جمال العربية

جمال العربية

صريع الغواني والعيون النجل

يقولون إن الخليفة العباسي هارون الرشيد هو الذي لقبه بصريع الغواني لقوله:

وما العيش إلا أن تعيش مع الصبا

صريع حميا الكأس والأعين النجل

أما هو: مسلم بن الوليد الأنصاري ـ المتوفى عام مائتين وثمانية هجرية ـ فقد عب من مباهج الحياة ولذاتها، وأنفق الكثير على ملذاته ومسراته، وتقلب بين جنبات عيش ناعم، وحياة رخية، تمتلئ بالشراب والنساء، وتفعم بكل ما يحرك شهوات الحس، ويثير حميا اللهو والمجون.

ولد مسلم في الكوفة ـ في أواسط القرن الثاني الهجري ـ واختلف إلى مسجد الكوفة ومجالس العلم والأدب بها، حيث بدأ تعلقه بالأدب والعلم، ونطقه بالشعر الذي حلقت به موهبته بعد أن صقلها بكثرة الحفظ والرواية.

وعندما ذاعت شهرته وامتدت إلى أمصار العراق، طمحت نفسه إلى العاصمة بغداد حيث علية القوم وكبار القادة والأمراء والوزراء. وامتدت إليه يد الحفاوة والتشجيع فاتصل ببعض كبار ممدوحيه، حتى كانت نهاية المطاف وصوله إلى مقام الخليفة هارون الرشيد.

وبين يدي الرشيد، وتحت ظلاله، وفي حمايته، توالت تجليات مسلم بن الوليد، شعرا يتجاور فيه ماء الموهبة والفطرة مع فنون الصنعة والبديع، وتتآزر فيه متانة الصياغة وإحكام البناء مع رقة التناول وإبداع التصوير، وتتداخل فيه روح البادية والموروث الشعري مع فوران الحياة البغدادية العصرية، وإيقاعها الجياش.

هكذا قدر لمسلم بن الوليد، ولفنه الشعري، أن يشغلا مساحة كبيرة من اهتمام الخاصة والعامة، في عصر كانت تتلألأ فيه نجوم وشهب شعرية ساطعة في مقدمتها (أبوتمام والعباس بن الأحنف وأبو العتاهية ودعبل الخزاعي وإبراهيم الموصلي وابن الدمينة وغيرهم عبر أزمنة تتقارب أو تتباعد أو تتقاطع. وأصبح شعر صريع الغواني أو صريع الأعين النجل علامة على الافتنان في الغزل والتشبيب وشكوى الهيام والصبابة، ووجدت العيون البغدادية الساحرة في شعر مسلم بن الوليد معادلها التصويري، ومصورها البارع وفتنتها الطاغية:

أما كفى البين أن أرمي بأسهمه

حتى رماني بلحظ الأعين النجل

مما جنى لي ـ وإن كانت منى صدقت

صبابة ـ خلس التسليم بالمقل

وحين يقدر لمسلم بن الوليد أن ينتقل في أخريات أيامه إلى إقليم جرجان، وأن يعاني لوعة الغربة والابتعاد، تناقلت الركبان بيتين من شعره يخاطب فيهما نخلة من نخل جرجان ويقول:

ألا يا نخلة بالسفح من أكناف جرجان

ألا إني وإياك بجرجان غريبان

ولم يكن يدري أنه قد قدر له أيضا أن يموت غريبا في جرجان إلى جوار النخلة التي بثها شكواه ولوعته.

والقصيدة التي نطالعها الآن لصريع الغواني تنعكس على مرآتها صورته المعابثة، ونفسه المولعة باللعب والمجون والمداعبة والمعاثبة، وتتوهج فيها شاعريته التعبيرية والتصويرية التي يحتشد لها بفنون من مهارة الصنعة الشعرية وألوان من التدفق الموسيقي والإيقاعي، والتناول الذي يبدو ـ لغير العارف ـ سهلا قابلا للمحاكاة والتقليد، لكنه يعجز من يحاوله. يقول مسلم:

كتابُ فتى أخي كلف طروب

إلى خود منعمة لعوب

صبوت إليك من حزن وشوق

وقد يصبو المحب إلى الحبيب

وقد كانت تجيب إذا كتبنا

فيا سَقْيا ودَعْيا للمجيب

تخط كتابها بقضيب رنْدٍ

ومسك كالمداد على القضيب

كتاب فيه لم وإلى وما إنْ

أُقضّى من رسائلها عجيبي

نُعمّيه على ذي الجهل عمداً

ولا يخفى على الفطِن اللبيبِ

وقد قالت لبيض آنسات

يصدن قلوب شبّان وشِيب:

أنا الشمسُ المضيئةُ حين تبدو

ولكن لست أُعرفُ بالمغيبِ

براني الله ربي إذ براني

مُبرّأةً سلمْتُ من العيوب

فلو كلّمتُ إنسانا مريضاً

لما احتاج المريضُ إلى الطبيبِ

وخلْقي مِسْكةٌ عُجنتْ ببانٍ

فلستُ أريدُ طيباً غير طيبي

وأعقدُ مئزري عقدا ضعيفا

على دعصٍ ركامٍ من كثيبِ

وجلدي لو يدبُّ عليه ذرُّ

لأدمى الذرُّ جلدي بالدبيبِ

وريقي ماء غاديةٍ بشهدٍ

فما أشهى من الشهد المشوبِ

فقلن لها صدقْتِ، فهل عطفتم

على رجلٍ يهيم بكم كليب

غريب قد أتاك فأطلقيه

فإن الأجر يُطلبُ في الغريبِ

فقالت: قد بدتْ منه هناتٌ

وقد تبدو الهنات من المريب

وصلناهُ، فكلّمنا (بِسَحْرٍ)

