والأمة كلها في
قلق وخوف وحيرة، وهي ترى نذر الشر تطلع عليها مـن كل جـانب دون أن تعرف لها سببا
واضحا، ودون أن تملك الوسائل الفعالة لاحتوائها والقضاء عليها، ثم ترى كل يوم أمنا
يهتز، ودما يسيل، وعداوات تزرع، وطاقة تتبدد في غير قضية.
كل ذلك والأمـة
على مفترق طرق، وعلى أبـواب مستقبل كـانت ولا تزال تطمح إلى أن تجعله أكثر أمنا
واستقرارا وازدهارا، وأن تتخلص فيـه من مشـاكلها الكبرى، لتنطلق- مع شعوب الـدنيـا
كلها- إلى حيث الرخاء الذي طال انتظاره، والسلام الذي افتقده العرب والمسلمون عشرات
طويلة من السنين، والمشاركـة في بناء الحضارة العالمية على قدم المساواة مـع سائر
الأمم والشعـوب بعـد أن جـرى "تهميش " دور العـرب والمسلمين، ومحاولة ردهم إلى
مواقع التراجع والتبعيـة للقوى الكبرى صاحبة الدور الأكـبر في تحديد معالم النظام
العالمي الجديد.
فض
الاشتباك
العنف الذي
نتحـدث عنه في هذه السطور له أشكال متنوعة وأسباب متعـددة، فمنه عنف تشتبك فيه
فصائل وأحـزاب متناحرة، على نحو ما جـرى في الصومال وأفغانستان، ومنه عنف يتخذ شكل
مواجهات حادة بين بعض الحكومات وبين حـزب أو أحزاب تختلف معها في المنهج أو تنازعها
مقاعد الحكـم ومقاعد النيـابة عن الشعب على نحـو مـا جرى ويجري في الجزائر، ومنها
مواجهات عديدة مع الحكومات وصور غريبة من العنف العشوائي، يرفع القائمون به شعـارات
إسلامية، ينفتح معها البـاب على مصراعيه، لانقسـام الأمـة على نفسها حول قضيـة
الدين ومكـانه في المجتمع ويوشك معها الإسلام أن يتحول إلى قضيـة أمنية، تختلط فيها
الأوراق وتمتزج فيها المخاوف بالهواجس المتوهمة وتوزع فيها الاتهامات بغـير حساب.
ويسقط معها المجتمع كله في "فتنة" لا يعرف العقلاء طريق الخروج منهـا. وهذه الصورة
الأخيرة من صـور العنف هي وحدهـا التي تشغلنا في هذه السطور، وهي التي طالما دعونا
في شأنها إلى ما سميناه "فض الاشتبـاك " بين التيـار الإسلامي والحكومات وكان في
وعينـا ونحن نوجه ذلك النداء أمران:
أولهما: أن جزءا
- على الأقل - من المواجهة بين التيار الإسلامي الشعبي وبعض الحكومات العربية يرجع
إلى أطـراف أخرى يعنيها بقـاء الأمة العربية والإسلاميـة مشغولة بنفسها، منقسمة على
ذاتها، ولذلك قدرنا أن في فض الاشتباك إحباطا لمسعى تلك الأطراف، وعودة إلى معالجة
قضية التطرف "الفكـري" والانقسام الثقافي في إطار رعاية المصـالح الحقيقية للأمة
بعيدا عن التأثر بمصـالح الآخـرين والـدخـول في مخططـاتهم "الاستراتيجية" لتطويع
العرب والمسلمين.
ثانيهما: أن أكثر
أطراف الاشتبـاك لا تدرك على نحـو كاف طبيعـة المواجهات التي يستخدم فيها العنف،
وأن لتلك المواجهات قوانينها الداخلية التي تؤدي إلى تصاعد مستمر لموجـاتها يجاوز
اختيار أطرافهـا، ويخرج الحالة السياسية والأمنية من نطاق سيطرة تلك الأطراف تماما.
