كندا هنود وإسكيمو وأوربيون أيضاً! محمود المراغي

 كندا هنود وإسكيمو وأوربيون أيضاً!

ثاني أكبر في العالم. تحتل نصف مساحة القارة الأميركية وتمتد إلى الشمال لتغوص في جليد القطب. إنها عالم خالص مصنوع من الثلج ، يحتلها الجليد نصف العام. سكانها الأصليون هنود وإسكيمو. ربطتهم بالوافدين والمهاجرين من فرنسا وبريطانيا علاقات تصادم وتشابك وحروب. بوابتها الثقافية "مونتريال" وبوابة أميركا الشمالية "كويبك". عالمها مزيج من الجليد والثراء.

"هذا هـو أقـدم شـارع في القـارة الأميركية الشمالية، تصميمه وبناؤه يشيران لأصل أوربي. الشارع ضيق وغير مستقيم، المباني تبدو حجـرية وأثرية. لافتات المحـلات تحاول أن تجذب السياح الذين جـاءوا يشاهدون التاريخ على بعد أمتار من نهر "سان لويس "، أما أرضية الشارع فهي مختلفة عما نراه الآن في المدن الحديثـة، إنها مجموعـة أحجار سوداء متفرقة. تنقصها النعومة، وتكسوها رائحة التاريخ ".

وتسكت المرافقة العجوز ثم تقول: "لكني شاهدت هذا الشارع في حالة أخرى. كنت طفلـة ألهو حين كانت أرض الشارع مصنوعة من الخشب الخالص!. لقد زحفت الأحجار، في وقت متأخر خلال الخمسين عاما الأخيرة فقط ".

و.. تغوص قـدماي في شـوارع المدينـة العتيقة "كيبك "- كما ينطقها أهلها ذوو الأصل الفرنسي - أو " كويبك " كما يطلقون عليها بالإنجليزية. إنها بوابة أميركـا الشمالية، ونقطة اللقاء بين حضارة قـديمة صنعها سكان أصليون. وحضارة نقلها الأوربيون بعد صدام وقتل وذبح أحيا الهنود الحمر - وغيرهم - ذكراه طـوال عـام 1992 حين احتفل البعض بـذكـرى اكتشاف كـولومبس للقارة الأميركيـة. بينما سار أصحاب الأرض الأصليون في مظاهرات ومسيرات تندد بأكبر مذبحـة في التاريخ، المذبحة التي ارتكبهـا الرجل الأبيض ضـد كل ما هو ملون في أرض الميعاد الأميركية!.

رحلة نصف القارة

دخلت كندا من بوابتها الثقافيـة "مونتريـال " بعد رحلـة استمرت نحـو يوم كـامل، فبين العالم العربي والطرف الشمالي للعـالم الجديد لا بد أن تقضي ساعات طويلة في الطائرة. وساعات أطول في الانتظار لأن الـرحلة على الأرجح لا بد أن تكـون عبر بلد ثالث، أوربي أو أميركي.

أنت تعبر المحيط، حيث يتغير كل شيء من حولك، الزمان، والمكان، وطبيعة الناس. بل إنك تحط في بلاد لا تعـرف التـوقيت الـواحـد. إنها "من المحيط إلى المحيط "، يحدها شرقا المحيط الأطلنطي، ويحدها غربا - بل ويفصلها عن آسيا - المحيط الباسيفيكي. وبينما تضرب بحـدودها نحو الجنوب لتحتل نحـو نصف مساحـة القارة الأميركية، فإنها تمتد في الشمال لتغوص في جليـد القطب، ولتسجـل أنها "ثـاني أكبر بلـد في العـالم ". أي أنها تفـوق مسـاحـة كـل من الصين والولايات المتحـدة، رغم أن الأولى تفوقها، من حيث عدد السكان بنحـو أربعين ضعفا. بينما تفوقها الدولة الشقيقة " الولايات المتحدة " بنحو عشرة أضعاف!.

في مونتريال تحس بالمدينة العالمية، المباني القديمة تصافح المبـاني الحديثة، والشوارع المتسعة تتساوى في نظامها مع الشـوارع الضيقـة ذات الطراز الأوربي. الأطراف - حيث الغابات - تزداد هدوءا.. لكن القلب لا يزداد صخبا بدرجـة كبيرة، فكل شيء هنا يجري ضبطـه.. حتى دخان السيارات "خـوفا من التلوث " وسلوك السيارات حتى أن قائد السيارة محاسب طوال العام، وكل خطأ يرتكبه يحذف نقطة من حسابه، إلى أن ينفد الحساب، ويتم منعه من القيادة.

هي مدينة عالمية بالمقياس الثقافي، والاقتصادي، والبشري. فخليط البشر: "أبيض - أسود - أصفر". وما بينها من ألوان هو ما تصافحـه عيناك في الشوارع والأسواق، بل إنك في أحـد الأسواق المغطاة - وكلها مغلقة بسبب البرد والمطر - تدرك أنك في مقر "الأمم متحـدة" "سوق سانت كاترين" هذا مطعم ياباني، يجاوره مطعم كوري، يزامله مطعم لبناني أو تركي أو صيني، تجمع بينها موائد مشتركة للجميع، ويختفي من بينها ما يمكن تسميته بمطعم كندي، رغم أننا في كندا. نصف القارة الأميركية الشاسعة.

لكن ذلك الإحساس بالكـوكتيل البشري، يتراجع رويدا رويدا لا ليختفي، وإنما ليبرز بشكل آخر، خارج العاصمة الثقـافية "مـونتريال " وبعيدا عن العاصمة الإدارية " أوتاوا ".

تحس بـذلك وأنت تتنقل داخـل الإقليم الواحد، فمدينـة مونتريال تقع في إقليم "كيبك". لكنك عندما تنتقل إلى مدينـة "كيبك" ذاتها تدرك أن التنوع له أشكال ودرجات وتاريخ وقسمات.

