لندن المدينةُ الساحرةُ

لندن المدينةُ الساحرةُ

  في صباحِ يومٍ رائقٍ، تكتسي فيه سماءُ لندن بالغيومِ التي تسدُ الأفقَ، لكنّها لا تلبثُ، كعادتها، أنْ تتمزقَ لتنقشَ تشكيلاتٍ بديعةً على صفحةِ السماءِ كما لو كانتْ ريشةُ فنانٍ مدهونةٍ بالأبيضِ قد لطختْ زرقةَ السماءِ بالسُّحبِ القطنيةَ المظهرِ. نسير بمحاذاة نهر التايمز من أمام تلك العجلة العملاقة المسماة بـ«عين لندن». أعمدتها الضخمة البيضاء اللون تخترق زرقة السماء، متحدةً مع بياض الغيوم. وقفنا على ممشى النهر نتأمل ضفته الأخرى، إلى اليسار منها، تنتصب ساعة «بيغ بن» العملاقة التي تعلو قصر وستمنستر الشهير، موقع البرلمان البريطاني، فيما تسير على الجسر مركبات مختلف ألوانها بسرعة منخفضة أبرزها حافلات لندن الحمراء ذات الطابقين. 

كان‭ ‬البرج‭ ‬مغطّى‭ ‬بسقالات‭ ‬وأعمدة‭ ‬حديدية‭ ‬سوداء،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هناك،‭ ‬وقتها،‭ ‬أعمال‭ ‬لترميم‭ ‬وصيانة‭ ‬واجهات‭ ‬المجمع‭ ‬التاريخي‭. ‬هنا‭ ‬حيث‭ ‬أعرق‭ ‬الديمقراطيات‭ ‬المعاصرة،‭ ‬وحيث‭ ‬النزاعات‭ ‬الشديدة‭ ‬بين‭ ‬فرسَي‭ ‬الرهان‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬البريطانية‭ ‬حزب‭ ‬المحافظين‭ ‬وحزب‭ ‬العمال،‭ ‬اليمين‭ ‬واليسار،‭ ‬تلك‭ ‬القسمة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تني‭ ‬تتناسل‭ ‬وتتشكّل‭ ‬بعناصر‭ ‬وصيغ‭ ‬ربما‭ ‬كانت‭ ‬متباينة‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬العجوز‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العم‭ ‬سام‭.‬

لكنّ‭ ‬مآلات‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬واحدة،‭ ‬نزعات‭ ‬انعزالية،‭ ‬فئات‭ ‬مهمشة،‭ ‬عمّال‭ ‬مساكين‭ ‬تحكمهم‭ ‬عبودية‭ ‬الرأسمال،‭ ‬أقليّات‭ ‬منتهكة،‭ ‬عنصرية‭ ‬ذات‭ ‬وجوه‭ ‬أبرزها‭ ‬ضد‭ ‬السود،‭ ‬كراهية‭ ‬الأجانب‭ ‬الوافدين‭ ‬والمهاجرين‭ ‬والمهجرين،‭ ‬جندر‭ ‬مستباح،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تعارُض‭ ‬المواقف‭ ‬واختلاف‭ ‬التوجهات‭ ‬وتبدّل‭ ‬المصالح‭ ‬وبسبب‭ ‬منها،‭ ‬ربما‭.‬

 

جولةٌ‭ ‬لندنية‭ ‬كلاسيكية

نترك‭ ‬العجلة‭ ‬العملاقة‭ ‬إلى‭ ‬يميننا‭ ‬ونهر‭ ‬التايمز‭ ‬إلى‭ ‬يسارنا‭ ‬لنمضي‭ ‬بخطوات‭ ‬متمهلة،‭ ‬فنمرّ‭ ‬بمركز‭ ‬ثقافي‭ ‬يتضمن‭ ‬مسرحًا‭ ‬ومحالّ‭. ‬ومما‭ ‬صادفنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الممشى‭ ‬نفق‭ ‬تزيّنه‭ ‬لوحات‭ ‬الغرافيتي،‭ ‬بينما‭ ‬صيحات‭ ‬الصبية‭ ‬تترامى‭ ‬إلى‭ ‬الأسماع،‭ ‬وفيه‭ ‬صعدات‭ ‬ومنحنيات‭ ‬اصطناعية‭ ‬صممت‭ ‬لعشاق‭ ‬رياضة‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬سكيت‭ ‬بورد‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬رياضة‭ ‬التزلّج‭ ‬على‭ ‬اللوح‭. ‬