بمعنى أن الحكـومات وأجهزتها الأمنية قـد تعمـد إلى تصعيـد المواجهة بالعنف تصعيـدا
محسـوبا تنوي ألا تتجـاوزه كثيرا، ولكن ردود الفعل المتبـادلـة تصل بالمواجهة إلى
كـم وكيف يتجاوزان كثيرا تلك النوايا، ويخرجان الموقف كله عن سيطرة أطرافه، فإذا
بالمجتمع كلـه غارق في دوامة عنف متبادل تفقـد معها الجـماهير ثقتها في أطراف
الاشتباك جميعـا وتتهيأ لقبول قـوى جـديدة وأوضـاع جـديدة لم تكـن في الحسبان.
وبذلك يكون خطر الوقـوع في "المجهول " أحد الأخطار الكبيرة التي تترتـب على التقصير
والتراخي في فض الاشتبـاك وقطع الطريق على مسيرة "العنف المتبادل".
العنف المتبادل..
وماذا بعده؟
وعلى جانب
"الجماعات الإسلامية" التي قد تلجأ إلى العنف دفاعـا عن مقولاتها وأهدافهـا ذات
الطابع الإسلامي، فإن التورط في العنـف والتراخي في الاستجابة لدعوة فض الاشتباك
يحملان في طياتهما خطرا آخر هو انتقال " التصعيد" من أطرافه الأصليين ليشمل أطرافا
أخرى. فالمواجهة مع جماعة أو جماعات سياسية معينة قـد تتحول - إذا استمرت - إلى
مواجهة مع دوائر أوسع وجماعات أكثر، ذلك أن العنف المتبادل تنشأ له - إذا استمر -
خـاصية جـذب يمكن أن تشد إلى دائرته أطرافا وجماعات لم تختر أبدا أن تكون طرفا في
المواجهات القائمة، أو شريكا مـع أحد أطرافها في ممارسة العنف وأساليب المواجهة،
يساعد على ذلك كثيرا في خصوص المواجهة مع الجماعات السياسية التي ترفع شعارات
إسلامية أن الحدود غير قائمة ولا واضحة بين فصائل العمل الإسلامي المختلفـة، وأن في
المجتمع أو خارجـه جماعات وقوى يعنيها أن تستهلك جميع تلك الفصائل الإسلامية في
المواجهات القائمة، وأن تمتد محاولات "التصفيـة" من ظاهرة "العنف" إلى ظاهـرة
"التطرف الفكري وأن تشمل- إذا أمكن- ظاهرة التدين ولو كان معتدلا، وذلك تحت شعار أن
"العنف " ليس إلا مرحلة حتمية لا بد أن يصل إليها المتطرفون فكريا، وأن التطرف
الفكري ليس بدوره إلا مرحلـة وحالة يمكن أن يصل إليها جميع المتدينين.
وهكذا يبدو لنا -
في وضوح كامل - أن الوقف السريع لمسلسل العنف المتبادل والاستجابة الفورية لدعوة
"فض الاشتباك " هما الضمان الحقيقي لتجنب تلك الأخطار غير المحسـوبة، وهي- كـما
قلنـا - أخطار تجاوز أطـراف الاشتباك ويدفع ثمنها المجتمع كله.
تجربة
الحوار
فوق ما تقدم
جميعه، فإننا - وقد دعـونا من قبل مرتين على صفحات هذه المجلة إلى فض الاشتباك
القـائم بين الحكومات العربية والإسلامية وبين الجماعات السياسية التي تدعـو إلى
تطبيق برنامج إصلاح إسلامي - نضيف اليوم حجـة جديـدة نسانـد بها هذه الدعوة
ونجـددها. ومؤدي هـذه الحجة الجديـدة أن "الحوار" الحقيقي لم يجرب تجربة كافية بين
أطراف الاشتباك القائم، والسبب في ذلك أن جزءا كبيرا من مواقـف تلك الأطراف قـد
حددته الهواجس والمخاوف والظنون السيئة أكثر مما حددته الحقـائق والمعلومات الثابتة
والفهم الصحيح لمواقف ومطالب الأطراف الأخرى.
