السعار أحمد الشيخ
ربما لم أكره في حياتي كلبا من كلاب هـذه الدنيـا الواسعة قدر كراهيتي لذلك الكلب الذي فاجأني بنباحه الشرس وأنا أقف أمام بيت أبي، أنادي وأنا أشعر بالخوف فيوشك صوتي أن يتوه ولا يظهر له أي أثر بسبب النباح المتواصل العنيد وكأنه يطردني، كانت زوجتي تقف ورائي وهي تحمل الولد النائم على صـدرها، تتباعد إلى الـوراء فأتباعـد مثلها كلما قفز الكلب المربوط بسلسلة ناحيتنا وهو ينبح، ينبح ويقفز فنتراجع إلى الوراء خطوة جـديـدة مخافـة ان تنقطع السلسلـة أو أن تنفك، ولولا الخجل لاستـدرت راجعا من حيث جئنـا لأتخلص من خـوفي، ربما لم يطل الوقت كثيرا لكنه كان كافيا لإفساد فرحتي المأمولة وأنا أفاجئ أبي بالمجيء ومعي زوجتي وطفلي الصغير. لأول مرة وقد تكبدنا مشقة السفر الطويل والسفر القصير وسخونة الشمس، سمعت صوته الآمر من الداخل قبل أن أراه بجلبابه الأبيض وطاقيته البيضاء، والكلب يستجيب ويستدير، يتقافز حوله في خجل ولا يقترب، يهز ذيله أو يقع على الأرض في طريقه وأبي يتباعد عنه ويتجه ناحيتنا، يفتح صدره ويحتوينا بحنو ودهشة وفرح فأنسى في المسافة بين عتبة الباب وعتبة حجـرة المسافرين كل ما فعله الكلب.
كنت أشعر بالزهو وأنا أشهـد فرحة أبي بالـولد الذي كـان قـد تعلم أن يمشي بضع خطوات دون مساعدة، يمشي فيصفق له أبي ثم يحمله بكلتا يديه ويرفعه إلى أعلى، يقذفه ويلتقطه والولد يضحك بينما زوجتي تهتز وتلهث مثلما تفعل قبل أن تعترض، كان الولد يمشي ويحصل على المكـافأة أحضـانا أو قبلات أو رفعا إلى أعلى، قـذفـا والتقاطا، ثم جـاءهما الكلب ليشارك فلم يمانع أبي، وضع الولد فوق ظهر الكلب راكبا فضحك الولد بفرح أكثر، مد يديه وشد ذيله ثم استدار وشد أذنيه وضربه والكلب مستسلم وساكت في وداعة، كأنه كلب آخر غير ذلك الذي أخافنا منذ وقت قصير، كان كلبا بارعا وذكيا يؤدي دوره بإتقان، ولا بد أنه من تلك السلالات الراقية التي يستعين بها البوليس في اكتشاف الجرائم ونراها في الأفلام الأجنبية فنشعر بالرهبة أو الانبهار.
استدعت زوجتي قطتها الوهمية ونونوت عدة مرات فـانكمش الـولد بسببهـا وكف عن البكـاء، كـان الكلب يرفع أذنيـه إلى أعلى منتبهـا وهـو يستمع المواء الزائف ويكتشف زيفـه رغم براعة التقليد، بينما الولد ما زال يبكي بشكل متقطع ويداري وجهه في صدرهـا، يلهث ويتبـاكى ثم يسكت عندما يسمع صوتها تحدث قطتها الوهمية تستدرجها أو تؤنبها أو تطردها من المكان بنفس الطريقة المكرورة:
- تعالي يا قطة، ابتعدي يا قطة، سينام الولد يا قطة، من قال لك إنـه يبكي؟ ابننا المؤدب ساكت يا قطة، لا بد أنه ابن الجيران الذي يبكي يا قطة، اخرجي من عندنا يا قطة، سوف تخرج القطة، خرجت القطة وقفلنا بابنا ونام الولد.
وكـما يحدث دائـما لتنويم الولد لعبت هي نفس الدور بين الدندنة والهدهدة والتخويف حتى سكت تماما وكف عن الحركة تناوما يسبق النوم الحقيقي بفترة من الوقت، كان أبي ينظر وينتظر في قلق وعندما سيطر الصمت قطعه وقال لزوجتي آمرا:
- خـذيه إلى الحجرة الداخلية ونامي إلى جـواره حتى يطمئن ويغطس في النوم وهو في حضنك.
