الأديب السوداني نبيل غالي: هل أصبحتُ مثل الطائر الذي أضاع وَكرَه؟
لم يكن نبيل غالي جرس قاصًا فحسب، بل ظلّ وما زال ناقدًا أيضًا وكاتبًا صحفيًا وباحثًا ومؤلفًا، اتسمت مؤلفاته الأخيرة بطابع البحث التوثيقي، مما يجعلنا نطلق عليه «ذاكرة الأدب السردي في السودان»، وكان قد تحقق له أن يحجز مكانه بين الصفوة المبدعة قبل أكثر من نصف قرن من خلال «رابطة سنار الأدبية» التي سعى إلى تأسيسها في نهاية ستينيات القرن العشرين، ثم إصداره في السبعينيات مجموعته القصصية القصيرة، وكذلك جهوده الملموسة والمتصلة في عمله محررًا ثقافيًا وإدارته لشؤون التحرير بعدد من المجلات والصحف السودانية.
كان غالي قد لفت الأنظار إليه مبكرًا في عالمه السناري الغني بالقصص والحكايات إلى الحد الذي دعا وزير الثقافة والإعلام أن يختاره، وهو في مقتبل العمر، ليكون مرافقًا للقاص الشهير د. يوسف إدريس إبّان زيارته للسودان في السبعينيات، مما فتح له الطريق واسعًا ليكون محررًا بالصحف اليومية، وله سهم وافر في الدفع بعجلة الثقافة، من خلال تحريره الملفات والملاحق الثقافية، والمشاركة في كثير من الندوات والحوارات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، ولجان تحكيم المسابقات، والمهرجانات والفعاليات الثقافية والأدبية، سواء في السودان أو خارجه، منها المربد العراقي، وكذلك ترؤسه في النصف الثاني من الثمانينيات القسم الثقافي (دورة كاملة) بالإذاعة السودانية «هنا أم درمان»، بينما أنعمت عليه مجهوداته الكبيرة المتلاحقة بأن ينال نوط الجدارة للآداب والفنون عام 1980، والوسام الذهبي للنقد والدراسات 1984، والشهادة التقديرية في الثقافة والفنون 1991، ثم الميدالية الذهبية في الآداب والفنون من ولاية الخرطوم عام 1997، ودرع المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الوايبو) 2008، وحصوله في العام نفسه على الدرع الثقافية والفنية لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، ودرع الثقافة من وحدة تنفيذ السدود، ودرع النادي القبطي بالخرطوم 2010، ودرع صحيفة اليوم التالي 2014، التي يقف حاليًا على إدارة تحريرها. وتقديرًا لتاريخه العريض، ودوره المتعاظم في خدمة الأدب السردي، طرح نادي القصة السوداني، بالتعاون مع «محلية الخرطوم» في 2010، جائزة للقصة القصيرة تحمل اسمه.
وقد تضافرت عوامل عدة خاصة بالأديب غالي، فجعلت الحوار معه يتأخر كثيرًا، ولا يكتمل إلا بعد أكثر من عام، وما إن جلست إليه «العربي» في آخر مرة، حتى كانت البداية.
دراستان نقديتان
• ما الذي يشغل بالكم حاليًا إلى هذا الحد؟
- غير العمل والهمّ الصحفي الذي يتطلب تفكيرًا وجهدًا مضنيًا، فإنّ لمشاغل الحياة اليومية تحدياتها التي لا تنقضي، ومع هذا أجدني مهتمًا منذ سنوات بموضوعات كبيرة مهمة، وهي الإعداد لدراستين نقديتين في كتابين لكلّ من القاص محمود محمد مدني، والروائي عثمان الحوري، بجانب وضع اللمسات الأخيرة لكتابي بعنوان «ببليوغرافيا القصة القصيرة السودانية» من (1952 - 2020)، وثمّة مخطوط آخر ينتظر النشر عنوانه «السرد النسائي السوداني - الرواية والقصة القصيرة نموذجًا - ببليوغرافيا»، وكلّها مساعٍ تستغرق الوقت والجهد والعمر، ألا ترى أن هذا الحوار استغرق فترة طويلة حتى يكتمل؟!
