عن بيروت والسينما والخراب أفلامٌ تُقاوم الموت
منذ تفشّي وباء كورونا في العالم، مطلع عام 2020، تعطّلت أحوالٌ كثيرة في شؤون الحياة اليومية. الصدمة كبيرة، والنظام الصحّي في دول كثيرة أُصيب بالهلع، خصوصًا في الأشهر الأولى. السينما أحد الفنون والصناعات العالمية التي واجهت، ولا تزال تواجه، تحدّيات جمّة، فالإنتاج توقّف فترة طويلة، والصالات السينمائية مغلقة أسابيع متتالية، ومنصّات العرض الإلكتروني باتت أفضل وسيلة للمُشاهدة، وللإنتاج أيضًا. محاولات عدّة، لكسر الطوق الخانق على السينما، غير متمكّنة، أقلّه إلى الآن، من إحداث انفراجٍ فعليّ، رغم أنّ حركة الإنتاج السينمائي تستعيد حيويتها، واستديوهات مختلفة تفتح أبوابها لتصوير كلّ جديد، مع التشديد على الالتزام بشروط السلامة العامّة؛ كمامات، وتعقيم، ومسافة بين الأفراد، إلخ.
لبنان مختلف قليلًا. قبل أسابيع عدّة على إعلان أول إصابة بوباء كورونا (21 فبراير 2020)، غرق البلد في واحدة من أسوأ أزماته الاقتصادية، بوجهيها الاجتماعي والسياسي تحديدًا. قرارات للسلطة تفرض ضرائب جديدة على اللبنانيين، تواجَه بـ «انتفاضة 17 أكتوبر» (2019)، لكنّ تفشّي الوباء في البلد ساهم في تخفيف النزاع بين لبنانيين ولبنانيات، يلجأون إلى الشارع لإعلان صوتٍ مُعارض لقرارات السلطة، بعيدًا عن كلّ ممارسة عنفيّة؛ ونظام حاكم يزداد طمعًا، ويجهد في حماية نفسه من السقوط.
الأزمة الاقتصادية تسبق وباء كورونا في ضرب البنيان اللبناني، الهشّ أصلًا. معدّلات الفقر ترتفع، والقطاع الخاص متحكّم بشؤونٍ كثيرة، وبعضه يستثمر أموالًا، وإنْ تكن قليلة، في شأنٍ ثقافي أو فني.
أزمة تهزّ البلد، المهتزّ أصلًا بفعل ضربات جمّة في جوانب الحياة اليومية، و«كورونا» يُساهم في مزيدٍ من الخراب، الموزّع على تلك الجوانب كلّها. لكنّ «انتفاضة 17 أكتوبر» غير مسؤولة عن تعطيل العمل السينمائيّ في لبنان. سينمائيات وسينمائيون لبنانيون عديدون يخوضون الانتفاضة منذ لحظاتها الأولى، بمشاركتهم في حراكها المدنيّ العفويّ السلميّ، وبتصويرهم لحظاتٍ كثيرة منها، وبسجالاتٍ ونقاشاتٍ، وبكتاباتٍ وإنْ تكن قليلة. بالنسبة إلى هؤلاء جميعًا، «انتفاضة 17 أكتوبر» تُلبّي، بشكلٍ ما، بعض مطالباتٍ يوردونها في أفلامٍ سابقة لهم، تكشف مخبّأ، وتفضح أسرارًا، وتُنبِّه إلى خللٍ، وتروي انفعالاتٍ، وترافق مساراتٍ، وتقول وقائع. هذا كلّه بلغة سينمائية متكاملة في اشتغالاتها.
تحدي المصاعب
السينما في لبنان تعاني كثيرًا، قبل الأزمة و«كورونا»، لكنّها تنجح دائمًا في تحرير نفسها من كلّ قيدٍ أو مصيبة، بهدف إنجاز أفلامٍ متنوّعة، بتحدّي المصاعب وتجاوزها، وإنْ تخفق أحيانًا في الانتصار على الرقابة، إذْ لا تزال مسائل عدّة ممنوع تناولها نهائيًا، كذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990)، وأحوال السّلم الناقص (ما بعد 1990)، والطائفية والسلطة والزعامات المسؤولة عن الأزمات المتلاحقة، وملفات عدّة لا تزال عالقة منذ النهاية المزعومة لتلك الحرب (13 أكتوبر 1990)، كمسائل المفقودين والمخطوفين والمعاقين، وبيع الأطفال، وخطط التهجير الطائفي بين المدن والقرى خلال الحرب، وغيرها.