نظرت نحـوي في احتجاج مكتوم قبل أن تحمل الـولد بعصبية وتخرج من المكـان، قـام أبي بهمة وأغلق بـاب الحجرة وراءها وسكها بالترباس، واجهني وهـو يومئ ناحية الباب المسكوك هامسا:
- شكلها جميل لكنها لا تناسبك كما كنت أظن.
واصل كلامه بنفس الصوت:
- لا تخلف منها غير هذا الولد، أمومتها كاذبة.
كدت أرد عليه مدافعا عنها لكنه واصل بصوت مرتفع ومفاجئ:
- هل سألت عن أصلها وفصلها؟ هل تعرف فصيلة دمها؟
حيرتني أسئلته فلـم تطاوعني الأجوبة، أرحت نفسي بالسكوت واحتملت توبيخه لي، وكـان صوته يرتفع أكثر وأكثر يتهمني بعدم الوعي وسوء الاختيار. وكأنه يبلغها برأيه فيها وفى زواجنا، ولا بـد أنها كانت تسمع كل شيء مثلما أسمع لأن صوت خطواتها وراء الباب المسكـوك كان يعلن عن وجودها خلفه.
حدثت زوجتي عن ضرورة الكف عن تخويف الولد من قطتها المزعومة، وافقتني بحماس وتعهدت بتنشئة الولد شجاعا لا تخيفه قطة أو كلب أو حتى أسد، فرحت بها وحدثتها عن طفولتي المبكرة في قريتنا البعيدة قبل أن نذهب إلى المدينة، ذكـرت لها ما كان يوم كنت أرمح في وسط الدار أطارد الأرانب المذعورة والطيور الهاربة من عود حطب جاف كنت أهش به عليها، وكيف أنني كنت لأسباب لا أعرفها ألبس قميصا بلا سروال وأنه حدث أن استدارت أوزة مذعورة ورمحت ورائي ثم عضتنى في مؤخرتي فأدمتها وأصابتني بالرعب، كنت أصرخ وأبكي وأتوجـع وقد جاءت أمي وجدتي لأبي وخالاتي وبنات خـالاتي، كنت صغيرا وكلهن كبـار يضحكن من عري مؤخرتي وعضة الأوزة، وقلت لها كيف أنني بعد ذلك لم أتنازل عن سروالي أو كف عن الـرمح فرارا إذا رأيت سرب أوز سارح في دروب القرية، بل إنني مازلت أشعر بالخوف من أي أوزة تفتح منقارها أمامي.
ضحكت زوجتي واشفقت على الطفل الـذي كنتـه وتمنت لو كان هناك من الزمان والمكان لتذبح تلك الأوزة وتلطخ بدمها كل جدران الدار.
فتحت باب الشقة لأخرج فوجدته يقف قبالتي، وكان الولد ورائي يتبعني بخطواته الصغيرة ليشير إلي مودعا بيده الصغيرة مثلما يفعل عندما أخرج في الصباح لكنني فوجئت بصرخته، استدار وانكفأ على وجهه فحملته أمه وحاولت إسكاته لكنه كان يبكي، يشير إلى القط الواقف في نفس مكـانه ويبكي، حاولت هي أن تطرد القط فلم تستطع، ظل واقفا في نفس مكانه ينظر في اتجاهنا بجسارة و يتزحزح عن مكانه، كان الولد ما زال يبكي في خوف وهلع وزوجتي تصرخ فيـه لتسكته ثم تلتفت نـاحيتي وتصرخ، تشير إلى القط وتصرخ وكأنها تشـارك الولد خوفه المرعوب، فكرت أنه من الممكن أن أخلص الـولد من مخاوفه، قلت لروحي إنه مجرد قط في نهاية الأمر، اقتربت من القط الواقف في نفس مكانه ينظر أو ينتظر، قرفصت ومددت يدي اليمنى نحوه بحذر وبطء والقط ثابت مكـانه وقـد ركز نظرة عينيه في عيني، بدا لي هادئا وأليفا فتحسست رأسه بحنو ونعومة، وبدا لي أنه اطمأن وسكن في مكـانه فأخذت يدي تمسح على ظهره عدة مرات استشعرت خلالها نعومة شعره ودفئه، كان الولد يقف ورائي مسنودا على كتفي بكلتا يديه وقـد كف عن البكاء، وربما زال خـوفه، يشير نحو القط وينطق