واصلنا‭ ‬المسير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬قنطرة‭ ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬القناطر‭ ‬الجميلة‭ ‬المتوزعة‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬النهر،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬مخصصة‭ ‬للمشاة‭. ‬ولمّا‭ ‬اعتلينا‭ ‬القنطرة‭ ‬المسماة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬قنطرة‭ ‬الألفية‮»‬‭ ‬لمحنا‭ ‬مبنى‭ ‬دائريًا‭ ‬أبيض‭ ‬جميلًا‭ ‬بسقفه‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬مصنوع‭ ‬من‭ ‬القش؛‭ ‬إنه‭ ‬مسرح‭ ‬غلوب‭ ‬حيث‭ ‬متعة‭ ‬المشاهدة‭ ‬لمسرحيات‭ ‬وليام‭ ‬شكسبير‭ (‬1564‭/ ‬1616‭)‬،‭ ‬وصار‭ ‬في‭ ‬الخلف‭ ‬منّا‭ ‬مباشرة‭ ‬مركز‭ ‬الفنون‭ ‬الحديثة‭ ‬والمعاصرة‭ ‬‮«‬موديرن‭ ‬تيت‮»‬‭ ‬المنتشر‭ ‬بفروعه‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة‭. ‬

اجتزنا‭ ‬النهر‭ ‬فتراءى‭ ‬لنا،‭ ‬قبالتنا‭ ‬مباشرة،‭ ‬بناء‭ ‬تعلوه‭ ‬قبّة‭ ‬فاتنة‭ ‬وذات‭ ‬ارتفاع‭ ‬لافت؛‭ ‬إنها‭ ‬كاتدرائية‭ ‬القديس‭ ‬بولس‭ ‬العتيقة‭. ‬كنيسة‭ ‬لها‭ ‬تاريخ‭ ‬ممتد‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬1400‭ ‬عام،‭ ‬خضعت‭ ‬فيها‭ ‬لعمليات‭ ‬ترميم،‭ ‬بل‭ ‬وإعادة‭ ‬بناء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬مرات،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬نشأتها‭ ‬على‭ ‬الصيغة‭ ‬المعمارية‭ ‬الراهنة‭ ‬المتأثرة‭ ‬بطراز‭ ‬مباني‭ ‬عصر‭ ‬النهضة،‭ ‬والفاتنة،‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬1666،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬الحريق‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬اشتعل‭ ‬فدمّر‭ ‬معظم‭ ‬أنحاء‭ ‬لندن‭. ‬أما‭ ‬تصميمها‭ ‬البديع‭ ‬فيعود‭ ‬إلى‭ ‬المعماري‭ ‬البريطاني‭ ‬الشهير‭ ‬السير‭ ‬كريستوفر‭ ‬رِن‭ (‬1632‭/ ‬1723‭)‬،‭ ‬المفتون‭ ‬بنموذج‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬والذي‭ ‬له‭ ‬رأي‭ ‬يرد‭ ‬فيه‭ ‬العمارة‭ ‬القوطية‭ ‬إلى‭ ‬النماذج‭ ‬والأساليب‭ ‬المعمارية‭ ‬الإسلامية‭.‬

 

أحداثٌ‭ ‬بين‭ ‬جدرانِ‭ ‬كاتدرائيةِ‭ ‬بولس

مما‭ ‬يجدر‭ ‬ذكره‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬كاتدرائية‭ ‬بولس‭ ‬أنّها‭ ‬نجت‭ ‬بأعجوبة‭ ‬من‭ ‬الغارات‭ ‬الجوية‭ ‬الكثيفة‭ ‬على‭ ‬لندن‭ ‬إبان‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬حينها‭ ‬كان‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬البريطاني‭ ‬الأسبق‭ ‬ونستون‭ ‬تشرشل‭ (‬1874‭/ ‬1965‭)‬،‭ ‬يؤكد‭ ‬مرارًا‭ ‬ضرورة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الكاتدرائية‭ ‬بأي‭ ‬ثمن،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬بالفعل‭. ‬وما‭ ‬كان‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬مراسم‭ ‬جنازته‭ ‬الرسمية،‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬1965‭ ‬عن‭ ‬90‭ ‬عامًا،‭ ‬جرت‭ ‬بين‭ ‬جدران‭ ‬الكنيسة‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬عبّر‭ ‬عن‭ ‬إعجابه‭ ‬بها‭ ‬وبمصممها‭ ‬المعماري‭ ‬رِن‭.‬

ومن‭ ‬الأحداث‭ ‬اللافتة‭ ‬التي‭ ‬شهدتها،‭ ‬مراسم‭ ‬زفاف‭ ‬الأميرة‭ ‬ديانا‭ (‬1961‭/ ‬1997‭) ‬بالأمير‭ ‬تشارلز‭ ‬وتشييع‭ ‬رئيسة‭ ‬الوزراء‭ ‬السابقة‭ ‬مارجريت‭ ‬ثاتشر‭ (‬1925‭/ ‬2013‭). ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1964‭ ‬ألقى‭ ‬فيها‭ ‬المناضل‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ ‬كنج‭ (‬1929‭/ ‬1968‭) ‬خطابًا‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الأبعاد‭ ‬الثلاثة‭ ‬للحياة‭ ‬المكتملة‮»‬‭.‬

