاردون مسلمي الأندلس بعد سقوط غرناطة ويلقون بهم في البحر, يسمون خير الدين ورجاله (قراصنة) بحريين, بينما المسلمون, المطاردون الباحثون عن الغوث والإنقاذ من طغيان رجال فرديناند وإيزابيللا, يعتبرونهم منقذين للإسلام والمسلمين, وكان النداء الذي يصعد إلى عنان السماء من المغرقين أمام جحافل الطغيان هو: (الغوث الغوث يا خير الدين.. يا بطل البحار وحاكم الشمال الإفريقي... الحق بنا برجال أساطيلك الإسلامية قبل أن يجرفنا تيار الغدر والخيانة والتقتيل).

ولم يكن خير الدين قائد أساطيل البحر ليستطيع أن يسد أذنيه عن تلبية نداء المستغيثين, ولم يكن يهمه أن يصفه السفاحون الصليبيون المولغون في دماء المسلمين بالقرصان, فما كان هو ورجاله قراصنة بحر, بل كانوا قباطنة وأصحاب سفن وبحّارة يكثفون عملياتهم البحرية ضد الإسبان بصفة خاصة, وضد التجارة الأوربية الصليبية بوجه عام, لنجدة المغاربة المسلمين الذين يعيشون تحت الحكم الاستبدادي الإسباني في الأندلس, وخلال سنوات قليلة بداية من عام 1514 كان رجال البحر الأتراك بقيادة الفتى العملاق خير الدين مع شقيقه رجل البحار عروج (راجع العربي العدد 307) قد أخذوا طريقهم على طول سواحل الشمال الإفريقي لينقضّوا من هناك على سفن الأعداء, متخذين قواعد لهم على الشواطئ التونسية والجزائرية والمغربية موئل إمداد لهم بالتموين والرجال لمواصلة شن الحملات على السفن الإسبانية, وخاصة من القاعدة البحرية في الجزائر التي نصبوا خير الدين نفسه حاكماً عليها.

ذو اللحية الحمراء

كان خير الدين من الشخصيات الشجاعة النادرة, وكانت الجزائر, والشمال الإفريقي عموماً,تقع رسمياً تحت تبعية الخلافة العثمانية, وكان خير الدين يتمتع بذكاء وبراعة نادرين في الحكم كما في الحرب, وكان في مظهره ومخبره شخصية قيادية مغامرة بطبعه, ملكي الملامح, متين البنيان, كثيف شعر الرأس والذقن, وقبل أن يشيب شعر رأسه وذقنه, كان يميل إلى الاحمرار حتى سمّي (بارباروسا) وهـي تعني (ذا اللحية الحمراء).

لم يلبث خير الدين إذن أن تابع الكفاح ضد القوى الصليبية والتجارة الأوربية في البحر المتوسط, وكان لا بد له منذ البداية أن يوطد سيطرته على طول الساحل الإفريقي, وكان يدرك أن الصراع بين مسلمي شمال إفريقيا والقوى الأوربية صراع مصالح بين قوى كبرى, وأن الدخول في الدولة العثمانية والإفادة من إمكاناتها الكبرى في الدفاع عن شمال إفريقيا سيتيح له فرصة أكبر للنصر.

وكان كل من السلطان سليم وخير الدين ينظر إلى الموقف من وجهة نظره, وقد أدرك سليم وهو يعمل على إقرار حكمه في كل من الشام ومصر, مدى أهمية بقاء خير الدين متنفذاً على الجناح الغربي لدولته في شمال إفريقيا, مهدداً للثغور الإسبانية لضمان المصالح التجارية للدولة العثمانية.

وهكذا تم التلاقي بين الرجلين, فقد أعلن خير الدين ولاءه للسلطان العثماني الذي أقرّه بالتالي والياً على الجزائر من قبل السلطان, وكان ذلك يعني للوهلة الأولى أن الإمبراطورية العثمانية قد أصبحت صاحبة الولاية والنفوذ الفعلي على كل الشمال الإفريقي, وأصبح خير الدين بذلك رجلاً من كبار قواد الدولة العثمانية في البحر المتوسط.

الكارثة على الصليبيين

في يوم عيد سانت بارتلوميو 24 أغسطس 1519 وصل الأسطول الإسباني إلى مياه الميناء الجزائري, وهناك وقعت الكارثة.

فبعد أن نزلت بعض القوات إلى الشاطئ, انقضت عاصفة رهيبة على الأرمادا الإسبانية, أفلتت السفن من المراسي, وتلاعبت الريح الهوجاء بالسفن فانفك عقدها, وتحطمت حاملات المجاديف تحت ثقل الماء, والناقلات الثقيلة اندفعت لتتكسّر على صخور الشاطئ, بينما تسابقت السفن الحربية لتبتعد عن السواحل إلى عرض البحر, وغرق مئات الرجال, ودمّر أكثر من عشرين سفينة, والذين استطاعوا النجاة من الغرق وقعوا أسرى في أيدي المسلمين, وكانت الحصيلة كما حددها المؤرخ الإسباني ساند أكثر من ثلاثة آلاف قتيل, إلى جانب أربعمائة أسير.

وهكذا تحقق النصر للمسلمين, وتغير وجه البحر المتوسط على يد خير الدين ورجاله المسلمين, وقامت الحصون والأبراج على طول سواحل المتوسط وثغوره للتصدي لنشاطات وحملات خير الدين ورجاله, وتشهد مدن التلال على امتداد الساحل من اليونان إلى إيطاليا إلى صقلية وسردينيا والبليار على الرعب الذي عاشت فيه القوى الصليبية والأوربية في هذه المدن من خير الدين.

في ذلك الوقت, كانت القوتان الوحيدتان اللتان تسيطران على طرق التجارة في البحر المتوسط هي الإسبان وأساطيل خير الدين الذي كانت قواته تتزايد بوفود المقاتلين الذين أنقذهم خلال حملاته من الاستعباد الإسباني, فردّوا له الجميل بأن أبلوا أحسن البلاء في حروبه ضد الإسبان.

البحّار الأعظم

أصبحت الجزائر تحمل اسم (المدينة التي لا تُقهر) واستطاع خير الدين أن يوطّد نفوذه في الجزائر بعد أن تمكن عام 1929 من الاستيلاء على القلعة التي كانت لاتزال في يد الإسبان, الأمر الذي جعل الملك الإسباني يوجه ضده عام 1531 حملة بحرية كبيرة بقيادة أندريا دوري القائد الجنوبي, ولكن المقاومة القوية والدفاعات الصامدة التي واجهه بها خير الدين جعلت دوريا يفشل في تحقيق هدفه. وكانت انتصارات خير الدين قد جعلت السلطان ينصبه قائداً أكبر للبحرية العثمانية, وقد استطاع خير الدين وعلى مدى سنوات أخرى أن يحقق انتصارات جديدة على شارل الخامس ملك الإسبان الذي فقد خلال المعارك أغلب سفن أسطوله, وأصبح خير الدين في نظر الجميع أعظم بحار في عالمه, وحين مات, أقيم باسمه مسجد من أجمل مساجد إستانبول وبالقرب منه ضريح يطل على البحر الذي عرفه طويلاً كسيد للبحار.

 

سليمان مظهر