حروفا مبعثرة لكنها فرحانـة، كـان القط يتمدد على الأرض ويتلوى في نعومة، يموء في استكانة والولد يقترب أكثر، يمد يده نحـوه ثم يخطفها بسرعة وهو يضحك وأنا ألاعب القط فيلاعبني، ولا أدري كيف تذكرت وبشكل خـاطف تلك الأوزة التي عضتني في مؤخـرتي مـرة فشعرت بقشعريرة فزع مفاجئ، ولا أدري إن كان القط قد استشعر خوفي أو أنني زودت ضغط راحتي على رأسه أكثر مما يحتمل فأحس هو بالفزع وعلى نحو مفاجئ انتفض وراح يخمش يدي بمخالبه في سرعة مباغتة ثم طال راحتي أسفل الخنصر وعضها بقسـوة فأدماها، ثم قفز من مكانه وفر هاربا ينزل درجات السلم في لمح البصر، ونظرت إلى ظهر يدي التعسة فوجدت مجموعة من الخطوط المتوازية والمتقابلة من الدم الناضح من آثار جراح المخالب بينما الأنياب الهاربة قد خلفت بؤرتين في كل ناحية تقطر الدم بوهن وهي محاطة بزرقة طارئة، كـانت يدي قد تشوهت على غير تـوقع منى أو منها أو حتى من الولد الذي انخطف وجهه وقد خاب أمله في فارس نصف جسور، أراد أن يبدو رائعا أمام من راهنوا عليه فسقط في شبر ماء أضحك عليه الناس أو سوف يضحكهم ولن يفيده الخجل، تـركت لها يدي تغسلها بالماء البارد وتسكتني عندما أتوجع، لكنها عندما رشت الجراح من زجاجة عطرها صرخت، كنت أشعر بكل كفي يلتهب، تسرح النار ويسرح اللهب صاعدا في كل الذراع حتى مفصل الكتف، وبالشـاش المعقم ربطت كتفي فجعلتني أشعر بالعار على نحو غامض.
قـال الطبيب الذي بدا لي حديث التخرج شديد التفاؤل والثقة:
- المسألة بسيطة ولا تستحق كل هذا القلق، أنت في حاجة إلى حقنة مضادة لميكروب التيتانوس وهي متوافرة في كل الصيدليات.
وقال الصيدلاني العجوز المحاذر:
- المسألة أخطر من مجرد حقنة مضادة لميكروب، اذهب إلى مستشفى الكلب فالجروح غائرة، خذ رأي الدكتور حسن. قالها وأشار إلى طبيب متوسط العمر كان يقف ورائي ويسمع الكلام، أشار الدكتور حسن لي كي أفك الرباط مرة أخرى ثم هز رأسه وقال من بين أسنانه:
- ما أعرفه هو أن السعار فيروس ينتقل مع الدم ويسكن في المخ، يتوقف الأمر بالطبع على نوع الحيوان وحالته، ومن الأفضل أن تسأل أخصائيا، أنا متخصص في طب العيون.
وقال الصيدلاني العجوز لطبيب العيون:
- يمكن أن يصاب بسعار القطط وينونو ويخمش ويعض كقط مسعور؟
سمعت الدكتور حسن يسأل ولم أسمع للصيـدلاني ردا، سرت حـائرا في أمـر نفسي حتى وصلت على غير إرادة مني إلى المكتب، سألوني عن يدي المربوطة فذكرت لهم ما جرى باختصار، طلب أحدهم مني أن أفك الرباط ليرى عمق الجرح ففعلت، قلب راحتي بين يديه وقربها من عينيه ثم قال:
- لا تشغل بالك فالحيوانات المستأنسة لا يصيبها السعار عادة، هي الكلاب الضالة وحدها التي تصاب بالسعار، أما القطط المنزلية فلا.
صححت له وأنا أربط كفي بنفس الرباط:
- كان قطا غريبا.
- قط الجيران مثلا؟ يمكن أن يكون قط الجيران.
- لا أعرف شيئا عن الجيران أو قطط الجيران.
ساد صمت ثقيل، كابوس، قبل أن يتدخل آخر بتكاسل:
- لو مات القط خلال اليومين القادمين فيحق لك أن تقلق، أما إذا عاش فلا خوف.