في الطريق إلى المدينـة العتيقة "كيبك " أدركت معنى الانتقال في بلد شاسع.

الطريق في غاية الاتساع، والمسافـة - بالسيارات - قصيرة: ثلاث ساعات على وجـه التقريب، لكن خطأ صغيرا يمكنـه أن يغير من وجهتك وينقلك لمدينـة أخرى في أقصى الشرق أو الغرب، لذا فإن دليلنا هو الأرقام؛ الخريطة ورقم الطريق الذي تسلكه، تلك هي وسائل السلامة في رحلة سعيدة. فإذا بلغت هدفك "كيبك " فأنت في عالم آخر مختلف.

جسر على المحيط

قبل الرحيل قال لي "جان تشاتشا" وزير العلاقات الخارجية في حكومة "كيبك ": هذه هي إحدى بوابات أميركـا الـرئيسية. إنها جسر يصل أوربـا وأميركـا. فالثقافة فرنسية وأوربية. واللغات فرنسية - إنجليزية. وطبيعة الناس ترتبط بين القارتين.

قبل الرحيل أيضا، قـال لي دكتور أنطوان صمويل مدير عام السياحة - وهو كندي من أصل مصري -:

هذه واحـدة من أهم المواقع السياحيـة، فأماكن الجنوب السيـاحي هنا تتركز بدرجـة أكبر في كيبك، وكولومبيا الـبريطانية، والبرتا، وأونتاريو. والسبب هو تنوع الطبيعة: الجبال - البحـيرات - الجو الدافئ أحيانا. ودرجـة الحـرارة التي تهبـط إلى تحت الخـمسين "سنتيجرات " في أحيان أخـرى. و.. لأن الجليـد يحتل نصف العالم فإن هناك تنويعـات على صناعة الجليد، آخرها ابتكار كندي لمركبة سباق تجري فوق الثلج.. ليست سيارة وليست دراجـة بخارية، لكنها "بين.. بين ". اسمهـا: "هاريكانا" وبـواسطتها يجري سبـاق عالمي في فـبراير من كل عام. حيث يتجمع السياح - بعـد تزويدهم بلبـاس واق - في فرق ثلاثية العـدد، تتسابق فوق الجليد لمسافة " 2500 " كيلومتر.

إنه عالم خاص مصنوع من الثلج، وعن طريقـه تزدهر صناعة السياحـة، أو صناعة إلى 25 مليار دولار أميركي، كـما يسمونها هنا. وهي صناعة كبيرة تضم " 622" ألف مشتغل، وستين ألف شركـة ومكتب سيـاحي، بل إنها الصناعة الثالثة في مجال التصدير والتعامل مع العالم الخارجي بعد صناعة السيارات، ولوازمها.

والسياحـة في كندا، الشاسعة والرائعة، لها مجالات متسعـة، لكنها، في "كيبك " ذات مذاق خـاص يختلط فيه الماضي بالحاضر. التاريخ بالمستقبل. والطبيعـة بما يصنعـه الإنسـان، وربما كـان ذلك هـو سبب اهتمام اليـونسكـو بها حيـث ضمهـا إلى التراث العـالمي: أهرامات الجيزة، تمثال الحرية، القاهرة، وارسو، القدس وروما وكيبك.

حين بدأت جولتي في المدينة العتيقة أدركت أحـد مفاتيح "كندا". هذا هو مبنى البرلمان الذي جرى بناؤه حـول قاعتـه المستـديرة في نهاية القرن الثامن عشر. وطرازه العمراني يشهد بتعدد الحضارات التي مرت أو استقرت. لقد جرى بناء أول طابقين بطراز فـرنسي وجاء الدور الأعلى بطراز بريطاني، بل إنه - وكـما تروي لي المرافقة العجوز - فقد تم بنـاؤه على مراحل، وأمامه تمثال هندي يرمز للسكان الأصليين الذين ربطتهم بالوافدين والمهاجرين الجدد علاقات تصادم وتشابك، تناحر وتعايش.

على بعد دقائق يأتي شاهد آخر على التاريخ، وهو يبرز شهادته في نفس الاتجاه: كوكتيل الحضارات، الشاهد الجديد هو حصن "سان لويس" ، صممه فرنسي، وبناه بريطاني، وضمت أحجاره القديمة شيئا من أرض كييك " والتي تعني بلغـة الهنـود: منطقـة النهر الضيق ". بنى البريطانيـون الحصن ليحمـوا المدينة التي احتلوها بعد أن فشل الغـزو الأميركي لها عـام "1775". ولتصبح "كيبك " هي المدينـة الوحيـدة التي تحيط بها الجدران، في الشمال الأميركي كله.

وتـروي محدثتنـا: لكـن الصـدام الـبريطـاني - الأميركي الذي أسفر عن بناء الحصن لم يكن الأول في تاريخ المنطقة، لقد جاءت قبلـه أول هجـرات أوربية فرنسية، جاء "شامبلين" عام 1608 واستقر في كيبك، واعتـبرها - كـما اعتبرها الآخـرون - بوابة القارة الأميركية فهي في الطـرف الشرقي المواجه لأوربا، وفيهـا دخل الفرنسيـون، ثم جـاءهـا البريطانيـون " 1690 " وحـدث الصدام وتحولت كيبك إلى مستعمرة إنجليزية، وبعـد خمسة عشر عاما من ذلك التاريخ - ولحسم الصراع - صدر قانـون يسمح للفرنسيين الكنديين بأن يـمارسوا العقيـدة الكاثوليكية التي كانت ممنوعة حينذاك في إنجلترا. كما سمح لهم القانون بالحفاظ على لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم.

لقد انتصر الإنجليز، لكن كيبك عادت فرنسية، بل إنها أصبحت بمثابة العاصمة الفرنسية الجديدة منذ أن تم اختيارها عاصمة لإقليم كيبك الذي يضم ما يقرب من 7 ملايـين نسمة أي ما يربو قليـلا على ربع سكان كنـدا كلها، ويضم- فيما يضم- المدينـة الشهيرة: مونتريال.