دلفنا‭ ‬إلى‭ ‬صحن‭ ‬الكاتدرائية،‭ ‬فإذا‭ ‬بها‭ ‬مكتظة،‭ ‬وإذا‭ ‬بقسّ‭ ‬يلقي‭ ‬عظة‭ ‬بصوت‭ ‬جهوري،‭ ‬أرهفنا‭ ‬السمع‭ ‬قليلًا،‭ ‬فوجدناها‭ ‬عظة‭ ‬قريبة،‭ ‬ولا‭ ‬تبتعد‭ ‬في‭ ‬محتواها‭ ‬عن‭ ‬أطروحات‭ ‬خطاب‭ ‬تطوير‭ ‬الذات‭ ‬الرائج‭ ‬إعلاميًا‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭. ‬نصف‭ ‬نظرة‭ ‬هي‭ ‬الوصف‭ ‬الذي‭ ‬يصّحُ‭ ‬أن‭ ‬نطلقه‭ ‬على‭ ‬زيارتنا‭ ‬الخاطفة‭ ‬للكنيسة‭ ‬ومغادرتنا‭ ‬إياها‭ ‬نظرًا‭ ‬لإغلاق‭ ‬بعض‭ ‬مرافقها‭ ‬مؤقتًا‭ ‬حتى‭ ‬انتهاء‭ ‬الموعظة‭.‬

وعندما‭ ‬غادرنا‭ ‬الكنيسة‭ ‬ذات‭ ‬المعمار‭ ‬الباذخ،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭ ‬الصباحية‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬على‭ ‬معالم‭ ‬لندن‭ ‬الشهيرة،‭ ‬انطلقنا‭ ‬راجلين‭ ‬إلى‭ ‬حديقة‭ ‬هايد‭ ‬بارك‭ ‬Hyde Park‭ ‬البهيجة‭ ‬الناضرة‭ ‬الخضراء‭ ‬المؤنّقة‭ ‬المنظر،‭ ‬لنقضي‭ ‬ساعات‭ ‬الضحى‭ ‬هناك‭. ‬سرنا‭ ‬بين‭ ‬معالم‭ ‬ومتاحف‭ ‬ومسارح‭ ‬وقصور‭ ‬ومواقع‭ ‬تاريخية‭ ‬تغصّ‭ ‬بها‭ ‬المدينة‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬دقيقة،‭ ‬باتجاه‭ ‬الحديقة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬أكبر‭ ‬الحدائق‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬المال‭ ‬والأعمال‭.‬

الحديقة‭ ‬لها‭ ‬مداخل‭ ‬ومخارج‭ ‬من‭ ‬الجهات‭ ‬كافة،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يغشاها‭ ‬المتريّضون‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬الصباح‭ ‬الباكر‭ ‬لممارسة‭ ‬رياضة‭ ‬الجري‭ ‬قبل‭ ‬الانصراف‭ ‬إلى‭ ‬أعمالهم‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الظهيرة،‭ ‬فتجد‭ ‬فيها‭ ‬كبار‭ ‬السنّ‭ ‬يجلسون‭ ‬على‭ ‬المقاعد‭ ‬الموزعة‭ ‬في‭ ‬الممرات‭ ‬الداخلية‭ ‬للمتنزه،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬أمام‭ ‬البحيرة‭ ‬البديعة،‭ ‬حيث‭ ‬ينتظر‭ ‬البط‭ ‬والبجع‭ ‬من‭ ‬يطعمه‭ ‬ويلاعبه‭.‬

 

‮«‬ركنُ‭ ‬الخطباءِ‮»‬‭ ‬في‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬هايد‭ ‬بارك‮»‬‭ ‬

روّحنا‭ ‬عن‭ ‬أنفسنا‭ ‬بالتجول‭ ‬في‭ ‬المتنزه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يغّص‭ ‬بالسياح‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬مررنا‭ ‬بالعرصة‭ ‬الشهيرة‭ ‬المسماة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬ركن‭ ‬الخطباء‮»‬‭ ‬Speaker Corner‭ ‬الواقعة‭ ‬قريبًا‭ ‬من‭ ‬قوس‭ ‬الرخام‭ ‬Marble Arch‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الشمالي‭ ‬الشرقي‭ ‬من‭ ‬الحديقة،‭ ‬والتي‭ ‬يقف‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬صاحب‭ ‬رأي‭ ‬يطرح‭ ‬ما‭ ‬لديه‭ ‬بكل‭ ‬حرية‭ ‬دونما‭ ‬تبعات‭ ‬قانونية،‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬يقال‭. ‬وتبرز‭ ‬فيها‭ ‬الخطابات‭ ‬المتعارضة‭ ‬وتعمّها‭ ‬المناظرات‭ ‬ذات‭ ‬المستويات‭ ‬المتباينة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬ينتهي‭ ‬بعضها،‭ ‬بل‭ ‬معظمها،‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬السّباب‭ ‬والتراشق‭ ‬بأشنع‭ ‬العبارات‭ ‬وأرذل‭ ‬الكلمات‭. ‬هكذا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬طائل‭ ‬سوى‭ ‬القول‭ ‬بأنها‭ ‬ممارسة‭ ‬لحرية‭ ‬التعبير‭ ‬بكامل‭ ‬حمولتها‭.‬