جاوبه الزميل العصبي الساكت طوال الوقت الفائت:
- أنت أحمق دون شك، إذا كان فيروس السعار يصل إلى المخ خلال ست ساعات من الإصابة وينعدم الأمل في أي شفاء، فكيف تطلب منه الانتظار يـومين ومعرفـة مصير قط لا يخصه أو يعرف عنـه أي شيء، قط ضال مسعور دون أدنى شك.
كانوا يتبادلون الاتهامات والآراء المتعارضة حـول إصابتي أو عدم إصابتي بالسعار ببساطة تغيظ، جعلوا من مصيري موضوعا لمجادلاتهم، أصيب عقلي بحالة تبلد مفاجئ وصرت غير قادر على الانحياز لرأي أو ضد رأي لصالح رأي معاكس، ولا بد أنه كانت قد فاتت ست ساعات منذ عضني القط الهارب قلت لنفسي إنها علامـات وصول الفيروس إلى المخ، شملتنى رعشة مفاجئة وتراخيت على مقعدي، بعدها لم أعد أشعر بأي شيء وإن كنت أسمـع الأصـوات وأرى الخيالات والأشياء وقد تلونت. فتحت عيني فرأيتها بكل وضوح ورأيت الـولد، سمعت المواء المتـواصل الحزين فقلت لنفسي إنه صادر عني، قلت إنني - برغم الصحو والسماع ووضوح الرؤية، مصاب بالسعار، وقلت إن المسعور ينقل العدوى للآخرين، كانت هي تتكلم وتتكلم ولا أفهم كلامها رغم اتضاح الحروف والصوت، وتذكرت على غير إرادة مني الكلب الذي يحرس باب بيت أبي البعيد، وتذكرت القط الـوهمي الذي كـانت تبرع في استحضاره لتخويف الولد، ثم ظهرت لي تلك الأوزة القديمة وطاردتني وأنا أفر منها وأراهـا وهي تعض مـؤخـرة الطفل القـديم، كـانـت زوجتي تتكلم بنفس الإيقـاع وهي تفك رباط يدي فأتأوه من حرقة النسيج وهي تنزعه من فوق الجراح التي التصق بها، أتأوه وتنزع الرباط ببطء لتزود ألمي ولا تكف عن الكلام، وعندما تم لها ما أرادت فتحت زجاجة عطرها الثمين وعاودت رش الجراح فالتهب ظهر الكـف وباطنه وسرح اللهيب في الذراع والكتف اليمنى ثم انتشر في الصدر وكل البدن، أصرخ مستجيرا من وحـدتي، أشير إليها لتقترب أكثـر وهي تعاود ربط الكف بنفس الرباط المحلول، أمسكها من ذراعها فتتباعد عني ثم تدنو مني في دلال، أشعر بطراوة لحم كتفها ونعومته، أحوطها بالذراعين بقوة لا تسمح لها بمعـاودة التباعد أو الانفلات، أعض لحمها الطري الناعم عضات مسعورة متتالية وأسمع صوت المواء الحزين المتـواصل فأتعجب من مقـدرتي على المواء والعض في نفس الوقت، أسمع صرختها المفزوعة فأفيق لروحي على مهل، أراه إلى جـواري يخمش الفـراش بمخالبه برقة ووهن ثم يقترب مني ويتمسح في جنبي، والولد من الناحية الأخرى يزحف ويصعد فوق فخذي ليعبرهما إلى القط، يفلح الولد ويصل إلى القط الذي يموء بنفس الإيقـاع الحزين الآسف، ومرة أخـرى أفيق من شرود ذاكرتي فأجدها أمامي وقد تحررت مني، تتباعد إلى الـوراء بخفة وكأنها تدعوني للمداعبة، تتحسس كتفها المعضوض وتلومني.
- يا عضاض، يا مسعور، يا محروم من أكل اللحم.
لعلني كنت أبتسـم لها بـوعي وأداعب القط الـذي نجحت هي في استئنـاسـه إلى هذا الحد المذهل في وقت قليل رغم شراسته في الصباح، أمعن في مداعبة القط وأثقل عليه فيظل ناعما أليفا وجاهزا للمصالحة، أقول لنفسي إنها بالفعل بارعة وقادرة على استئناس أسد، أنسى ما كنت خفت منه وأستبعد إصابتي بالسعار رغم سخونة الجراح في يدي وآثار العضات على كتفها ظاهرة، وربما توحي لمن يراها بعكس حقيقة الأسباب.