الآن، ووفق إحصـاءات 1991، فإن النـاطقين بـالفرنسية في الإقليم يقترب عددهم من عشرة أضعاف المتحدثين بالإنجليزية. بل إن اللغة الأصلية لـ 70% من سكـان مونتريال هي الفرنسية، بينما لا تتخطى نسبة من يتكلمون - في الأصل - لغة إنجليزية أكثر من 17%.

أيضا، وفي البطـاقة الشخصيـة لسكـان كيبك أنهم يعيشـون أكثر من غيرهـم، وأن النسـاء أفضل حظا، فالعمر المتوقع للمرأة الفرنسية - الكندية "كيبك" هو "80.3 " سنة. بينما يهبط ذلك التوقع بالنسبة للرجل ليقترب من "73 " عاما فقط. وربما كـان لذلك علاقته بنسبة النساء إلى عدد السكان حيث تفوق قليلا نسبة الرجال. كما أن له - كـما أظن - علاقـة بمستوى المعيشة وحجم الأسرة والـذي لا يتجـاوز فـردين ونصفـا للأسرة الـواحدة، وإن كانت الأرقام لا تعبر بصدق عن "حالة ووضع الأسرة" فالإحصاءات الأخيرة التي نشرها المكتب البريطاني الإحصائي لكيبك تقول إن عدد الأطفال غير الشرعيين ينمو بسرعة شديدة حيث كـان " 13% " من المواليد عام 1982 فأصبح "38% " عام 1990!

الطريف أن معظم المواليـد - وكما تقول دراسة كندية رسمية - يأتـون قبيل فصل الربيع: إبريل ومايو، والطريف أيضا أنه حين تـم حصر أكثر الأسماء ذيوعا تم العثور على تمايز واختلاف بين الأسرة الفرنسية الأصل والأسرة البريطانية الأصل، فـالأسماء الذائعة للطفل الفرنسي: "مكسيم - الكسندر - ماتيو" وللبنت الفرنسية: "فانيسا - ستيفاني - جيسكا". والاسمان الأخيران شائعان بين الكنديين من أصل إنجليـزي أيضـا، بينما يتفـرد ذكورهم بأسماء مثل: "ميشيل وكريستوفر".

وكـما تقول الإحصاءات أيضا فإن البريطانيين "في الأصل " أكثر إقبالا على التعليم من نظرائهم "فرنسيي الأصل " فنسبتهـم في التعليم الجامعـي هي الضعف. بينما يتسـاوى الاثنان في تعاطي الدخان والكحول وبنسبة تقترب من ثلث النساء وما يتجاوز ذلك قليلا من الرجال.

تراث هندي ومطعم صيني

في كيبك - كـما في المدن الكندية الأخـرى - تنتشر المطاعـم الصينية، حتى أن أرقام مكتب الإحصاءات تشير إلى أنه عندما تخرج العائلـة الكندية للطعام خارج المنزل - وهو غالبا ما يحدث - فإن 54% من العائلات تفضل طعاما صينيا.

وفي كيبك تستطيع أن تـلاحظ ذلك على شاطئ نهر "سان لورانس".. المطاعم الصينية والمقاهي الفرنسية والمتاحف الكندية، فإذا كان الشتاء قد اقترب فأنت ترى أيضا السفن وقد اعتلت البحـر، وكاسحات الجليد وقد استعدت للعمل حيث ينتشر الجليد نحو نصف العام، من نوفمبر إلى مايو. وبينما تصل درجـة الحرارة (-17 ) في شهر يناير، فإنها ترتفع إلى 25 في شهر يوليو، بل إنه - وفي شهر يناير أيضا- يكـون الدفء المتوقع عند درجة حرارة (7) تحت الصفـر، فـذلك هـو أفضل تـوقع خـلال هذا الموسم.

السياحـة هنا إذن ترتبط بالمناخ، لكنهم في كيبك يستثمرون العام كله، ويقدمون لكل فصل ما يناسبه، ففي ديسمبر يقام معرض للصناعات اليدوية يضم على الأرجح تراث الهنود والإسكيمو، وفي فـبراير يقام كرنفال كيبك الشتـوي ومهرجانات التزحلق على الجليد، وفي شهور الصيف يقام المهرجـان الصيفي ومهـرجـان المسرح العـالمي ومهرجـان للطيران.. وهكذا.

ولأنهم مولعـون بالأرقـام، فإنهم يقولون لك: إننا ننفق الكثير لمقاومة متاعب الطبيعـة، إن مونتريال وحدها تنفق 100 مليون دولار خلال شهور الشتاء لإزالة الجليد.

ويروي السفير المصري عادل الصفتي مشاهدات عين أجنبيـة في أقصى الشمال، حيث تنتشر مـدن الثلج، يقول: "في شهور الصيف، وعندما يـذوب الجليد، يجري ترتيب رحلات دبلوماسيـة للمناطق القطبية، هناك شيء آخر، إنه عالم من الجليـد والثراء في الوقت نفسه، مناجم التعدين تتكون حوائطها من جليـد فإذا جاء الصيـف جـرى استخـدام وسائل التبريد حتى لا يذوب الثلج ويتهدم المنجـم. أيضا، فإن المنازل يجري بنـاؤهـا بطريقة خـاصة، إنها لا تستطيع أن تستقـر على الأرض دون أن تسندهـا أعمدة معلقـة. الأساسات العادية لا تصلح، وبيئة الجليد شيء مختلـف. الطرق أيضا وفي معظـم شهور السنة مغلقة، والانتقال بالهليوكـوبتر والرعاية الصحية - الإسعاف - تتم جوا، بينما يقيم معظم الطـلاب داخل مدارسهم حتى لا تعوقهم مشكلـة الانتقال".