‭ ‬لكن‭ ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬تجلبها‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتوحشة‭ ‬المنفلتة‭ ‬في‭ ‬نسختها‭ ‬النيوليبرالية؟‭ ‬هي‭ ‬حريّة‭ ‬مرذولة‭ ‬مرادها‭ ‬ليست‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذرّ‭ ‬رماد‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬رديفها‭ ‬في‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق‭ ‬الحرّ‭ ‬الذي‭ ‬إذا‭ ‬استحكم‭ ‬استوفى‭ ‬مجمل‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬نمطِ‭ ‬سوقٍ‭ ‬منطقُه‭ ‬الداخلي‭ ‬الكامن‭ ‬والظاهر‭ ‬عرضٌ‭ ‬وطلب‭ ‬وتسليع‭ ‬يراد‭ ‬حتى‭ ‬للعواطف‭ ‬والمشاعر‭ ‬الإنسانية،‭ ‬بل‭ ‬والحرية‭ ‬ذاتها‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬سوى‭ ‬شعورٍ‭ ‬ظاهري‭ ‬تحكمه‭ ‬بنى‭ ‬كامنة‭ ‬محجوبة‭ ‬عن‭ ‬أعين‭ ‬وعقول‭ ‬الناس؛‭ ‬بنيات‭ ‬تغذيها‭ ‬قوى‭ ‬السوق،‭ ‬وهكذا‭ ‬ترتد‭ ‬الحرية‭ ‬السياسية‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬تطالب‭ ‬بتقليص‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬خشية‭ ‬شموليتها‭ ‬وتوليتاريتها،‭ ‬لكنها‭ ‬تتغافل‭ ‬عن‭ ‬أنها‭ ‬بذلك‭ ‬تستبدلها‭ ‬بهيمنة‭ ‬أخرى،‭ ‬سوقية‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬لتمرّر‭ ‬منطقها‭ ‬وتتغول‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة‭. ‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬الركن‭ ‬ساحة‭ ‬للنقاش‭ ‬والجدل‭ ‬السياسي‭ ‬بخلفيات‭ ‬نظرية‭ ‬عميقة‭. ‬ولركن‭ ‬الخطباء‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬150‭ ‬عامًا‭ ‬أو‭ ‬يزيد،‭ ‬وشهدت‭ ‬تناول‭ ‬مختلف‭ ‬الملفات‭ ‬البريطانية‭ ‬الساخنة،‭ ‬المحلية‭ ‬بل‭ ‬وقضايا‭ ‬العالم‭ ‬أجمع،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬وقف‭ ‬هنا،‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والاقتصادي‭ ‬كارل‭ ‬ماركس‭ (‬1818‭/ ‬1883‭)‬،‭ ‬والرئيس‭ ‬البلشفي‭ ‬السوفييتي‭ ‬فلاديمير‭ ‬لينين‭ (‬1870‭/ ‬1924‭)‬،‭ ‬والكاتب‭ ‬الساخر‭ ‬جورج‭ ‬برنارد‭ ‬شو‭ (‬1856‭/ ‬1950‭)‬،‭ ‬والأديب‭ ‬البريطاني‭ ‬جورج‭ ‬أوريل‭ (‬1903‭/ ‬1950‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬قد‭ ‬وصف،‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬50‭ ‬عامًا،‭ ‬‮«‬ركن‭ ‬الخطباء‮»‬‭ ‬بأنه‭ ‬أحد‭ ‬أعاجيب‭ ‬العالم،‭ ‬قائلًا‭ ‬إنه‭ ‬استمع‭ ‬بمروره‭ ‬في‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬هايد‭ ‬بارك‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬جمهور‭ ‬واسع‭ ‬متنوع؛‭ ‬من‭ ‬القوميين‭ ‬الهنود‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاحيين‭ ‬المعتدلين،‭ ‬إلى‭ ‬الشيوعيين‭ ‬والتروتسكيين،‭ ‬إلى‭ ‬الجمعيات‭ ‬الدينية‭ ‬الكاثوليكية،‭ ‬إلى‭ ‬المفكرين‭ ‬الأحرار،‭ ‬النباتيين،‭ ‬وليس‭ ‬انتهاء‭ ‬حتى‭ ‬بالمجاذيب‭ ‬والمجانين‭. ‬