انعكاسات النشأة
• إذا عدنا إلى البدايات... أنت نشأت في بيئة إسلامية عريقة، «سلطنة سنار»، وهي غنيّة بالطرق الصوفية، وأولياء الصالحين، وموّارة بقصصهم وحكاياتهم وكراماتهم وما يحيطها من بدع وخوارق، فما هي انعكاساتها على تشكيل أفكاركم وقناعتكم؟
- مملكة سنار أو سلطنة سنار، أو الدولة السنّارية، أو السلطنة الزرقاء، وكلها أسماء لدولة الفونج التي قامت في أعقاب سقوط الدولة المسيحية، واستمرت على مدى ثلاثة قرون (1504 - 1821)، لذا فهي الرمز والمحتوى، ولعبت دورًا كبيرًا في الثقافة السودانية، وكانت مركزًا لإشعاع العلم، ودامت نبعًا مهمًا لأدب المبدعين وقصائد الشعراء السودانيين القدامى والمحدثين، و«ملوك سنار»، كما قال الأديب العالمي الطيب صالح، في حوار لصحيفة الشرق الأوسط عام 1983 «كان يأتيهم العلماء من فأس وشنقيط، وتونس وحتى من الحجاز ومصر».
في تلك الأجواء المشبّعة بالعلم والقيم الروحية والتراث والقص الشعبي، نشأت منذ مولدي في ديسمبر 1949م، ورغم أنني أعتنق المسيحية، فإن ذلك لم يمنعنِ من تعلُّم القرآن الكريم ودراسته في الخلوة، شأني في هذا شأن كل أندادي في مدينة سنار، ثم ألحقت بالمدرسة الأوّلية، وأعتبر أنها كانت مرحلة إعداد لتعلُّم العربية الفصحى، ولكن ما ظل محفورًا في ذاكرتي وكان له أثر كبير في مجرى حياتي، عندما علم معلم التربية الإسلامية، أو كما كان يطلق عليها آنذاك «حصة الدين» بأنني أدين بالمسيحية طلب منّي عدم حضور الحصة، ولما ذهبت إلى المنزل باكيًا، أتى بي الوالد إلى المدرسة، واستسمح مديرها (الناظر) بأن أحضرها مع الزملاء، ولا ضير في ذلك.
حقيقة كان ذاك دافعًا ومحركًا كبيرًا لأجوّد هذه المادة، وتعلّمت من خلال حفظي القرآن الكريم كثيرًا من المفردات والمعاني العربية، وطرائق الأساليب الكتابية، فضلًا عن القيم التي تنزلت في آياته الكريمة، بجانب قراءتي للإنجيل، لكنّني ظللت أحقق نجاحًا مستمرًا في «التربية الإسلامية» بإحرازي أعلى درجة في الفصل في كل المراحل، حتى أحرزت في امتحان الشهادة الثانوية لعام 1969م أعلى درجة فيها على مستوى ثلاث محافظات (سنار والجزيرة والنيل الأزق)، وكلّه في إطار التسامح الذي يسري في النفوس، والإحساس بأن الأديان رسالات سماوية تجمع ولا تفرّق، وهو إطار كوني يمثّل قمّة الإنسانية، والاعتراف بالآخر مهما كانت عقيدته.
لم ينقطع تعلّقي بالعربية الفصحى، وكل ما يتصل بها من إبداع على مدى السنوات، وما فتئ له انعكاساته الواضحة خلال مسيرتي الأدبية والصحفية، جلاها الأستاذ مصطفى عوض الله بشارة في دراسته النقدية لمجموعتي القصصية القصيرة «اتكاءة تحت عيون حبيبتي»، بأنها تحوي ثقافة إسلامية عالية بالتقاطه لملامح من الرؤية الإسلامية في قصص عدة، مستدلًا بأمثلة وشواهد، وكشف أنني استفدت من قراءاتي للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
ومن جانب آخر، ترأّست في النصف الثاني من الثمانينيات القسم الثقافي - دورة كاملة - بالإذاعة السودانية (هنا أم درمان)، ولما كنت مديرًا للتحرير بصحيفة «الأهرام اليوم» اليومية قبل سنوات، كنت أحرر خلال شهر رمضان المعظّم صفحة «رمضانيات»، دون أن أشير إلى اسمي، وأعتقد أن هذا شيء طبيعي، فالإنسان ابن بيئته، والإبداع عمل متصل بجوهر الإنسان، لذا تجدني مدين بتجربتي إلى سنار والرابطة الأدبية.