في هذه الطبيعـة القاسيـة - كـما يقول السفـير - يجري اكتشاف الكثير من المعادن كـما يجري اكتشاف البترول، ويتم إغلاق البئر أو المنجـم لوقت لاحق، حيث إن تكلفة استثماره الآن عالية للغاية، بينما قد لا تكـون كذلك في المستقبل.

إنها حرب الطبيعة، لكنه أيضا الولع بالطبيعـة والحفاظ على البيئة. يقول السفير: "في حـديقة منزلي شجرة عجـوز تبلغ من العمر ثلاثـمائة عام على وجه التقريب، جـاءتها صـاعقـة، سقطت فروعهـا، انقسمت، ذبلت، وقلت لقد حان وقت إزالتهـا، فقيل لي لا بد أن تستأذن وزارة الزراعة، فلما فعلت جاءتني لجنة فنية لتقرر بقاء الحال على ما هو عليه، فربما أثمرت الشجرة في العام التالي، ثم جاءت لجنة أخرى بعد أن شكوت وأبديت مخاوفي من سقـوط الشجـرة، وهكذا تأتي قضية الحفاظ على اللون الأخضر في سلم الأولويات، فأنت لست حرا في إفساد الطبيعة، الأبيض والأخضر هما محور الحياة في كنـدا التي تتكـون من عشرة أقـاليم ومنطقتين، الأبيض هو الجليد الـذي يكسو الكثير والذي يعيش في أقصى أطـرافه "الإسكيمـو"، والأخضر حيث تحتل الغابـات نحو ربع مساحة كندا الشاسعة، بينما تمثل الغابات وثروة الأشجـار معا 39% من المساحة مقابل 5% فقط للزراعة المنظمة.

ولأن الطبيعة قـاسية فقد اتجه العمران للمناطق الجنوبيـة القريبة من الولايات المتحدة، لكن الشمال ليس خـاليا، وسكـانـه من الهنود والإسكيمو هم الأصل وينتشرون في الأقاليم المختلفة، ويعـودون الآن للبروز على سطح الحياة السياسية رغم أهميتهم العددية.

الهنود يتناقصون

قبل أن يصل الأوربيون إلى كنـدا، والتي لم يكن لها الشكل الدستوي الاتحادي القائم حـاليا، كان عدد الهنـود 220 ألف نسمة، لكن - على عكس ما يجري للشعوب الأخرى - فقـد اتجه العـدد للتنـاقص حتى أصبح عام 1867 يتراوح بين مائة ألف و125 ألفا. وتقول الـوثـائق الحكـوميـة إن السبب هـو انتشـار الأمراض التي لم يكن للهنود حيلة معها، لكن الوثائق التاريخية - غير الحكومية - تقول إن السبب هو حرب الإبادة التي تعرض لها السكـان الملونون حـين أتى الجنس الأبيض.

انحسر عدد الهنود، وحتى عام 1941، أي منذ نصف قرن فقط، لم تسجل أمتهم التزايـد الطبيعي للشعوب، ولكن مع ظروف سياسية ومعيشية أفضل عاد التعداد عـام 1966 إلى مستـواه الطبيعي قبل الغزو، وبعد عشرين عاما 1986 جرى تسجيل 550 ألف مـواطن من أصل هنـدي، بعضهم من الشمال الأميركي، وبعضهم استفاد من قانون جديد يسمح بأن تحمل الزوجة غير الهندية وضع الهنود إذا تزوجت هنديـا ينتمي لأحد فروع القبائل التي يبلغ عددها في كنـدا 595 فرعا قبليا، والتي تتمتـع- اعتبارا من سبعينيات وثمانينيات هذا القرن - بأشكال من الحكم الذاتي، كـما تتمتع ببرامج اجتماعية واقتصادية تساعدها على الخروج من التخلف.

تاريخيا، كانت حالتهم الاقتصادية هي الأسوأ، والبطالة أكثر انتشارا بينهم، وعدد وفيات الأطفال يفوق نظيره في الشرائح الأخرى من المجتمعـات الكنـدية، بينما يقل متوسط العمر عن غيرهم. الآن وبعد الرعاية الاقتصادية والاجتماعيـة يتبدل الوضع، وبدرجـة أسع مما يحدث للأقليات العرقية الأخرى التي تمثل أصول كندا.

الهنود هم الأغلبية في شعوب الأقلية، لكنهم ليسوا وحدهم فالسكان الأصليون ثلاث فئات: هنود، وهنـود ذوو أصـل مختلط مع الأوربيين (متميـز كـما يسمونهم)، والإسكيمو. وبترتيب الأهمية تأتي الفئة الثـانية لتشمل نحـو ستين ألفا من بين مـائة ألف ينتشرون في أماكن متعددة من العالم.

في مدينة كيبك شاهدت آثار كل ذلك، فالصناعات التقليدية، واللوحـات الفنية الشهيرة لأبناء الإسكيمو وهم يرتدون الفراء، أو يحملون أبناءهم على الظهور في ثياب خاصة دافئة، ولوحات الهندي وقد صاغ الشعر والوجـه بشكل خـاص، كل ذلك يستطيع أن يشتريه السائح من محلات كيبك وبأسعار تتزايد كل يوم، حتى بات ذلك التدفق مصدر رزق مرتفع للهنود والإسكيمو. وقد اشتهر العديد من الفنانين الهنود والإسكيمو حين نقشوا أعمالهم على أحجار خاصة، أو عبر أوراق وألوان زاهية.

ويقولون في كندا: لقد تطـورت حياة هؤلاء. كان الصيد البحري والقنص - على سبيل المثال - أهم نشاط لأبناء الإسكيمو، فلما جـاء تجار الفرو من أوربا في القرن التاسع عشر تطورت أحوالهم الاقتصادية، ثم ومع الحرب العالمية الثانيـة، وتطور وسائل النقل الجوي ووسـائل الاتصال المختلفـة، زادت درجـة التطور وكادت قوافل الكلاب الشهيرة التي تستخدم لأغراض مختلفة تختفي لتحـل مكانها السيارة والجرار. لقد زحف الجنوب على الشمال بحضارته، بمستشفياته ومدارسه وأقلامه وكتبه وطرق معيشته.

