عادات عربية في العيش المستدام ومفهوم البَرَكة
مع ظهور الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، ابتدأ نمو النزعة الاستهلاكية لدى الشعوب، وازدادت القدرة على التصنيع واقتناء الأشياء والتخلّص منها بشكل سريع، وفي السنوات التي تلت ذلك، استمر هذا المسار من الاستهلاك المتزايد؛ إن كان من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية، مثل المأكل والملبس والمسكن، أو من أجل تحقيق المتعة والترفيه، مثل شراء الأزهار والقيام بالرحلات، وكل ما يتعلّق بأمور الزينة أو للاكتناز والتخزين، مثل اقتناء التحف والكتب وغيرها، أو من أجل التباهي والتماشي مع مرتبة اجتماعية معيّنة كشراء أحدث ماركات الملابس أو الهواتف الذكية أو السيارات وغيرها.
كل ذلك أدّى إلى وصولنا لمرحلة من الجشع الذي بدأ يهدد سلامة البيئة العالمية ويضع ضغوطًا متزايدة على الموارد الطبيعية المحدودة، ومن أجل ذلك شهدنا في أواخر القرن العشرين حركات تنادي بالحدّ من الاستهلاك المتسارع، وتدعو إلى اتّباع طرق العيش المستدام وإعادة التدوير والحفاظ على موارد كوكبنا بشتّى الوسائل المتاحة.
لكن قبل كل هذه الحركات، ومن دون أي جهد أو تخطيط مسبق، كانت العادات والتقاليد وسبل العيش المتبعة في معظم البيوت العربية في الزمن الماضي تمثّل ترجمة فعلية لكل هذه الحركات الحديثة وتختصر في طيّاتها حكمة الأجداد في بساطة العيش المنشودة بكثرة في هذه الأيام.
تحضير الطعام بلا هدر
يقول مسؤول برنامج أنماط الحياة المستدامة في الأمم المتحدة غاريت كلارك: «يمكن للأفراد ومقدّمي الغذاء أن يقللوا من هدر الطعام، من خلال التخطيط لما يحتاجه الطعام، وتصميم الأطباق التي تستخدم بقايا الطعام وإدارة كيفية تخزين الأغذية». وهذا ما كان يحدث بالضبط في مطابخ أجدادنا، حيث كان يتم تحضير الطعام من دون أيّ هدر على الإطلاق، لأنّ الطعام - حسب المفهوم الثقافي/ الديني العربي - هو «نعمة»، والنعمة هي من عند الله عز وجلّ، لذلك يجب عدم التفريط بها، بل المحافظة عليها إلى أقصى الحدود. فكان لكل جزء من الخضار والفاكهة من البذور إلى الجذوع والثمار استخدام معيّن من لبّ الكوسة الذي يبقى بعد تفريغه، حيث كان يحضّر إمّا في صنع العجّة أو في تتبيلة لذيذة، أو بذور البطيخ التي كانت تُجمع وتُجفف ويتم تحميصها فيما بعد، ليتمّ تناولها في الجمعات والسهرات العائلية.
وحتى اللوز ذو الطعم المر الموجود في نواة حبات المشمش الذي كان يستخلص ويحضّر مع السكر أحيانًا. أمّا فضلات العنب والتفاح الناضج، فكانت تجمع على مدى أيام في أطباق مغلقة لتتخمر ويُصنع منها إمّا خل العنب أو خلّ التفاح، ناهيك بالفاكهة المتساقطة من الأشجار المثمرة التي كانت تحوّل إلى مربّات لتكفي الأسرة في فصل الشتاء بأكمله، إضافة إلى قشور الخضار والفاكهة التي كانت تستخدم سمادًا لإثراء التربة في حديقة المنزل الخلفية إن وجدت. وحتى ما يفيض من النعناع الأخضر، فكان يجفف ومن ثم يُطحن ويُخزّن في أوعية ليتم استخدامه لاحقًا في تحضير أطعمة أخرى. وإذا ما علمنا أنه وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، إن سكان العالم يهدرون ثلث الغذاء الموجّه للاستهلاك البشري، حيث تقدّر الكمية المهدورة من الغذاء عالميًا بحوالي مليار و300 مليون طن سنويًا، أي ما تصل قيمته إلى 980 مليار دولار، مما يعدّ مشكلة عالمية فعلية، لذلك فإنّ خبايا المطابخ في البيوت العربية التقليدية كانت وسائل مهمة في تجنّب هذه المشكلة وكل تداعياتها السلبية بيئيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.
إتقان فن العيش المستدام
من ناحية أخرى، وبعيدًا عن الطعام، هناك في البيوت العربية الكثير من الممارسات التي تعتبر صديقة للبيئة بامتياز، فمَن منّا لا يتذكر علبة الخياطة في المنازل القديمة التي غالبًا ما تكون عبارة عن علبة بسكويت حديدية فارغة تضمّ كل مستلزمات الخياطة من خيطان وإبر ودبابيس ومقصّات وغيرها؟ إضافة إلى مجموعة من الأشياء المستخدمة، مثل أزرار نُزعت من ملابس قديمة لم تعد صالحة للاستخدام وقطع أقمشة متبقية من أثواب قديمة، أو بقايا بسيطة من لفائف دانتيل جميلة لإعادة استخدامها من جديد. كما كانت الشراشف واللحف القديمة تحوّل بواسطة ماكينة الخياطة الموجودة في كل بيت تقريبًا إلى فوط للتنشيف في المطبخ، أو لتنظيف الأرض، أو حتى أنه كان يُصنع منها نزّالات المطبخ أو أشياء مفيدة أخرى. ولحياكة الصوف قصة أخرى، فكانت الكنزات الصوفية التي تصبح صغيرة على الأطفال، والتي لم يعد يصلح ارتداؤها، تفكك لتتم إعادة حياكة خيوطها من جديد لصناعة ملابس أخرى، وقد تضاف إليها بعض الخيوط الإضافية إذا لزم الأمر، لتكفي لصناعة تلك الكنزة أو الشال أو الجوارب الجديدة.