• هل لنا أن نعرف ما هي علاقتكم وارتباطكم بتلك السلطنة التاريخية؟
- حقيقة ترجع أصولنا إلى جمهورية مصر (أقباط مصر)، وجاء أجدادنا في شبابهم إلى السودان، إثر الفتح التركي المصري في القرن التاسع عشر، واستقروا بمدينة سنار، التي كانت عاصمة الدولة السنارية قبل الفتح، ومن بينهم جدّي لأبي، وبتواصلهم واندماجهم في المجتمع السناري صاروا من المعروفين، وأصبح جدي من رموز المجتمع السناري، وتعجّ المدينة حاليًا بكثير من العائلات القبطية.
مذهب الواقعية السحرية
• كيف تشكّل وعيكم وفكركم بالكتابة الإبداعية... وعالم القص؟
- افتقدت في صغري حكايات الجدات (الحبوبات)، مما اضطرني إلى سماع كثير من الحكايات والقصص التي تنبض في مجتمع سنار من أفواه الأطفال الذين في عمري، ولعلها من الأشياء التي جعلتني حكاءً، خاصة أن المنطقة غنية بأولياء الله الصالحين وما يحيط بهم من قصص وحكايات، كتب عنها عدد من الرحالة الأوربيين، والتفت إليها قبل أكثر من قرنين ونصف تقريبًا الشيخ محمد ود ضيف الله (1727 - 1810)، كمؤرخ سياسي واجتماعي لتلك الفترة، ودوّنها في كتابه الموسوم والتوثيقي المهم (الطبقات)، الذي يحوي ملامح ما يسمى بـ «الواقعية السحرية»، أو «الواقعية العجائبية»، وما يرتبط بها من خوارق العادات والبدع وما يشبه الخرافات أو المثيولوجيا كثقافة شعبية سائدة.
وإذا أدركنا أن «الواقعية السحرية» هي مذهب أدبي برز في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، فيعتبر ود ضيف الله رائدها على مستوى العالم، ولو اهتم الباحثون وأهل الأدب والنقاد بذاك التراث لتفوّقوا على غيرهم عالميًا في استنباط نمط مغاير من الإبداع، وكان بديهيًا أن أفاد منه بقدر استطاعتي، ويفيدني الحكي فيما بعد في تقمّص دور الجدة (الحبوبة) في مجال القصص القصيرة.
رابطة سنار الأدبية
• عرفنا أنك على رأس الذين أسسوا «رابطة سنار الأدبية» في ستينيات القرن الماضي، ما هي منطلقاتها، وإلى أي حد كان لها أثر في النهضة الثقافية والأدبية في ذلك الوقت؟
- لقد كنّا شبابًا في مقتبل العمر، لا يتجاوز أكبرنا العشرين عامًا، ومن ثمّ كان تطلُّعنا أن تخرج الكلمة من أسنان أقلامنا، كما خرجت من قبل من فيه أو على لسان شيخنا فرح ود تكتوك، (1635 - 1732)، وهو أحد أولياء الله الصالحين الذي يرقد في قبره شرق خزان سنار.
وكان من المحفزات لتكوين الرابطة ما ذكره المؤرخ السوداني سليمان كشة في كتابه سوق الذكريات، بأن أول جمعية أدبية أنشئت في السودان كانت في مدينة سنار عند إنشاء خزان سنار عام 1914، وقبل أن يتوقف بسبب الحرب العالمية الأولى، وكانت تسمى روضة الشعر، لكن مع مرور الزمن توقفت الجمعية، وفي عام 1968 اعتزمت برفقة الروائي مبارك الصادق إحياءها تحت مسمى رابطة سنار الأدبية، وتضمّ عدة شُعب، للقصة، والرواية، والنقد، والمسرح، والشعر، والموسيقى، والغناء، بجانب شعبة للمطبوعات، انبثقت عنها في البداية مجلة شهرية كانت تُطبع على ورق الرونيو، باسم سنار الأدبية، وبعد نجاحها، عملنا على تطويرها تلبية لطموح المثقفين والمبدعين، بالتوسع في مساحات النشر وزيادة الكميات المطبوعة، وأطلقنا عليها اسم مجلة الزرقاء، تيمنًا بالسلطنة الزرقاء.