‭ ‬

مدينة‭ ‬رأسمالية

جمال‭ ‬لندن‭ ‬وبهاؤها‭ ‬الذي‭ ‬جذب‭ ‬إليها‭ ‬أثرياء‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬بقاع‭ ‬الأرض‭ ‬لا‭ ‬يطمس‭ ‬كونها‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬إرث‭ ‬استعماري‭ ‬واستغلال‭ ‬لمقدّرات‭ ‬شعوب‭ ‬البلدان‭ ‬المستعمرة‭ ‬مدّها‭ ‬بثروات‭ ‬طائلة،‭ ‬ساندها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬مركزًا‭ ‬لتجارة‭ ‬العبيد‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنافسها‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬مدينة‭ ‬ليفربول،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬زماننا‭ ‬فهي‭ ‬تعتبر‭ ‬معقلًا‭ ‬لرأس‭ ‬المال‭ ‬التمويلي‭.‬

وتعتبر‭ ‬لندن‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬حسبان‭ ‬اليسار،‭ ‬إحدى‭ ‬أسوأ‭ ‬أشكال‭ ‬الرأسماليات‭ ‬المتطرفة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬ما‭ ‬حدا‭ ‬بحزب‭ ‬العمال‭ ‬البريطاني،‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬له،‭ ‬إلى‭ ‬الدعوة‭ ‬لتأميم‭ ‬قطاعات‭ ‬حيوية‭ ‬فيها،‭ ‬وفي‭ ‬غيرها،‭ ‬يرى‭ ‬موضعها‭ ‬في‭ ‬كفة‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬قطاع‭ ‬الماء‭ ‬والسكك‭ ‬الحديدية‭ ‬والطاقة‭ ‬والبريد‭ ‬وغيرها‭.‬

هذه‭ ‬الرأسمالية‭ ‬التي‭ ‬بزغت‭ ‬قبل‭ ‬قرنين‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬مع‭ ‬صعود‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬هزّت‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وأردت‭ ‬الإنسان‭ ‬واختزلته‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬ترس‭ ‬في‭ ‬ماكينة‭ ‬الإنتاج‭.‬

الإنسان‭ ‬الغربي‭ ‬الذي‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬مزهوًا‭ ‬بتحقيق‭ ‬الثورات‭ ‬بعد‭ ‬الثورات،‭ ‬من‭ ‬الثورة‭ ‬العلمية‭ ‬إلى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬إلى‭ ‬الصناعية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يدرك‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬بناء‭ ‬حداثته‭ ‬وانعتاقه‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬نظام‭ ‬قروسطوي،‭ ‬فهو‭ ‬إنّما‭ ‬يهوي‭ ‬في‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬أنظمة‭ ‬السلطة‭ ‬الكامنة‭ ‬وبعيدة‭ ‬الغور‭. ‬وهكذا،‭ ‬شرع‭ ‬العقل‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬إجراء‭ ‬المراجعات‭ ‬ومساءلة‭ ‬الذات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تظن‭ ‬أنها‭ ‬سيدة‭ ‬مكانها‭ ‬وصاحبة‭ ‬الإنجاز‭ ‬الحضاري‭ ‬العقلاني‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬حضارات‭ ‬العالم‭ ‬أجمع،‭ ‬فجاء‭ ‬ماركس‭ ‬وكشف‭ ‬الوعي‭ ‬الزائف‭ ‬عند‭ ‬المادة‭ ‬التاريخية‭ ‬للثورة‭ ‬الصناعية؛‭ ‬العمال‭. ‬

وقدّم‭ ‬نيتشه‭ (‬1844/1900‭) ‬وهم‭ ‬إرادة‭ ‬المعرفة‭ ‬المخاتل‭ ‬الذي‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلّا‭ ‬إرادة‭ ‬قوة‭ ‬وهيمنة‭ ‬وسلطة‭ ‬تتلبس‭ ‬لبوس‭ ‬القيم‭ ‬الأخلاقية‭.‬

وكان‭ ‬فرويد‭ (‬1856‭/ ‬1939‭)‬،‭ ‬ثالث‭ ‬ثلاثة،‭ ‬صاحب‭ ‬الضربة‭ ‬القاضية‭ ‬حينما‭ ‬كشف‭ ‬أن‭ ‬المحرك‭ ‬الأساسي‭ ‬لمسلكيات‭ ‬الذات،‭ ‬يا‭ ‬للمفارقة،‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬الوعي،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬تمامًا‭ ‬هو‭ ‬اللاوعي؛‭ ‬تلك‭ ‬الحجرة‭ ‬المظلمة‭ ‬التي‭ ‬إن‭ ‬صوبت‭ ‬كشافات‭ ‬الإضاءة‭ ‬نحوها‭ ‬فسترى‭ ‬المكبوت؛‭ ‬الجنس‭ ‬والعدوان‭.‬

 