صحيح أنهم يتحـدثون لغاتهم الأصليـة، حيث ينقسمون كفئات أصلية ثلاث، إلى 11 مجموعة لغوية، لكن الكثيرين منهم يجيد الآن الإنجليزية أو الفرنسية. وبينما تتسع المطالبة الآن في أميركا الجنوبية والشمالية واللتين تضمان نحو 40 مليونا من السكان الأصليين باسترداد الحقوق، فإن حركة دولية قد نشطت في الأمم المتحدة وغيرها لإنصافهم بعد خمسة قرون من الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

في كندا - ومنذ عشرين عاما - بدأت جهود مشتركة من الحكومة الفيدرالية وممثلي السكان الأصليين- خـاصـة الهنود- لتحقيق مطالبهم في الأرض والماء والثروة والسيادة، وبينما استولت مجموعة من الهنود على 1200 هكتار عـلى بعد مـائة كيلومتر مـن "فـانكـوفـر" وأقـامـوا نوعا من الحكم الذاتي، فإن تطورات أهم حـدثت بعد ذلك حين وصلت كندا إلى فكـرة الإصلاح الدستوري الذي جرى طـرحه في أكتوبر 1992.

في هذا الاستفتاء الذي جرى التصويت عليه بـ "ألا" كانت هناك محاولة لحل مشكلة كيبك الفرنسية التي يحس أهلها أن لهم حقوقا مسلـوبة، وأن ذوي الأصل الإنجليزي قد احتلوا تاريخيا كل المواقع الحساسة.

أيضا، كانت هناك - ومن خلال الاستفتاء - محاولة لحل مشكلة السكـان الأصليين مثل الهنـود الحمر، وذلك بمنحهم درجة من الحكم الذاتي. والمحاولتان - مع إصلاحات أخرى - تأتيان في إطار معالجة الشكل الذي ينتمي له مجتمع المهاجرين، فكل كنـدا تقريبا مجتمع مهاجرين.

استيطان غير ملون

في البدء كان الفرنسيون، وذلك حـين هبط جاك كارتييه وشامبلين إلى مدينة كيبك في القرن السادس عشر، وكان يمثل أول استيطان غير ملون في كندا، وظل الاستيطان فرنسيا- في معظمـه- لمدة مائتي عام، بعدها جاء التدفق البريطـاني: إنجليز وإيرلنديون، واسكتلنديـون، مباشرة من الأرض الأم، أو عبر الولايات المتحدة الأميركية.

ثم في القرن العشرين جـاء تـدفق أوربي جـديد، وجـاءت إحصـاءات 1986 لتقول إن 3.24% من الكنديين من أصل فرنسي و 19% من أصل إنجليزي، وأقل من 4% من أصل اسكتلندي أو إيطالي، وبعدهم يجيء أبناء أوكرانيا واليهود والهولنـديون وأبناء الوطن العربي.

وبطبيعة الحال فقد اختلفت درجة التركز والانتشار في الأقـاليم المختلفة، فالأغلبيـة العظمى في كيبك من أصل فرنسي، بينما تأتي أغلبيـة إقليم أونتاريـو الذي يضم العاصمة أوتاوا كـما يضـم المراكز الصناعيـة والتجـارية المهمة من أصل بريطاني. الشيء نفسـه في نيوفـوندلاند حيث يمثل الكنديون الإنجليز أغلبية، بينما تشهد أقاليم الغرب تنوعا عرقيا أكثر، خاصة في إقليمي "مانيتوبا"، "وسكاتشوا"، وبينما يشهد الشمال الغربي حضورا أكثر من السكان الأصليين.

ووفقا لإحصاءات 1986 فإن 6% من سكان كندا من الهنـود والإسكيمو و 3% من السود. هذا الخليط الواسع يشكل تجمعا سكـانيا لا يزيد كثيرا على 26.7 مليون نسمة، ويمتد - كـما قلت - في نصف قارة ليحتل المكانة الأولى من حيث مستوى المعيشة طبقا لتقديرات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة.

التنـوع شـديد، ممـا جعل البعض يتساءل: "هناك كنـدا.. ولكن هل هناك كنـديون؟ ". الحس العرقي قائم، والرغبة في التمايز تتجسد في الحياة اليوميـة كـما تتجسد في السلوك السياسي، لكن محاولات فيـدرالية تحاول المزج لتصل لصيغـة التنوع في ظل الوحدة. إنها صيغة تختلف عن الصيغة الأميركية القائمة على فكرة الذوبان، أو فكرة الأمة، إنها محاولـة للاعتراف بالواقع وتقنينه، لكنها ليست دائما محاولة نـاجحة، رغم الوفرة التي يعيش فيهـا الجميع، والحقوق المتسـاويـة التي توفرها الحكومة المركزية، أو حكومات الأقاليم.

في صيف العـام الماضي 1992 تفجـر الـوضع وتراوح بـين فكرة الاتفاق القومي والتهديد بانفصال بعض الأجزاء مثل كيبك، وكـان السؤال الحاسم: هل يتكرر نموذج الاتحاد السوفييتي فينفرط عقد كندا التي تتحد أقاليمها العشرة فيدراليا، بينما يرفض الكثير من أهلها فكرة الذوبان؟.

السؤال خطير لأنه يعني انتقال بذرة الانقسام غربا، وفي قلب القـارة الأميركيـة التي تتحـدى العـالم بحضارتها، وتفخر عاصمتها واشنطن بأنها قد هزمت موسكو.