استطاعت مجلة الزرقاء، في وقت وجيز، أن تحرز نجاحًا منقطع النظير، وأن يخرج من رحمها «دوريًا» كتاب بالعنوان ذاته، يحتوي على مجموعات قصصية وشعرية، إضافة إلى الكتابات النقدية، إذ كانت المساحات المفردة آنذاك للآداب والفنون بصحفنا السيّارة والمجلات من الضيق ما لا يستوعب المدّ الإبداعي المنهمر على امتداد السودان، ومن ثمّ أصبحت تسجّل حضورًا قويًا داخل المؤسسات والمراكز الثقافية والجامعات والمكتبات، مما جعل الكثيرين ينشرون خلالها نصوصهم البكر، أمثال القاص المعروف عيسى الحلو، والشاعر الراحل مصطفى سند، والشاعر الراحل محمد عثمان كجراي، كما قدّمنا دراسة نقدية عن الشاعر مبارك المغربي وغيرهم، حتى صارت تنقل عنها صحافة السودان، كما أفلحنا في نقل المجلة إلى الخارج بواسطة الطلاب السودانيين بالجامعات في الوطن العربي، ووجدت قبولًا جيدًا، وحتى الذين قرأوها من الرموز العرب كتبوا عنها بصحيفتي الأهرام وأخبار اليوم المصريتين، منهم الأساتذة جمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم، ويوسف القعيد. وحينئذٍ كان للرابطة ومطبوعاتها دور كبير في الدفع بحركة الثقافة والأدب في السودان.
• ماذا عن نشاطكم الإبداعي فعليًا، خاصة وقد عرفت في فترة ما بـ «عراب رابطة سنار الأدبية»؟
- جميل... لقد شاركت في التمثيل، وكتبت عددًا من المسرحيات وتم تمثيلها، ونحن أوّل من سعى إلى تحويل رواية بندر شاه للأديب الطيب صالح إلى عمل مسرحي، كما كنت مهتمًا بالأدب الإنجليزي، وعملت في نهاية الستينيات على تعريب عدد من القصص والقصائد، وتم نشرها في مجلة الزرقاء بجانب مجلات الإذاعة والتلفزيون، والشباب والرياضة، والحياة.
ومن ناحية ظللت أنافح باستماتة لكلّ من يتصدّى بالنقد لأدباء الرابطة، وكنت شرسًا جدًا على الورق تجاه كل مَن ينتقص أو يقلل من جهدهم، ولعلها حالة من حالات الصدق مع النفس والتجرد في الكتابة، لذا أطلقوا عليّ اسم «العراب».
بذرة الإبداع
• كيف انبثقت بذرة إبداع القصّ القصير الذي اشتهرت به... رغم ممارستك لفنون عدة؟!
- كنت وأنا تلميذ لم يتجاوز السنوات العشر أجتهد في رسم زهور الأشجار، وكل ما يقع تحت بصري؛ سواء في الأواني الفخارية أو زجاجات العطور أو الطيور أو شمس الخريف الماطر عند الغروب، وتطوّر الأمر إلى رسم تأمُّلي، وفي خواتيم دراستي للمرحلة الوسطى، بدأ شقيقي جميل غالي كتابة بعض الحكايات التي كان يستقيها من أفواه الكبار، خاصة تلك التي اتخذت من «الخرافة» مسارًا لها، وحينئذٍ واتتنا الفكرة بأن نصدر كتابًا بشكل بدائي من أوراق الرسم، فكان يخطّ وينسخ بيده ما يكتب، وكنت أقوم بتصميم الرسومات على الغلاف الأمامي، وبعد حين انقلبت الآية رأسًا على عقب، فأخذت أكتب الحكايات والقصص القصيرة، في حين يقوم شقيقي برسم لوحة الغلاف، ومن هنا أخذت بذرة الإبداع تطلّ برأسها من تربة موهبة كل منّا، ولمّا شعرت بأنني أخذت بناصية القصة القصيرة، بدأت أرسل بعضها وأنا في الثانوية في عمر ما بين 17 و18 سنة للمجلات التي ذكرتها آنفًا، وبحلول عقد السبعينيات عملتُ مراسلًا لصحيفة الأيام اليومية، ومن ثمّ بدأت أرسل أقاصيصي بالبريد للأستاذ عيسى الحلو، وكان ينشرها بالملف الثقافي في الصحيفة، ثم تطورت الفكرة شيئًا فشيئًا، حتى أثمرت في منتصف السبعينيات عن مجموعة قصصية قصيرة بعنوان «اتكاءة تحت عيون حبيبتي».
