ألفونس دي نوفيل «المرسال»
في الفترة التاريخية نفسها التي كان الانطباعيون يدعون فيها إلى التحرر من المؤثرات الاجتماعية والضغوط الخارجية، ظهر في باريس رسّام اتجه عكس هذا التيار تمامًا، فلم يكتفِ بالخضوع لأشد أشكال الضغوط الخارجية ذات الطابع العسكري والقومي، بل نذر نفسه للتعبير عنها، فلم يرسم غير المعارك والأحداث العسكرية، وغالبًا من منطلق قومي جريح بفعل هزيمة فرنسا في حربها مع بروسيا عام 1870، إنه الفنان الأكاديمي ألفونس دي نوفيل.
ولِد دي نوفيل عام 1835، وبعد دراسة الآداب في المرحلة الثانوية، التحق بالمدرسة البحرية في مدينة لوريان. وهناك، عندما كان في الثانية والعشرين من عمره، بدأ يخطّ أول رسومه.
وعندما قرر الاحتراف، درس لبعض الوقت في مشغل أوجين ديلاكروا، ثم فرانسوا بيكو، لكن كبار الأكاديميين والطليعيين، على حدٍ سواء، أحبطوه ورفضوا منهجه وتقنيته في الرسم، فراح يعمل منفردًا.
ومنذ البداية، تجلّى شغفه بالمواضيع الحربية والعسكرية، فرسم عدة لوحات في هذا الإطار، لقيت قبولًا متوسطًا عند البعض. في عام 1870، اندلعت الحرب بين فرنسا وبروسيا، وهُزمت فرنسا هزيمة منكرة تمثّلت في وصول البروسيين إلى باريس، وإعلان وحدتهم الوطنية في قصر فرساي، واضطرار فرنسا إلى التخلي عن منطقتي الألزاس واللورين لألمانيا الوليدة، الأمر الذي ألهب المشاعر القومية الجريحة، وهنا تقدّم دي نوفيل ليملأ فراغًا على الساحة الثقافية والفنية، فراح يرسم بغزارة مشاهد من الحرب الفرنسية - البروسية ذات مواضيع مختلفة، بعضها مشاهد بطولات فردية، وبعضها مأساوي الطابع، وبعضها شبه وثائقي، فتهافتت البرجوازية على أعماله التي وجدت فيها التعزية المطلوبة.
واتجهت الأنظار صوبه، ولم يعد بإمكان الأكاديميين تجاهله أو التعالي عليه، كما انتبه النقاد إلى أن أسلوبه في رسم المعارك أكثر عفوية وإنسانية من أسلوب الأستاذ بارون غرو في رسم الحروب البونابرتية قبل نصف قرن. ورغم تغيير النظام السياسي في فرنسا غداة الهزيمة، ومن ثمّ استعادة الحياة الثقافية والفنية زخمها في سبعينيات القرن التاسع عشر، فقد استمرت مرارة الهزيمة حاضرة في النفوس، فاللوحة التي نحن بصددها تعود إلى عام 1880، وتمثّل مشهدًا فرديًا من مشاهد تلك الحرب.
فخلال حصار مدينة ميتز، ألقى البروسيون القبض على جندي فرنسي متنكر في زيّ فلاح، كان ينقل رسالة من المحاصَرين (أو إليهم)، ويحاول اختراق خطوط العدو، وبعد التحقيق معه أعدموه.
تمثّل اللوحة لحظة تفتيش الأسير الذي نراه قويّ البنية، شامخ الرأس، وذا ملامح فرنسية متوسطية، لإبعاده أكثر ما يمكن عن ملامح الشماليين الذين قد يشبهون الألمان، كما نرى أمتعته على الأرض، والبروسيين مرتاحين جدًا إلى وضعهم، بعضهم إلى مائدة طعام، وبعضهم يكاد يكون غير مبالٍ بوجود إعدام محتمل خلال لحظات.
وباستثناء المديح الذي رسم به الفنان الأسير الفرنسي، ثمّة واقعية شديدة في تركيب المشهد ككل، غالبًا ما كانت تفتقر إليها اللوحات الحربية المألوفة عند كبار الأساتذة السابقين.
فالرسام هنا يريد مخاطبة المشاعر لا توثيق مجد تاريخي، كما كانت الحال عند غرو أو غيره ممن رسموا الانتصارات البونابرتية سابقًا. وقد نجح في ذلك باستخدام ضربات فرشاة سريعة وعفوية لم تكن مستحبة جدًا عند غيره من كبار الأكاديميين، لكنّها أوصلته إلى مصافّهم ■