العقلُ‭ ‬الغربيُ‭ ‬تحتَ‭ ‬مشرطِ‭ ‬النقد

وهكذا،‭ ‬خلّف‭ ‬‮«‬رأس‭ ‬المال‮»‬‭ ‬لماركس،‭ ‬و«جنيالوجيا‭ ‬الأخلاق‮»‬‭ ‬لنيتشه،‭ ‬و«تفسير‭ ‬الأحلام‮»‬‭ ‬لفرويد‭ ‬صدمة‭ ‬وجرحًا‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي،‭ ‬وما‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬أنهم‭ ‬سلكوا‭ ‬سبيلًا‭ ‬يعارض‭ ‬ما‭ ‬يدعوه‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو‭ (‬1926‭ /‬1984‭) ‬بـ‭ ‬‮«‬مدونة‭ ‬التأويل‭ ‬الضخمة‮»‬،‭ ‬قاصدًا‭ ‬بها‭ ‬أنظمة‭ ‬الفكر‭ ‬الساعية‭ ‬نحو‭ ‬إضفاء‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬والدلائل‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬تحديدًا‭. ‬إذ‭ ‬هم‭ ‬جاؤوا‭ ‬بإمكان‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬التأويل،‭ ‬ووجّهوا‭ ‬تقنياتهم‭ ‬التأويلية‭ ‬وعدساتهم‭ ‬النظرية‭ ‬صوب‭ ‬الذات‭ ‬أو‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬نحن‮»‬‭ ‬الغربية‭. ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬أكده‭ ‬فرويد‭ ‬عندما‭ ‬تحدّث‭ ‬مرة‭ ‬عن‭ ‬جروح‭ ‬نرجسية‭ ‬غائرة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية،‭ ‬مصدرها‭ ‬حقائق‭ ‬فاضحة‭ ‬كشفها‭ ‬كوبر‭ ‬نيكوس‭ (‬1473‭/ ‬1543‭) ‬يوم‭ ‬انحرف‭ ‬بمركزية‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬عن‭ ‬مركز‭ ‬الكون،‭ ‬وداروين‭ (‬1809‭/ ‬1882‭) ‬حين‭ ‬ألقى‭ ‬بالأصل‭ ‬السامي‭ ‬للإنسان‭ ‬في‭ ‬حظيرة‭ ‬القردة،‭ ‬ولعل‭ ‬فرويد‭ ‬بكشفه‭ ‬عن‭ ‬محرّك‭ ‬غامض‭ ‬للسلوك‭ ‬الإنساني‭ ‬زحزح‭ ‬فكرة‭ ‬الوعي‭ ‬الحاكم‭ ‬للذات‭ ‬لمصلحة‭ ‬لا‭ ‬شعور‭ ‬يسرد‭ ‬قصة‭ ‬محورها‭ ‬جسدي‭ ‬مادي‭ ‬عدواني‭ ‬جنسي‭. ‬

جالت‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬في‭ ‬ذهننا‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬طريقنا‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬فرويد‭. ‬نقصده‭ ‬الآن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استرحنا‭ ‬في‭ ‬‮«‬هايد‭ ‬بارك‮»‬‭ ‬ساعات‭ ‬الضحى‭. ‬استوقفنا‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬سوداء،‭ ‬وهي‭ ‬علامة‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬المدينة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬وطلبنا‭ ‬من‭ ‬السائق‭ ‬العنوان‭ ‬الذي‭ ‬استخرجناه‭ ‬من‭ ‬تطبيق‭ ‬الخرائط‭ ‬في‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول؛‭ ‬منزل‭ ‬فرويد،‭ ‬قلنا‭. ‬وجدنا‭ ‬أمارات‭ ‬الاستغراب‭ ‬على‭ ‬وجهه،‭ ‬لكنّه‭ ‬أومأ‭ ‬مرحّبًا‭: ‬لا‭ ‬حاجة‭ ‬لذلك،‭ ‬إنني‭ ‬أعرف‭ ‬الطريق‭.‬

 