في كندا الشاسعة والضخمة، ذات الأصول العرقية المختلفـة يثار السـؤال على نحـو مختلف، فـالقضية البديهية التي تطرح نفسهـا دائما: أي نوع من الإدارة السياسيـة، والاقتصادية تحتاجه البلاد، ويكـون قادرا على تنمية هذه الموارد، وتذويب هذه الفوارق؟

وفي كنـدا يقولون: ليس بـالاقتصاد وحـده يحيـا الإنسان، فالعوامل التاريخيـة. التي تطرح قضية الوحدة والتمايز لا يمكن تجاهلها.

هذا الخليط البشري الواسع كـان لا بد أن يمتزج، وهذا الخليط كان لا بد أن يواجـه بعض المقاومـة من السكـان الأصليين وهم الهنود الحمر الذين مازالوا يعيشون في مجتمعات منعزلة رغم انتشارهـم في عدة أقاليم، ولكن ورغم الجنسيات العديدة، ورغم إقـامة دولة فيدرالية منذ القرن الماضي فقد ظل الوضع الأكثر تميزا للبريطانيين والفرنسيين، وظلت الفئـة الأخيرة تحس باضطهاد عرقي يمارسه البريطانيون الذين مكثوا لفترة طويلة يمارسون التمييز في الوظائف والحقوق الاقتصادية.

بطبيعـة الحال فقـد سقط كل ذلك، ولكن بقيت المشاعر غير الودية، وبقي الإحساس بضرورة التمايز الثقـافي والاجتماعي، بل وظلت الأقـاليم العشرة التي تضمها كندا، كـما ظلت المناطق الشمالية التي لا تشكل إقليما، ظل كـل ذلك محتفظـا وحتى الآن بحـدوده الإدارية والاقتصـادية، فـلا تنتقل العمالـة إلا بإذن خاص، ولا تتدفق السلع إلا بعد أداء رسوم جمركية.

الاتحاد قائم، وبذور الانفصال واردة، وبالتحديد بالنسبة لمجتمع الفرنسيين الذين يملكون واحـدا من أغنى الأقاليم وهو كيبك، كـما يقيمون واحدة من أكبر المدن: مونتريال.

اتفاق أغسطس

كـان على السلطـة السيـاسية أن تبحث عن مخرج للمأزق، وهل يكون مزيدا من الاندماج، أي مزيدا من تقوية المركز الذي يقود الاتحاد الفيدرالي، أم يكون الحل هو مزيدا من تقوية الأطراف - الأقاليم على حساب الدولة المركزية ضمانا لبناء هذه الأقاليم في إطار كندا الكـبرى؟.

كان الخيار صعبا، وعندما تم اتفاق أسموه اتفاق "شارلوت تاون " في أغسطس من العام الماضي، أصبح موضع هجوم من كل الأطراف.

في هذا التـاريخ وقع رئيـس الوزراء - حينذاك - " برايان مولروني " اتفاقا للتعديل الدستوري، واشترك معـه في التوقيع رؤساء وزارات كل الأقاليم طالبين الاحتكام إلى الشعب فيما انتهوا له من وثيقة دستورية أثناء اجتماعهم في شارلوت تاون عاصمة جزيرة برنس البرت، والتي يمثلها في البرلمان نائب من أصل لبناني. اتفق الرؤساء وبدأ الجدل، وكان الاتفـاق المطروح للاستفتاء واضحـا، إنـه تعديل دستـوري واسع وجذري، أساسه: الاتحاد في ظل التنوع. الفيدرالية مع احترام الثقافات والأقليات والحريـات والحقـوق الاقتصـادية والاجتماعية. وفي ظل ذلك تكون هنـاك مسـاواة بين المرأة والرجل، ومسـاواة بين الأقاليم، ومسـاواة عرقية مع الاعتراف بالتنوع الثقـافي والحضـاري واللغـوي، وفي ظل ذلك يكـون لكيبك وضع خـاص، كـما يكون للهنود الحمر الحق في حكم ذاتي مع حقهم في استخـدام لغتهم وإحيـاء تـراثهم الثقافي، وتتمتع كيبك بربع مقاعد مجلس العموم، كـما تأخذ ثلث مقاعد المحكمة الدستورية العليا التي تقرر الكثير من المسائل المصيرية.

انتهى السياسيون في أغسطس. لاتفاق شارلوت تاون ليعطي:

  • فرصة لاتحاد اقتصادي تذوب معه الحواجز بين الأقاليم.
  • فرصة لتمايز سياسي وثقافي واجتماعي للإقليم الفرنسي الراغب في الانفصال "كيبك ".
  • فرصـة للحكم الذاتي للسكـان الأصليين "هنود أميركا ".

أما أدوات ذلك فهي كثـيرة ومن أبرزهـا: مجلس شيـوخ منتخب تتسـاوى فيـه الأقاليم، كبيرهـا وصغيرها، بينما يستمر مجلس النواب ممثلا للمواطنين حسب تعدادهم.

لقد أعـد السـاسـة أوسع تعـديل دستوري في أغسطس الماضي، وجـاء الرفض في 26 أكتـوبر، بعد عدة أسابيع قليلة شهدت فيها كندا أعنف معركة بين أنصار وأعداء التعديل، ثم جاءت النتيجـة 55% من الناخبين قالوا: لا و 45% قالوا: نعم.

كـان الرفض طبقـا للاستطلاعات التي جرت حينذاك متوقعا، لكن المفاجأة أن الفرنسيين المطالبين بحقوق أكثر والذين تدور حـولهم المعركة الأساسية لم يمثل أكبر الـرافضين، كـان الـرفـض الأوسع من كـولومبيا البريطانية التي تضم ثلاثة ملايين نسمـة، وجاء التصويت فيها بـ "لا" بنسبـة 68 % وعلى الخط نفسه جاءت أقاليم أخرى ينتمي معظم سكانها لأصل بريطاني، وكـان أبرزها الإقليم الأكبر في كندا، وهو أونتاريو والذي يقترب تعداده من عشرة ملايين نسمة ويضم العاصمة الفيـدراليـة "أوتاوا " والعاصمة الاقتصادية "تورنتو" قالت "أونتاريو" لا بنسبة تقترب من نعم، لكنها رجحت الكفة وأبرزت ما يعتقده ذوو الأصل البريطاني من أن الاستفتاء قد أعطى الفرنسيين أكثر مما ينبغي. وفي جملة النتائج برز أن القلب الكندي الذي يضم الأقاليـم الأكـبر كـان ضـد التعـديل الدستوري، بينما وقفت مع التعديل الأقـاليم الأكثر ضعفا وصغرا، قال القلب لا، وقـالت الأطراف نعم، فانهزم التعديل، وسقطت الصفقة، وخرج بعدها جاك بيريز زعيم غرب كيبك الانفصالي ليقول: "لقد رفضنا هذه المرة ما لا نريد، وفي المرة القادمة سوف نقول ما نريد". يعني كيبك ذات السيادة، كيبك المستقلة كدولة جديدة في الشمال الأميركي.