قصصي تجارب شخصية
• كيف تكتب القصة؟
- دائمًا أصنّف نفسي من الكتّاب الذين يمزجون الواقع بالخيال، فأقاصيصي القصيرة تعبّر عن الواقع، متغذية بما يجعلها عملًا إبداعيًا جاذبًا. والقصص التي أكتبها تمثّل تجارب شخصية أو مواقف خاصة بي، لم تمرّ على غيري، ولا يمكن لقصتي أن تشابه قصة قاصّ آخر، وقصصي مثل سيناريوهات الموت لا تتشابه إطلاقًا، حتى تكون لي بصمتي الخاصة.
وكلها مرتبطة بالواقع والحياة السنارية وما فيها من غرائب وعجائب حتى على مستوى الشخوص، مثل «آدم مرفعين»، وهو شخصية حقيقية، لكنها غريبة الأطوار بما يشبه الأسطورة، ولقّب بهذا الاسم لأنّ ثمّة اعتقادًا بأنه ينقلب إلى «مرفعين» (ذئب)، و«دوكة دمبل»، وهو أيضًا رجل مشهور في مدينة سنار، حارب مع «قوة دفاع السودان» بمعركة كرن في 1941م أثناء الحرب العالمية الثانية، ولديه من العجائب والبدع ما يذكّرني بأحد شخصيات غارسيا ماركيز.
لا أصلح للرواية
• رغم تعدُّد مسارات الكتابة لديك من ناحية، واتجاه كثير من كُتاب القصة القصيرة إلى الرواية أو القصة القصيرة جدًا... الملاحظ أنك لم تطرق هذين النوعين الإبداعيين.
- حقيقة في فترة ما جرّبت كتابة الرواية، لكن عندما أدركت أنّي لا أصلح لها أعدمتُ ما كتبت، وتوقفت عند حدّ القصة القصيرة، لأنني لا أحبذ كتابة السرد المسمى بـ «القصة القصيرة جدًا»، أو «السرد الوامض»، حسبما أطلق عليه الدكتور العراقي صالح هويدي، فهو عبارة عن ومضات، وربما تكون موجودة في الشعر، ويمكن لبيت شعر واحد أن يشكّل ومضة، وهذا موجود قديمًا عند العرب في أبيات شعرهم، وللشاعر أدونيس ومضات في بعض قصائده يمكن أن يطلق عليها «قصة قصيرة جدًا».
وعدم حماسي لكتابتها لا يعني أنني أنكر شرعيتها، أو أناصبها العداء، بل هي فنّ له مبدعوه، وأثارت اهتمامي واهتمام النقاد في الوطن العربي، منذ بداية ظهورها في ختام الستينيات وطوال السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، وكثُر الذين نذروا مواهبهم لها واجتهدوا في كتابتها، وأولاها النقاد عناية وتنظيرًا، وفي السودان قدمت الأستاذة فاطمة السنوسني نماذج جيدة لـ «القصة القصيرة جدًا» جرت حولها دراسات نقدية، وللأستاذ صلاح سرّ الختم مجموعة بعنوان «كرات النار»، وله كتاب «فن الرسم بالكلمات»، يحوي دراسة فن «القصة القصيرة جدًا»، ويعدّ الأول من نوعه في المكتبة السودانية.
انفجار هائل للرواية
• لكن تلاحظ تراجع حضور القصة القصيرة في المشهد الثقافي عمومًا؛ سواء في الداخل أو في الوطن العربي؟
- هذا القول في مطلق عموميته ليس صحيحًا... وربما بسؤالك تريد أن تحيلني إلى مقولة أن هذا زمان الرواية في الوطن العربي.
• نعم هذا ما قصدته فعلًا.
- نعم هنالك انفجار هائل للرواية من حيث المطبوع، وزخم في الجوائز المعنيّة بها، وغدت أعين معظم كتّابها على الشهرة والعائد المادي، وأصبح إقبال الناشرين على طباعة الروايات أكثر من المجاميع القصصية.