الذات‭ ‬على‭ ‬سريرِ‭ ‬التحليلِ‭ ‬النفسي‭ ‬

لعل‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬الذات‭ ‬الحديثة‭ ‬سقوطها‭ ‬في‭ ‬أسر‭ ‬الخوف،‭ ‬وهو‭ ‬خوف‭ ‬يستغله‭ ‬السياسيون،‭ ‬رغم‭ ‬كونه‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬مفتعلًا‭ ‬ومصطنعًا،‭ ‬ولا‭ ‬أساس‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬منطق‭ ‬أو‭ ‬واقع،‭ ‬إلّا‭ ‬أنه‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬مرسوم‭ ‬بدقة‭ ‬مقرون‭ ‬بحريّة‭ ‬شبه‭ ‬مطلقة،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬جانبها‭ ‬الاقتصادي‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الحرة‭. ‬والتحليل‭ ‬النفسي‭ ‬بمقدوره،‭ ‬إذا‭ ‬اعتمد‭ ‬منهجية‭ ‬إجرائية،‭ ‬وإذا‭ ‬شبك‭ ‬مع‭ ‬الجهاز‭ ‬المفاهيمي‭ ‬الماركسي،‭ ‬في‭ ‬تقديرنا‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬أن‭ ‬يخضع‭ ‬الاقتصاد‭ ‬لسرير‭ ‬التحليل‭ ‬ليبين‭ ‬أعطابه‭ ‬ويفضح‭ ‬استلاب‭ ‬الإنسان‭ ‬الغربي‭ ‬المعاصر‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الأطروحة‭ ‬المستجدة‭ ‬موضوعًا‭ ‬لكتاب‭ ‬صدر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬هانزر‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬شياطين‭ ‬الرأسمال‭... ‬الاقتصاد‭ ‬في‭ ‬سرير‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‮»‬‭ ‬ومؤلفاه‭ ‬هما‭ ‬توماس‭ ‬سيداشيك‭ ‬وأوليفر‭ ‬تانسر‭. ‬جاك‭ ‬لاكان‭ (‬1901‭/ ‬1981‭)‬،‭ ‬عالم‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬الشهير،‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬مثّل‭ ‬حلقة‭ ‬وصل‭ ‬بين‭ ‬مدرسة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬كما‭ ‬طوّرها‭ ‬عن‭ ‬فرويد،‭ ‬وبين‭ ‬إرث‭ ‬ماركس‭. ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬يحدث‭ ‬فقط‭ ‬إن‭ ‬تجاوزنا‭ ‬النظرة‭ ‬الأرثوذكسية‭ ‬العقائدية‭ ‬للماركسية،‭ ‬ووسعنا‭ ‬من‭ ‬النظرة‭ ‬التحليلية‭ ‬النفسية‭ ‬الفردية‭ ‬إلى‭ ‬نظرة‭ ‬تحليلية‭ ‬جمعية‭ ‬ترقب‭ ‬وتتبع‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬لاكان‭ ‬‮«‬اللاشعور‭ ‬الرأسمالي‮»‬‭. ‬

حينها،‭ ‬فقط،‭ ‬يستطيع‭ ‬المحلل‭ ‬النفسي‭ ‬تجديد‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬المنهجية‭ ‬المادية‭ ‬الديالكتيكية‭ ‬عبر‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬مفاهيم‭ ‬الاغتراب‭ ‬والاستلاب‭ ‬والرغبة‭ ‬والمتعة‭ ‬وغيرها‭.‬

ساعتئذ‭ ‬لن‭ ‬يعود‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬كما‭ ‬ينعت‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الماركسيين،‭ ‬مجرد‭ ‬أداة‭ ‬تطوّق‭ ‬بها‭ ‬البرجوازية‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬على‭ ‬قياسها‭ ‬وضمن‭ ‬منظومتها‭ ‬القيمية‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تاريخي‭ ‬رأسمالي،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬تمامًا،‭ ‬سيضحي‭ ‬سلاحًا‭ ‬ماضيًا‭ ‬وضوءًا‭ ‬كاشفًا‭ ‬عن‭ ‬آليات‭ ‬الهيمنة‭ ‬الخفية‭ ‬لنظام‭ ‬الرأسمالية‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يكتنفه‭ ‬من‭ ‬سياقات‭ ‬ومسارات‭ ‬تبدو‭ ‬مقبولة‭ ‬وغير‭ ‬مرئية‭ ‬بوصفها‭ ‬بداهة‭ ‬لأذهان‭ ‬الأفراد‭ ‬والشعوب‭.‬

نقول‭ ‬هذا،‭ ‬وفي‭ ‬البال‭ ‬ذلك‭ ‬النقد‭ ‬المعروف‭ ‬لدى‭ ‬المشتغلين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الفلسفة،‭ ‬والذي‭ ‬نرى‭ ‬طرفًا‭ ‬منه‭ ‬عند‭ ‬الفرنسي‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو،‭ ‬إذ‭ ‬اعتبر‭ ‬أن‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬يقوم‭ ‬عموده‭ ‬على‭ ‬‮«‬طبعنة‭ ‬الرغبة‮»‬‭ (‬إضفاء‭ ‬الطابع‭ ‬الطبيعي‭ ‬على‭ ‬الرغبة‭ ‬الجنسية‭) ‬خدمة‭ ‬لمتطلبات‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬أنظمة‭ ‬الهيمنة‭ ‬الرأسمالية‭.‬