بعدها، هدأت القصـة وجرت الإطاحة بالوزارة التي أجرت الاستفتاء، بعـدها قال المتفائلون: إن انفصال كيبك لن يحدث فكندا المتحـدة هي السبيل الوحيد للوقوف أمام التكتلات الاقتصادية، ومن غير المتصور أن تتم اتفاقات لسوق مشتركة مع الولايات المتحـدة والمكسيـك، بينما يظل ذلك صعبـا داخل الأراضي الكندية. قـالوا أيضا: إنه إذا كانت القبلـة الثقافية لأهل كيبك باريس، فإن القبلـة الاقتصادية لكل كندا هي الولايات المتحدة الأمـيركية والتي تحتكر 75% من التجـارة الخارجية لكندا، بما يجعل لها التأثير في قضية الوحدة والانفصال.

يؤكد ذلك في حديثه معي تشاتشا وزير العلاقات الخارجية في حكـومة كيبك: إن أهل كيبك يعرفون قضية حجم السـوق، ومن ثم فإن الاختيار النهائي سوف يكون الاتحاد لا الانفصال، وعلى العكس فإننا نتطلع الآن لسوق خارجي أوسع في المكسيك.

عرب كندا

وسط هـذا المد والجزر في العلاقـات بين فرنسيين وبريطانيين، بين وافـدين أوربيين وسكـان أصليين، تجيء قصة العرب الذين أصبحوا جزءا من كندا.

يقول عادل الصفتي سفير مصر في كنـدا: "إن عدد المصريين الذين استقـروا في كنـدا يصل إلى 75 ألف مهاجر، معظمهم من نوعيات مهنية عالية، وكثيرون منهم يعملـون كأساتذة في الجامعـات وأطبـاء ومهندسين وفنانين من فرقة الفنون الشعبية ورسامين ورجال أعمال ناجحين.

ويمثل المصريون أعلى نسبة تعليم جامعي بين المهاجرين، وأعلى نسبة من حملة الدكتوراة، وهم- من حيث الدخل- ثاني أعلى متوسـط للدخل حيث يصل ذلك المتوسط إلى 16 ألف دولار سنـويا للفرد، بينما يمثلون أقل نسبة في عالم الجريمة".

يضيف المهندس سمير زلزال، وهو أحـد المهاجرين ورئيس المجلس التجاري لرجال الأعمال العـرب الكنديين: "إن عدد المهاجرين من أصل لبناني يصل إلى 120 ألف مهاجر والمغاربة نحـو 25 ألف مهاجر. وهناك فلسطينيون ويمنيون وجنسيات عربية أخرى"، ويقول المهندس زلزال إن قصته بدأت عام 1966، حيث بدأ حياته هناك كمندوب للمبيعات، لكنه خلال رحلة المهجر وصل إلى منصب نائب رئيس شركة ذات أنشطة متعـددة في مجال السيـاحـة، وتجميع الآلات، وصناعة معدات البناء والطلمبات واللوازم المعمارية. إنها تضم مجموعة ضخمة من المصانع في الولايات المتحدة، وكندا، والهند، وبريطانيا، واليابان.

ويضم المجلس التجـاري لـرجـال الأعمال العرب البنوك والشركات والمؤسسات التي تتعامل مع الشرق الأوسط، ويقـول رئيس المجلس: إن هناك اهتمامـا عربيا بالاستثمار في كندا، وبينما كانت الهجرة العربية في معظمها للعمل كموظفين وخـبراء، الآن أصبح هناك رجـال أعمال عـرب معترف بهم، كما أصبحت هناك نقاط جـذب للمستثمرين العرب، خاصة في مجال العقارات التي تراجعت أثمانها مع حـالة الركـود التي مرت بها كندا في السنوات الأخيرة.

ويقول زلزال: "إن ما يغري المهاجرين أيضا هو ذلك التنـوع الكبير في كنـدا، فلكـل إقليم طبيعتـه وميزاته، والأقاليم - بصرف النظر عن الاستفتاء - تتمتع بـاستقرار نسبي عال، كـذلك فإن التعامل مع الشعب الكندي سهل ومريح، لذا فلم يعد غريبا أن نجد رجال أعمال عربا في القطاعات المختلفة، ولم يعد مستغربا أن تكـون أكـبر مزرعة في فـانكوفر مملوكـة لرجل أعمال سعودي ".

يـؤيـد ذلك طه قربي، اليمنى الأصل، الكندي الجنسية الذي بدأ حياته العمليـة بثلاثة آلاف دولار فأصبحت 360 ألـف دولار خـلال عـدة سنـوات، ويقول قربي الذي يقيم في ضـاحية للعاصمـة أوتاوا: هناك عوامل كثيرة تشجع المستثمر العربي، فـلا قيود على الاستثمار في أي مجال، والإعفـاء الضريبي يشمل السنوات الخمس الأولى للاستثمار، ويصل إلى نصف مليون دولار من الأرباح الرأسمالية كل خمس سنوات بعـد ذلك، وسعـر الضريبـة ينخفض بالنسبة لـلاستثمارات، بينما يـرتفع بـالنسبـة لقطـاعـات الاستهلاك، كذلك فإن رؤوس الأموال تدخل وتخرج بلا حدود أو قيود، ولا تفرقـة بين مستثمر كنـدي أو أجنبي، وكل من يهاجر لمدة ثلاث سنوات يحصل على الجنسية الكندية، وكل من يولد هنا يعتبر كنديا.