لكنّ القارئ بإمعان يدرك أن الذين يكتبون الرواية الآن؛ سواء في السودان أو العالم العربي، هم كتّاب وليسوا مبدعين إلّا مَن رحم ربي، وهم قلة. وهيمنة الرواية الآن على المشهد السردي - حسب رأيي - ما هي إلا هيمنة «جوائز» و«فعاليات» خاصة بها، لذا أصبحت القصة القصيرة في الظل، ولا تجد اهتمامًا من النقاد.
نعم هناك كتّاب هاجروا من الشعر أو القصة القصيرة أو النقد حتى إلى الرواية، لكنّ أغلبهم ليس شغفًا بها وبعوالمها المثيرة الرحبة، وإنما بسبب الإغراءات.
وأعتقد أن المشكل الحقيقي للسردين هو التراجع في الاطلاع لا في الكمّ الصادر عن المطابع، وما أراه ويزعج حقًا أن ثمّة ملامح «قطيعة» لدى القارئ اليوم في مطالعته للمصادر المعرفية المكتوبة بمختلف أصنافها، بعد أن أضحت الثقافة البصرية هي الغالبة، ومع ذلك علينا ألّا نلعن الظلام، مع عدم مبالغتنا في فرضية أن «الكتاب خير جليس» في زماننا هذا!
بيد أن المتابع يلحظ أن جائزة «الملتقى للقصة القصيرة» في الكويت، والتي يقف على سنامها الأديب والناقد د. طالب الرفاعي حينما أكملت دورتها الرابعة وهي تخطو نحو الخامسة، يجد أنها شكّلت حضورًا كثيفًا في مشهدنا الثقافي العربي، وقدّمت أسماء جديدة من الكُتاب والكاتبات في الوطن العربي، وبالتالي نجحت هذه الجائزة الرصينة في أن تقدّم «الخطاب الإحيائي» للقصة القصيرة العربية وتحرّك ساكن البركة في الكتابة القصصية.
جيل بلا نقّاد
• على ذكر النقد والنقاد، في منتصف السبعينيات، دعا الناقد المعروف عبدالقدوس الخاتم الشباب إلى السعي لنقد أعمالهم الإبداعية بأنفسهم، ترى ما وجهة نظرك في هذه الدعوة؟ وهل كان لها أثرها في اتجاهك نحو النقد؟
- قبل أن يطلق الناقد الراحل عبدالقدوس الخاتم دعوته، تجدني حققتها فعليًا، بعدما شعرنا ونحن كوكبة من الشباب الموهوبين الذين يكتبون الرواية أو القصة القصيرة وغيرها بأن النقاد لم يهتموا بما نكتب، ولا يعيروننا أدنى التفاتة، كانوا يهتمون - وقتذاك - بأعمال المبدعين الكبار، أمثال صلاح أحمد إبراهيم، أو خوجلي شكر الله، أو الزبير علي، وغيرهم، لذا اعتزمت الخوض في مجال النقد، مستصحبًا معي صرخة الكاتب العربي المعروف سليمان فياض، التي أطلقها قبل حوالي نصف قرن (نحن جيل بلا نقّاد)، وكنت والروائي الصادق مع مَن حولنا في رابطة سنار نتدارس وننقد أعمالنا بأنفسنا، ثم جاء الناقد الفذّ عبدالقدوس الخاتم في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وأطلقها داويةً بالمبررات ذاتها، فتصدينا كشباب أدبي عريض لخوض هذا المعترك، كل حسب أدواته المعرفية النقدية، لا سيما أن الوعي النقدي يتطلب ثقافة واسعة، وهذا قادني لأواصل التعمق في المشهد النقدي في السودان.
أما فيما يخص أدواتي النقدية، فقد امتلكتها من قراءاتي لباب «قرأت في العدد الماضي»، ومقالات متفرقة بمجلتي الأديب والآداب البيروتيتين اللتين كنت مداومًا عليهما، ومجلة العربي الكويتية التي ظللت محافظًا على الاطلاع عليها منذ منتصف الستينيات وإلى الآن، إذ شكّلت لي حافزًا مهمًا بقراءة العديد من المقالات والكتب النقدية. إذن فقد تلبّستني الذائقة النقدية بجانب كتابة القصة القصيرة، منذ ريعان الشباب، وهذا جعلني دائمًا أستصحب روح الناقد لحظة ميلاد كتابتي للقصة القصيرة، وربما كان لهذا أثره في توقّفي عن كتابتها منذ أكثر من عقدين، وأظل باقيًا لم أغادر متردم النقد.