إن الهاجس الأكبر
الذي يحرك الحكومات ويدفعها إلى تلك المواجهات هو الاعتقـاد بأن جميع فصـائل العمل
الإسلامي تسعى في النهـاية إلى تغيير النظـام السيـاسي والاجتماعي بالقوة
وباستخـدام الوسائل الانقلابية، وأن قيامها بالدعوة النشطة بين أفراد المجتمع ليس
إلا خطوة أولى تعقبها مباشرة محاولة انقضـاض على النظم القائمة بأكثر الـوسائل
بعـدا عن الديموقراطية، وذلك فور نجاحها في حشد عدد كاف من الأنصار، خصوصا إذا
أفلحت في الوصول بأولئك الأنصـار إلى بعض المؤسسات السياسية والمنظمات الاجتماعية
أو النقابية ذات التأثير..
أما الهاجس
الأكبر الذي يحرك بعض "الجـماعـات السيـاسية" الإسلامية إلى استخـدام العنف فهو
اعتقاد مقابل مؤداه أن الحكومات تسعى بإصرار إلى "التصفية الجسـدية" لكل فصائل
العمل الإسلامي، متذرعة بدعاوي التطرف والإرهاب، وأن المستهدف النهائي إنما هو
الإسلام ذاته كعقيدة وشريعـة ونظام للحياة، وبذلك يدخل استخدام العنف وأسـاليب
المواجهـة بالقوة من جانب تلك الفصائل، في وعي أفرادها واعتقادهم، دائرة "الدفـاع
المشروع عن النفس " وعن العقيـدة والحقيقة وعن الحق في الدعوة إليهما.
المخططون..
والأدوات
دعوانا في هذه
السطور أن الحوار لم يجرب تجربة كافية دعـوى لا تسقـط من حسـابها ذلك الكم الهائل
من الحوارات والندوات التي تمتلئ بها الساحة الثقـافية والسياسيـة في جميع البلدان
العربية والإسلامية، والتي يبحث المشـاركـون فيها أسبـاب العنف ودوافعه، ويقدمون
خـلالها تصورات عـديدة لأسلوب محاصرة العنف سعيـا إلى تصفيته، فأطـراف "الاشتبـاك"
لا يشاركون عادة في تلك الحوارات، ولا يتحـدث أحدهما مع الآخر. وإنما يتحدث كل
منهما "عن " الآخر دون أن يحاول التوصل إلى فهم حقيقي لموقفه، ومخاوفه، ومطالبه
ودون أن يقدم له عرضـا "حقيقيا" للمصالحة التي ينتهي بها الاشتباك.
وفوق ذلك كله،
وأهم منه، فإن الحديث في أكثر هذه النـدوات يتجـاهل الأطـراف الحقيقيـة التي يجب أن
تشـارك، ونقول تحديـدا إن الجانب الأكبر من البحث داخل هذه الندوات واللقاءات يدور
حول "المخططين " لحوادث العنف، وحـول "الأدوات " التي تقـوم بتنفيذ تلك الحوادث،
دون أن يشغل نفسـه بـالجانب الأكبر حجما والأكثر عـددا، وهم الشباب المتدين الذي
يتوجه بنية طيبـة وقصـد نبيل إلى إقامـة حيـاتـه على مبادئ الإسلام وأحكامه، ثم
يدعو مجتمعه - بعد ذلك - إلى اتخاذ تلك المبادئ أساسا للنهضة ومنهجا للإصلاح. إن
جانبا من هؤلاء الشباب يتعرضون - عبر مسيرتهم هذه - لتوجيهات خاطئة، وتفسيرات لنصوص
القرآن والسنة لا يرتضيهـا العلماء، تميل بهم عن الطريق السوي في الإصلاح، وتزين
لهم أساليب في العمل العام تلتقي مع المبادئ الكبرى للإسلام، ولا يمكن أن تتسع لها
صدور الحكومـات. وبهذا الميل تبدأ الفجـوة بين أولئك الشباب الدعاة وبن مجتمعاتهم
وحكوماتهم في الاتساع، وتتهيأ الساحة للمواجهات التي تبدأ هادئة أول الأمر ثم تزداد
حدتها ويتسلل إليهـا العنف، عـبر المخاوف المتبادلـة، لتصل بالفريقين في النهاية
إلى المواجهة والصدام.