ويروي طـه قربي قصتـه منذ أن درس في الولايات المتحدة وعمل كمهندس إلكتروني وفني كمبيـوتر في الأمم المتحـدة في الستينيات، ثم هاجر إلى كندا عام 1971، وعمل في شركة كمبيـوتر، ثم أسس شركـة صغيرة لأنظمة واستشارات الكمبيوتر، كان ما تكلفه في البداية ثلاثة آلاف دولار، وكـان ذلك عام 1976 وسرعان ما استطاع بيعها بـ 360 ألف دولار عام 1979، وعاد ليؤسس شركة سينا للإدارة والكمبيوتر التي ضمت أيضا مسـاهمين من كندا. في الوقت نفسه قام بتأسيس شركة للتفتيش برأسمال قـدره نصف مليون دولار، وسرعان ما أتاه عرض لبيعها بثلاثة أضعاف رأس المال، لكنه آثر الاحتفاظ بها ليعمل في مجال التفتيش على الصادرات الألمانية، وعلى بعض صادرات ذاهبة لمصر، كما تعمل شركته في أسواق كثيرة مثل: كوريا واليابان وماليزيا والكويت واليمن والسعودية وإيطاليا وبريطانيا وأميركا.

الآن، أصبح للشركة التي أسسها قـربي مفتشون في 54 دولة.

ونموذج رجل الأعمال اليمنى متكـرر، ويقـول أمين ياسيني مدير تنمية التجارة بغرفة التجارة الكندية: إن كندا - ورغم ما صحب الاستفتاء من ضجة - تتمتع باستقرار سياسي جاذب للاستثمار وللمهاجرين، ويرى - على عكس ما يردده البعض - أن الاستفتاء قد أثبت قدرة المجتمع الكندي على حل مشاكله بالوسائل السلمية، وأن الخطأ الذي وقعت فيه الحكومة أنها قد عرضت للاستفتاء ما لا يمثل أولوية بالنسبة للشعب، فالأولوية - عام 1992 - كانت لعلاج الركود الاقتصادي الذي هز البلاد.

ويقول ياسيني: إن كندا سوف تكون سوقا متسعا بعد ارتباطها باتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، وهي ذات حضارة إنجليزية - فرنسية، مما يناسب المهاجر العربي.

وهكذا ينتشر المهاجرون العرب ليشاركـوا في مختلف الأنشطة، ويحتلوا مختلف المواقع بـما فيها المواقع السياسية، حيث شغل أحدهم، وهو لبناني الأصل، منصـب رئيس وزراء لأحـد الأقـاليم. كـما احتـل آخـر مقعـدا في الـبرلمان الاتحـادي بالعاصمة أوتاوا.

المستقبل.. شيء آخر

هكـذا تبدو الصـورة في نصف القارة الشمالي من أميركـا، فريدة في نوعها، صاخبة في حاضرها، غـامضة في مستقبلها، إنها دولة مستقلـة، لكن حـاكمها العام والذي يقيم في حصن كيبك، تعينـه ملكة بريطانيا، وهي دولـة ثرية، لكنها مع بداية التسعينيات كانت تعاني من تناقص في الناتج المحلي وتزايد نسبة البطالة حتى فاقت 10% عام 1992 وتضم 52 جنسية من مختلف أنحاء العـالم، لكن المواطنين من أصل فرنسي - بريطاني يشكلون معظم السكـان، أي أنهم يملكـون معظم الحاضر ومعظم المستقبل، وهي دولـة اتحاديـة، نشأت أوضاعهـا الفيدرالية بموجب قانون بريطاني لشمال أميركا عام 1867، ولكن ما أن مر قرن مـن الزمان حتى بات ذلك موضع بحث من جديد تحت شعار: تعدد ثقافي وتوجه سياسي، حقوق متساوية وتفوق اقتصادي يظلل الجميع. وحين اختارتها منظمات الأمم المتحدة لتكون أفضل بلد في العالم من حيث مستوى المعيشة كان لذلك مضمونه الواضح، فـالعلاج هناك بالمجان، والإنفاق على التعليم يحتل 7% من الناتج، ويبلغ نصيب الفـرد من ميـزانيـة التعليم 1580 دولارا أميركيا في العام، وهو رقم يفوق متوسط مجموع دخل الفرد في معظـم بلدان العالم، وبينما يبلغ متوسط أجر المشتغل في كندا 1988 " 464 " دولارا أميركيا في الأسبوع، فإن متوسط ما يحصل عليه المتعطل 203 دولارات في الأسبـوع أي ما يقترب من نصف أجر المشتغل.

وحين يتحدثون عن المستقبل هنا، والذي تصنعه كل العناصر يشيرون إلى غرب كندا، فهنا ثروة هائلة واستغلال محدود حتى الآن. أيضـا فإنهم يشيرون لذلك التميز حيث تتمتع كندا وحدها بما يقرب من ربع الثروة العالمية من الغابات. وفي كندا تستطيع أن تملك غابة، وتنزع ما تشاء من أخشاب بشرط أن تزرع بديـلا يضمن استمرار هذه الثروة، في كندا " 400 " ألف صاحب غابة ممن يديرون استثمارا من طراز خاص، وهو استثمار ينضم لغيره من الأنشطة التي تستطيع أن تصنع ماردا اقتصاديا ضخما. إنه المارد الذي يهزم الأحاسيس العرقية والحساسيات السياسية، وحين يفكر البعض في الانفصال والتفتت يفكر عشر مرات، ثم يتحسس جيبه، فـذلك هو المستقبل.

 

محمود المراغي