صحبة يوسف إدريس
• نعلم أنك في سبعينيات القرن العشرين، وأنت تخطو خطوات حثيثة في درب الصحافة، أسند إليك مهمة مرافقة الكاتب الكبير يوسف إدريس حينما زار السودان... ماذا عن انطباعك؟
- نعم... عندما أقيم مهرجان الثقافة الثالث في السودان في عقد السبعينيات، كان من بين المدعوين لذاك المهرجان نجوم سامقة في مجالات الثقافة والأدب في الوطن العربي، أمثال الشاعر السوري نزار قباني، والشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي، والكاتب الكبير يوسف إدريس وغيرهم، وأنا في «سنار» فوجئت بدعوة من وزير الثقافة والإعلام لأكون مرافقًا للقامة إدريس طوال أيام إقامته في السودان، وكان الأمر مفاجأة لي من العيار الثقيل، ومأزقًا لا بدّ من جَلَدٍ للخروج منه بأجمل ما يمكن.
تجاسرتُ وقبلت الدعوة، لأنها فرصة العمر، رغم فارق السن والشهرة، خاصة أنني كنت مطّلعًا على عدد لا يستهان به من نصوصه الفنية التي صدرت وقتذاك، وهذا ما هوّن عليّ صعوبة الرفقة بفندق قصر الصداقة بالخرطوم بحري، وعلى إثر ذلك جالست معه الضيفين العملاقين قباني والأبنودي، وناقشتهم كثيرًا فيما يخصّ المشهد الأدبي عامة. كما اهتبلت الفرصة لإجراء حوار معه لصحيفة الأيام، ورغم أن لديه تحفّظات ذكرها لي، فإنه وافق بأريحية إرضاءً لخاطري، وقال لي كلمات لم تزل عالقة بذاكرتي... «لن أكسر خاطرك، وأرجعك مكسوف»، وأذكر بعدما قمنا بجولة في العاصمة، حضرنا إلى الفندق عند العاشرة ليلًا، وشرعنا في إجراء الحوار الذي استمر لخمس ساعات تخلّلتها بعض القفشات، وكان يردد بين الحين والحين «أتعبتني»... «أرهقتني»، ولما اكتمل الحوار عند الثالثة صباحًا قال لي... «هذا أطول حوار يُجرى معي على مستوى الصحافة الثقافية»، ثم أردف ضاحكًا بسخريته المعهودة: «ومجانًا كمان». ونُشِر الحوار في ثلاث حلقات بالملف الثقافي للصحيفة، وحظيَ بانتشار واسع، ونشرته عدد من صحف الخليج والمغرب العربي، نقلًا عن جريدة الأيام السودانية.
حقيقة، فتح لي ذاك الحوار الباب واسعًا للانتشار، ومهّد الطريق لأكون فيما بعد مشرفًا على الصفحة الثقافية، كما فتح لي الباب واسعًا لأكون واحدًا من بين السبعة الكبار الذين يكتبون أسبوعيًا في باب «اليوميات» بالصفحة الأخيرة لـ «الأيام»، وقد اتخذت كتاباتي مسارًا جديدًا في الشكل والموضوع، بالانتقال إلى الكتابة «الساخرة».
المرأة... حضور متواضع
• في مؤلفك «ببليوغرافيا الرواية السودانية»... هذا المشروع الذي كلفك عشرين عامًا من البحث والتنقيب... لا بدّ أن تكون اكتشفت ما لم يُكتشف من قبل في دروب الرواية والقصة، كما عرفت حقائق ظلت مطمورة لعقود في المجال... وهكذا!!