السينما في لبنان تُنجز أفلامًا كثيرة، في الأعوام الـ 30 الفائتة، وبعضها لا يزال ممنوعًا من العرض المحليّ. لكنّ الأزمة الاقتصادية الأخيرة، وتفشّي وباء كورونا، يُعتبران الأسوأ في معاناة تلك السينما، غير القادرة رغم ولادتها عام 1929، مع «مغامرات إلياس مبروك» للإيطالي جوردانو بيدوتي (الذي يُعد رسميًا أول فيلم لبناني) على التحوّل إلى صناعة، كتلك الموجودة في مصر والمغرب مثلًا؛ لكنّها القادرة، خصوصًا في الأعوام اللاحقة على النهاية المزعومة للحرب الأهلية، على تطوير اشتغالاتها، وعلى مواكبة أحدث التقنيات في تحقيق الأفلام، وعلى مواجهة العقبات الداخلية، وبعض الخارجية أيضًا، على مستوى التمويل والإنتاج تحديدًا.
خراب وذاكرة وأهوال
الانفجار المزدوج لمرفأ بيروت (4 أغسطس 2020)، الذي سبّب دمارًا كبيرًا في أنحاء مختلفة من العاصمة اللبنانية، وقضى على مئتي شخص، وجرح أكثر من ألفين، ودمّر منازل ومحالّ تُقدَّر خسائرها بملايين الدولارات، التي لن يُعوِّضها أحدٌ؛ هذا الانفجار أصاب قطاع السينما أيضًا: ماديًا، لأنّ شركات إنتاج وما بعد الإنتاج مُقامة في المنطقة المدمّرة؛ ومعنويًا، لأنّ شابات وشبابًا، عاملين في المجالات السينمائية المختلفة، يستعدّون لمغادرة البلد نهائيًا، وبعضهم غادر، وآخرون ينتظرون أول فرصة ممكنة للمغادرة. الصالات مغلقة منذ أشهرٍ طويلة، وإعادة فتحها أسابيع قليلة في الربع الأخير من عام 2020، مع التزام شروط السلامة الصحّية داخلها، بأنْ يُسمح بتشغيل نصف مقاعدها، وبإيجاد مسافات بين المُشاهدين، مع ضرورة التعقيم قبل الدخول، غير متمكّنة من إحيائها، رغم أنّ تلك الفترة شهدت عرض فيلمين لبنانيين جديدين (إنتاج 2019)، «جدار الصوت» لأحمد غصين، و«1982» لوليد مونّس، لم يتجاوز عدد مشاهديهما معًا، في نحو 3 أسابيع، 100 مشاهد فقط!
رغم الصورة القاتمة، يتابع سينمائيون لبنانيون عديدون اشتغالاتٍ مختلفة، وبعضهم يُكمِل تحقيق مشاريع له بدأ تصويرها قبل «انتفاضة 17 أكتوبر»، بينهم إيلي خليفة، الذي أنجز «قلْتلَّك خَلص» (2020) بعد أشهرٍ طويلة من التصوير، بدأت قبل الأزمة و«كورونا» بفترة طويلة. وإذْ يبتعد الفيلم كلّيًا عن أحوال البلد وناسه، لانغماسه في ذاتِ المخرج وعلاقته بالكتابة والمرأة والبحث عن خلاصٍ من ارتباكاتٍ وآلامٍ وقلاقل؛ فإنّ التجربة السينمائية تستحقّ قراءة نقدية، لما فيها من أدوات وأساليب اشتغال، تؤكّد أنه لا حاجة دائمة إلى أموال كثيرة، فالقلّة متمكّنة من تحقيق الجميل والمهمّ، طالما أنّ النصّ والصورة يستجيبان لشروط الفنّ والسينما. أفلامٌ أخرى غير مرتبطة بالأزمة والوباء، بدأ الاشتغال عليها قبلهما، وأصبحت جاهزة للعرض عشية الدورة الـ 71 لمهرجان برلين السينمائي الدولي، المُقامة افتراضيًا (للمرّة الأولى في تاريخ المهرجان) بين الأول والخامس من مارس 2021: «أعنف حبّ» لإليان الراهب، و«دفاتر مايا» لجوانا حاجي توما وخليل جريج، و«عَ أمل تجي» لجورج بيتر بربري. الأول وثائقي، تُكمِل به الراهب مشروعها الوثائقي اللبناني، وبعضه متعلّق بنبش الذاكرة اللبنانية، وبمعاينة الراهن اللبناني وأحواله. والفيلمان الآخران روائيان طويلان، يستعيد الأول تجارب مختلفة لأفرادٍ يعيشون الحرب الأهلية اللبنانية، ويهاجرون بعدها، ثم يعودون إلى البلد مُحمّلين بتداعيات تلك التجارب والذكريات؛ والثاني يتحرّر من كلّ ثقلٍ، اجتماعي وثقافي وأخلاقي، إزاء تلك الحرب وهذه الذاكرة، لانغماسه في شؤون خاصة بسنّ المراهقة، عبر شبانٍ يختبرون تجارب حياتية للمرّة الأولى.