يقول رئيس وحدة الابتكار في شركة ملابس Levi’s الأميركية، بول ديلينجر، إنه يجب أن نتعامل مع ملابسنا كالأزهار، أي بكل العناية والرعاية الملائمة حتى تدوم وتبقى معنا لأطول فترة ممكنة. وهذه العناية هي بالضبط ما كان يعتمدها أسلافنا في البيوت العربية بالتعامل مع قطع الملابس المختلفة، إذ لم يكن يتم التخلص منها عند أول علامة تمزُّق أو أي مشكلة أخرى، بل كان يتم إصلاحها أو رتقها لتدوم لفترة أطول، لا سيما الجوارب التي كانت ترتّق كلما ظهر فيها أيّ ثقب، أو تخضع للقص من الأمام وتعاد خياطتها لتكون النتيجة أن يقصر من طولها على الساق، وتُعاد تلك المسألة وتتكرر إلى أن تصبح غير صالحة للاستعمال على الإطلاق.
إلى جانب الملابس، كانت معظم الأشياء، بالنسبة إلى أجدادنا، قابلة للتصليح أو إعادة الاستخدام أو للإنقاذ بطريقة ما، وينطبق ذلك على أكياس النايلون المستخدمة التي كانت تغسل وتقلّب على الوجه الآخر وتُنشر تحت أشعة الشمس، ومن ثمّ توضّب من أجل إعادة استخدامها من جديد أو حاويات اللبنة أو الحلاوة التي تُغسل وتُستخدم في حفظ أطعمة أخرى، أو حتى أشياء أخرى في أماكن متعددة من المنزل.
باختصار، كانت لدى أجدادنا براعة خلّاقة في الحصول على قيمة أموالهم من الأشياء التي يشترونها إلى آخر رمق، ولم يكونوا ممّن يساهمون بشكل كبير في تدفّق النفايات عن طريق شراء منتجات جديدة لم يكونوا بحاجة إليها حقًا كما هو حاصل اليوم.
عادات عربية واقتصاد المشاركة
من جهة أخرى، يكثر الحديث هذه الأيام عن اقتصاد المشاركة وفوائده في الحد من النزعة الاستهلاكية المتسارعة، والذي يعتمد، في أساسه، على مبدأ «الاستهلاك التعاوني»، الذي يدعو إلى تشجيع استئجار الأشياء واقتراضها، بدلًا من شرائها من باب استخدام عدد أقل من الأصول للقيام بأمور مماثلة.
وفي هذا الإطار، راجت بعض المكتبات التي تعمد إلى إعارة الأشياء المختلفة والأدوات ضمن مجتمعات معيّنة، مثل ما بات يُعرف بـ «مكتبة الأشياء» و«مكتبة الأدوات»، حيث نجد على أرفف الأولى أدوات وتجهيزات منزلية، مثل ماكينة تنظيف السجاد وآلة صنع المعكرونة، وماكينة الخياطة، وسلّم، مثلًا، وكل ما يستعمل في المنزل من وقت إلى آخر وإن ليس بشكل دائم، ونجد في الثانية كل ما يتعلّق بأدوات التصليح المنزلي من مفارك للبراغي وآلات للثقب وفرشات للدهان وغيرها. ولطالما كان الاقتراض من الجيران ممارسة شائعة في البيوت العربية القديمة، حيث كان جزءًا من شبكة العلاقات القائمة بين الناس وبين مَن كانوا يعيشون بالقرب منهم، إذ لم يكن أي شيء في البيت يخصّ سكانه وحدهم، بل كان للجيران نصيب فيه، إن كان مواد تموينية؛ كالطحين، والسكّر، والأرز، والزيت، والملح وغيرها، أو أدوات منزلية، مثل أواني المطبخ أو مكواة أو حتى قطعة ملابس.
وكأنهم في ذلك كانوا يطبّقون التسلسل الهرمي للاحتياجات الذي تحدّث عنه عالِم النفس أبراهام ماسلو، الذي حدد فيه منظورًا جديدًا للاستهلاك يعتمد على الاستهلاك الواعي والاكتفاء بالحد الأدنى من المشتريات، حيث تكون تلبية الاحتياجات الأساسية بترتيب معيّن، إذ تأتي فيها المبادلة والاستعارة بعد الشراء وصنع الأشياء التي نحتاج إليها بأنفسنا، أو بالأحرى عندما يصبح الشراء ضرورة في أعلى الهرم فقط عند استنفاد جميع الخيارات الأخرى.
وقد تكون هذه العادات التي كانت قائمة في البيوت العربية القديمة بكل عفوية وتلقائية مرتبطة بمفهوم البركة المتجذّر في الثقافة العربية، وهو المفهوم الذي يعتمد في أساسه على النماء والزيادة، والاكتفاء بما هو حاصل لأنّه يفي بالمطلوب. ومن هنا ربّما يكون التمسك بمفهوم البركة كافيًا ليقدّم لنا دروسًا في المستقبل، من شأنها أن تنقذ العالم يومًا ما عندما نكتفي بما هو قليل، ونحافظ على ما أنعم الله به علينا، ونتشارك به مع الآخرين لتحلّ البركة بين بني البشر ■