- هذا أكيد... أجدني أدركت كُتّابًا لم أسمع بهم طوال اشتغالي بالهمّ الأدبي، رغم أن لديهم أعمالًا مميزة، وثمّة آخرون تناولوا ما يُعتبر تناوله في السودان من المحرّمات، كقضايا البيوت الخلفية، أو المسكوت عنه، ولا يعرف لهم حسّ، كما أن معظم الإصدارات في الرواية والقصة السودانية طبعة (أولى) فقط، ونادرًا ما توجد طبعة ثانية منذ الخمسينيات وحتى الثمانينيات من القرن العشرين، لذا عندما نفدت من المكتبات، كان الحصول عليها كالبحث عن إبرة في تلال من الرمال، غير أنّي أدركت من خلال بحثي المستمر في دار الوثائق السودانية أن ثقافة الكُتاب آنذاك ليس من بينها إيداع نسخ من إبداعهم بدار الوثائق حتى التسعينيات، مما جعلني أبحث عنها لأكثر من ربع قرن بين الكتب المفروشة لدى الورّاقين في العاصمة وأطرافها، وكذلك في المدن الكبرى بولايات السودان، وبفضل الله عثرت على كمّ وافٍ من القصص والروايات السودانية التي لم تكن بحوزتي، ومعظمها بحالة يرثى لها.
ومن الملاحظات المهمة أن حضور المرأة في مسيرة الإبداع الروائي في السودان متواضع للغاية من حيث الكمّ في الفترة من 1948 - 2015، إذ لم تسجّل سوى 49 رواية مطبوعة، لـ 35 كاتبة فقط، من جملة الروايات التي صدرت في الفترة نفسها، وعددها 476 رواية، وهناك الكثير، وما يضيق عن ذكره في هذه الصفحات.
خطوة مرهقة
• خمسون عامًا أو يزيد تصرّمت وأنتم في مجال الكتابة، وما زلت تجرؤ على المغامرة والتجريب على أمل تطويع اللاممكن إلى واقع... فهل كان اجتراح «الببليوغرافيا» من هذا القبيل؟ وما الذي كفل لك أن تقدم على هذه الخطوة المرهقة؟ وهل هي الأخيرة في مشوارك الطويل؟
- على الرغم من أنني لم أصل بعد إلى مرحلة الشيخوخة أو الاقتراب من سنّ الثمانين، فحسب تقدير الكاتب والشاعر الفرنسي سان جون بيرس الذي عاش في الفترة من 1887 إلى 1975، كان لا بدّ من المغامرة والتجريب والجرأة على طرق طرائق جديدة في الكتابة، لا سيما أن الشيخوخة تتلبس الكتابة قبل صاحبها، إن لم يواصل ويغذّيها بحصائل معرفية متعددة متجددة، أو كما قال الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا «لا شيء يبدو لي أكثر تعاسة من هؤلاء الكُتّاب الذين يموتون وهم أحياء، آملُ ألا يشيخ جزء مما كتبته»، بذا ندرك أن يوسا يتوجّس من شيخوخة الكتابة، لا شيخوخة العمر، وهذا ما دفعني حينما انقطع عنّي حيض كتابة القصة القصيرة إلى فتح أفق آخر جديد، ولا أستسلم، فكان اجتراح «الببليوغرافيا».
إن ما اقتنيته من كتب في المجال السردي - روايات ومجموعات قصصية سودانية - خلال أربعين عامًا تقريبًا كان كفيلًا بأن يجعلني أقدم على خطوة الإعداد الببليوغرافي، الذي أتيحت لي فرصة التعرف عليه في مظانّ أستاذنا البروفيسور قاسم عثمان نور، بجانب اطّلاعي على عدد كبير من الكتب التي تعني بالببليوغرافيا.
وبما أن هناك نقدًا ثقافيًا وافرًا، فقد حاولت أن يكون إعدادي «ببليوغرافيا ثقافية»، إن جاز التعبير، وهي الابتعاد قليلًا عن الصرامة العالية التي يحيطها بها الأكاديميون، ولقد أنجزت في هذا الفلك كتابين هما «ببليوغرافيا الرواية السودانية» في الفترة من 1948 - 2015، و«إبراهيم إسحق ومشروعه الإبداعي»، وقد صدرا في عامي 2015 و2016م.
وأؤكد لك - أخي عصمت - أنني حينما طرقت المجال البيليوغرافي كنت لا أرى أيّ ضير في توظيف أيّ لون معرفي وجعله عنصرًا فاعلًا في المسار المفاهيمي للكاتب متى حاز ذلك اللون المعرفي طاقة خلّاقة لإدامة شعلة التوهج النقدي، ومغالبة انكفاء الروح. ومع ذلك أتساءل: هل أصبحت مثل الطائر الذي أضاع وكره؟ ■