5 أفلام في ظلّ «كورونا»
في مرحلة متقدّمة من الأزمة الاقتصادية و«كورونا»، أنجزت أفلامٌ استلّت حكاياتها ونواتها الدرامية واشتغالاتها المختلفة من الأزمة والوباء، أبرزها مشروع بعنوان «كاميرا واحدة/ أسبوع واحد/ 5 مخرجين» (إنتاج «درج» وISM)، بحثًا في كيفية العيش في ظلّ «كورونا»: «تسليط الضوء على ما تختبره البشرية بسبب فيروس كورونا»، بهدف «المشاركة بالسرد والتوثيق خلال هذه المرحلة، وبالتالي تقديم وجهة نظر إضافية مختلفة عن تلك التي يُقدّمها الإعلام الإخباري»، كما في تعريف المشروع.
الأفلام الخمسة، التي يُفترض بمدّة كلّ واحدٍ منها ألّا تتجاوز 5 دقائق، تغوص في إشكاليات ذاتية ومِحنٍ شخصية واختبارات نابعة من حجرٍ منزليّ وإقفال عام وذكرياتٍ تعتمل في غرفٍ ضيّقة، أو في أزقّة فارغة: «إحساس غريب» لزينة صفير، و«كوفيديو» (دمج كلمَتي كوفيد وفيديو في مفردة واحدة، والعنوان بالإنجليزية مُعبِّر أكثرCOVID-eo Diary) لكارول منصور، و«ليالٍ ونهارات في زمن الوباء» للميا جريج، و«النافذة الخلفية» لغسان سلهب، و«ما بعد الأورجي» لمحمود حجيج.
مشتركات عدّة تجمع الأفلام الأربعة الأولى تحديدًا، فالخامس مستقلّ كلّيًا عنها، لانهماكه في علاقة شابّة بالأكل، وإنْ في زمن العزلة. فالحميميّ في العيش اليومي سمة أساسية، يُضاف إليها تداعيات ماضٍ وذكرياتٍ، وعلاقات معلّقة مع أهلٍ وأصدقاء ومدينة. كأنّ الوباء دافعٌ إلى محاورة الذات عبر عدسة الكاميرا، وإلى استعادة شيء من التباس العلاقة بالمدينة وشوارعها عبر نافذة أو زقاق أو لقطاتٍ. عيش لحظاتٍ يتحوّل، مع مخرجي تلك الأفلام ومخرجاتها، إلى سردٍ، يعتمد الصمت أحيانًا كلغة قول وتعبير عبر صُور متتالية، ويستعين بالشعر أحيانًا أخرى لمواءمة البصريّ بالمكتوب في الغوص بعيدًا داخل المدينة والروح والجسد.
هذه اختبارات. أفلام أخرى باتت في المراحل الأخيرة من إنتاجها، لكنّ العطب اللبناني خانقٌ، وتأجيل كلّ شيء مُثير لمزيد من القلق. مشاريع، يُفترض أنْ يبدأ تصويرها عام 2020، لا تزال تنتظر موعدًا لذلك، وأخرى يُصرّ أصحابها على تنفيذها قريبًا. الكتابات غير متوقّفة، فمخرجون ومخرجات عديدون يواجهون الخراب بالكتابة، ويُدركون أنّ تحقيق ما يبغون إنجازه سيحصل يومًا ما ■
نادين لبكي ممثلةً في «1982» لوليد مونّس