كذلك كلُ ملاقٍ خلُوبِ

وما ظلمت ولكنا ظلمنا

فقد تُبْنا إليها من قريبِ

فُتنا للشقاء بحبّ (سحْر)

كما فُتن النصارى بالصليب

غفرتُ ذنوبَها وصفحتُ عنها

فلم تصفحْ ولم تغفرْ ذنوبي

ولو أن الجَنوبَ تجيبُ عني

لأهديتُ السلام مع الجنوبِ

وقائلةٍ: أفق من حبّ (سحر)

فقلت لها: جهلْت فلم تُصيبي

أمرْتِ بهجرها سفهاً فتوبي

إلى الرحمن مما قلت، تُوبى

لا يا ليتني قاضٍ مطاعٌ

أفأقضي للمحبِّ على الحبيب

هذا هو الفضاء الشعري الذي تتنفس فيه قصيدة صريع الغواني مسلم بن الوليد: اقتناص للحظة المفعمة بالمتعة والمسرة، ونهم دائم بالجمال لا يروى ولا يشبع، وافتنان في التظرف والتقرب إلى الحسان يرمى عليهن شباكه ويتابع في إثرهن مغامراته ومعابثاته. ويمتلئ شعره ـ عندما نتصفح ديوانه ـ بهذه النشوات الحسية النهمة، وهذا الإحساس العارم بالحياة اعتصارا واستمتاعا:

ماذا على الدهر لو لانت عريكته

وردّ في الرأس مني سكْرة الغزلِ

جُرْمُ الحوادث عندي أنها اختلتْ

مني بنات غذاء الكرم والكِلل

ورُبّ يومٍ من اللذات مُحتضرٍ

قصّرْته بلقاءِ الرّاح والحُلل

وليلة خُلست للعينْ من سِنةٍ

هتكت فيها الصبا عن بيضة الحجلِ

قد كان دهري وما بي اليوم من كِبرٍ

شرْبَ المدام وعزْف القينة العُطُل

إذا شكوتُ إليها الحبّ خفّرها

شكواي، فاحمرّ خداها من الخجلِ

كم قد قطعتُ وعينُ الدهرِ راقدةٌ

أيامه بالصبا في اللهو والجَذل

وطِيبُ الفرْع أصفاني موّدته

كافأتهُ بمديح فيه مُنتخل

شعر صريع الغواني يذكرنا بالبديعيين الكبار وعلى رأسهم أبو تمام، كما يقدم لنا القصيدة النموذج التي كان بشار بن برد يلهث وراءها، وحين سئل عن سبب تفوقه على أهل عصره في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه كانت إجابته المشهورة التي أصبحت دستورا لاتجاه جديد في الشعر ونموذجا جديدا مغايرا: (لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي، ويناجيني به طبعي ويبعثه فكري. ونظرت إلى مغارس الفطن، ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات، فسرت إليها بفهم جيد، وغريزة قوية، فأحكمت سبرها وانتقيت حرها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت من متكلفها، ولا والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما آتي به).هذه الإجابة التي أفضى بها بشار بن برد ـ كاشفا عن أسرار إبداعه الشعري وتجديده الفني ـ تلقي ضوءا ساطعا على تلميذه في الشعر من بعده: مسلم بن الوليد، وتتيح لقراء شعر مسلم نفاذا إلى بنيته الداخلية، ومعرفة دقيقة بدأبه في مراجعة صياغته وصولا بها إلى مستوى الإحكام والإتقان. وبالرغم من هذه الصنعة الشعرية البديعية عند مسلم، فإنها لم تطغ على ماء الشعر لديه، وظل لهذا الشعر طواعيته وانسيابه وتدفقه دون عنت أو مشقة، كما احتفظ بحرارته ووهج تأثيره.

يقول مسلم:

خلوت بها والليل يقظان نائم

على قدمٍ، كالراهب المتبتل

فلما استمرت من دجى الليل دولة

وكاد عمود الصبح بالصبح ينجلي

تراءى الهوى بالشوق، فاستحدث البكا

وقال للذات اللقاء: ترحلي

ويأتينا صوته من الزمن البعيد السحيق، محتفظا بروائه وطلاوته شأن كل إبداع حي لا تبلى جدته وهو يقول:

تكاتم القمر الوجه الذي ضمنت

والوجه منها ترى في مائه القمرا

ثم افترقنا فضمتنا سرائرنا

دون القلوب، وفاء العهد، والخطرا

لم نأمن الليل حتى حين فرقتنا

كأنما الليل يقفو خلفنا الأثرا!

ويا لها من لوحة شعرية فاتنة، عامرة بالإبداع في التعبير والتصوير!

 

فاروق شوشة