قبل الضياع
الكبير
لهذا كله، نجـدد
في هذه السطور دعوتنـا إلى الحوار، منتبهين. إلى أن هذه الدعـوة تتردد الآن، وقـد
امتـلأت الساحـة بالمخاوف وسوء الـظن، وتصور كثيرون - لذلك وبعد ما وقـع من أحداث-
أن أوان الحوار قـد مضى وفات، ولكننـا نقول - عن علم بما نقول - إن الأوان لم يفت،
ولا يفوت أبدا، مادام فينـا راشدون مخلصون قـادرون على تذكـير الأطراف جميعا
وتذكـير الأمة كلهـا بمدى الخطر الـذي يتهددنـا في أمننـا واستقرارنا ودمائنا،
وتذكيرهم كـذلك بحجم الضياع الكبير الـذي يسببـه انشغـالنـا بهذه الآفـة الطـارئة
عن التوجـه بكل ما نملك من قوة وجهد نحـو تحقيق المعالم الحقيقيـة للنهضـة التي
يتطلع إليها كل العـرب وكل المسلمين، نهضة تشحـذ من أجلهـا العقول، وتحشـد القوى،
وتتجمع الصفوف.
وتبقى في نهاية
هذا الحديث كلمتان:
الأولى: أن ريـاح
التغيير والتوجـه إلى المستقبل تلف الدنيا كلها، وعالمنا العربي والإسلامي لن يكون
استثناء يتمرد على تلك الحقيقة، ولنتذكر أن الظواهر، ما نحب منها وما نكره، قد صارت
عابرة للحدود، متنقلة عبر القارات. وأن التوجه الخاطئ في معالجة ظاهرة العنف قد
تمتد آثاره السيئـة لتصيد مجتمعات عربية وإسلامية تظن - حتى الآن - أنها بمنجاة من
هـذه الظاهرة، ولنذكر بكل الصـدق والصراحـة أن شكـاوى بعـض فصـائل الاحتجاج
والمعارضـة السياسيـة تجد لها أصـداء لـدى الجماهير، لأنها تسلط الأضواء على ثغرات
حقيقية تشكو منها تلك الجـماهير، وأن الوسيلـة المثلى لقطع الطريق على هذه الأصداء
إنما هـو التصدي بحزم وجدية، لسد هذه الثغرات ومعالجة أسباب تلك الشكوى، وليس في
شيء من ذلك تنـازل يضعف الحكـومات، وإنما هـو إصـلاح يستجيب لمطالب الرعية، وتقوى
به الحكومات.
الثانية: أننا
إذا أعرضنا عن هذه الدعوة، وتصورنا أننا قادرون على محاصرة الظاهرة والتخلص منها
بجهـود أمنيـة خـالصة، فإننا بـذلك نقطع الطريق على سائر الوسائل السلمية في
الإقناع، وفي ممارسة العمل من أجل التغيير، ونفتح أبواب صراعات لا آخر لها، بما
نعلمـه لأجيال الشباب من أن "الكلمـة الطيبة" و"الجدال بالتي هي أحسن " لم يعودا
قادرين على حسم الخلاف وإصلاح ذات البين، وفي ذلك ما فيـه من دعوة إلى ممارسة
التغيير عن طـريق الضغط والقسر وتجاوز الحدود. إنـه بغير التوجه في صـدق وأمانة،
وعقول مفتوحة وصدور واسعـة إلى الحوار المسئول حول قضـايا الأمة، وبغـير الرضا
بنتـائج هـذا الحوار، فإننا لا نرى للعنف الذي نشكو منه آخر، ولا نهاية، بل نرى له
أمـواجا تتلوها أمواج، تدفع الأمة كلها ثمنها الباهظ، وتضيع معها - إلى أجل غـير
مسمى - فرص النهضة و إصلاح الحال.