والحال،‭ ‬أن‭ ‬مدرسة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬تعرّضت‭ ‬لهجمات‭ ‬من‭ ‬أطياف‭ ‬فكرية‭ ‬متعارضة؛‭ ‬من‭ ‬اليسار‭ ‬لأنّ‭ ‬وظيفتها،‭ ‬بحسبهم،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬الطبعنة،‭ ‬ومن‭ ‬التيار‭ ‬النيوليبرالي،‭ ‬لكونها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬المطلوب‭ ‬منها‭. ‬حيال‭ ‬الهجوم‭ ‬المزدوج‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬فرويد،‭ ‬يبرز‭ ‬صوت‭ ‬يمثّله‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬اللاشعور‭ ‬الرأسمالي‭... ‬ماركس‭ ‬ولاكان‮»‬‭ ‬لصاحبه‭ ‬السوليفيني‭ ‬سامو‭ ‬توميش‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬فيرسو‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬سبتمبر‭ ‬2015،‭ ‬ثمّة‭ ‬خيط‭ ‬ناظم‭ ‬مفاده‭ ‬وجود‭ ‬مساحة‭ ‬واسعة‭ ‬وعميقة‭ ‬للتحليل‭ ‬النفسي‭ ‬تسعف،‭ ‬عندما‭ ‬تشبك‭ ‬بنقد‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السياسي‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬والحركة‭ ‬البنيوية،‭ ‬بالكشف‭ ‬عن‭ ‬آليات‭ ‬إنتاج‭ ‬الذاتية‭ ‬الرأسمالية‭. ‬فلاكان‭ ‬ذاته‭ ‬قدّم‭ ‬قراءة‭ ‬غير‭ ‬تقليدية‭ ‬للتراث‭ ‬الماركسي،‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا،‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬المنهجية‭ ‬البنيوية‭ ‬تشيّد‭ ‬قنطرة‭ ‬واصلة‭ ‬بين‭ ‬المادية‭ ‬الديالكتيكية‭ ‬والتحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬فيما‭ ‬بات‭ ‬يُعرف‭ ‬بالماركسية‭ ‬الفرويدية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬روادها‭ ‬ومؤسسيها‭ ‬هيربرت‭ ‬ماركوزة‭ (‬1898‭/ ‬1979‭).‬

 

إلى‭ ‬منزل‭ ‬فرويد‭ ‬

‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬المتحف،‭ ‬سألنا‭ ‬السائق‭ ‬عن‭ ‬زيارتنا‭ ‬للبيت‭/ ‬المتحف،‭ ‬إذ‭ ‬قلّة‭ ‬هم‭ ‬السياح،‭ ‬بحسبه،‭ ‬الذين‭ ‬يتقاطرون‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العام‭ ‬فيزورن‭ ‬بيت‭ ‬عالم‭ ‬النفس‭.‬

فأجبنا‭ ‬بأن‭ ‬زيارة‭ ‬المتاحف‭ ‬واجبة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا،‭ ‬خصوصًا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬لشخصية‭ ‬مثل‭ ‬فرويد‭ ‬غيّرت‭ ‬مسار‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬وابتكرت‭ ‬مدرسة‭ ‬جديدة‭ ‬تمامًا‭. ‬

ابتسم‭ ‬قائلًا‭: ‬نعم‭ ‬إنه‭ ‬شخصية‭ ‬كبيرة،‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬أرفض‭ ‬معظم‭ ‬أفكاره‭. ‬قلنا‭: ‬نعم‭ ‬والأمر‭ ‬كذلك‭ ‬عندنا،‭ ‬فليس‭ ‬المطلوب‭ ‬أبدًا‭ ‬أن‭ ‬تتماهى‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬صاحب‭ ‬نظرية‭ ‬لتكون‭ ‬هكذا‭ ‬فرويديًا‭ ‬أو‭ ‬ماركسيًا‭ ‬أو‭ ‬كانطيًا،‭ ‬فتنسى‭ ‬بذلك‭ ‬أنك‭ ‬ذات‭ ‬مستقلة‭ ‬تشكّل‭ ‬نفسها‭ ‬بنفسها،‭ ‬وإن‭ ‬بمعونة‭ ‬هؤلاء‭ ‬وغيرهم‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭. ‬

ظهرًا،‭ ‬كنا‭ ‬عند‭ ‬المتحف‭. ‬البيت‭ ‬مغطى‭ ‬بالطوب‭ ‬الأحمر‭ ‬وتتخلله‭ ‬النوافذ‭ ‬البيضاء،‭ ‬أما‭ ‬سقفه‭ ‬فمن‭ ‬القرميد‭ ‬الرمادي‭ ‬الداكن‭. ‬إنه‭ ‬بيت‭ ‬ذو‭ ‬طراز‭ ‬إنجليزي‭ ‬كلاسيكي،‭ ‬ويقع‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬خطوات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬فينشلي‭ ‬رود‭ ‬في‭ ‬هامبستيد‭ ‬Hempstead‭ ‬إحدى‭ ‬ضواحي‭ ‬شمال‭ ‬لندن‭. ‬

هذا‭ ‬البيت‭ ‬قضى‭ ‬فيه‭ ‬فرويد‭ ‬العام‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬لمّا‭ ‬قدم‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬سبتمبر‭ ‬1938‭ ‬هربًا‭ ‬من‭ ‬القوات‭ ‬النازية‭ ‬وحتى‭ ‬وافاه‭ ‬الأجل‭ ‬في‭ ‬23‭ ‬سبتمبر‭ ‬1939‭. ‬وظلت‭ ‬ابنته‭ ‬تسكن‭ ‬المنزل‭ ‬حتى‭ ‬وفاتها‭ ‬في‭ ‬1982،‭ ‬ثم‭ ‬تحوّل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬متحف‭ ‬فتح‭ ‬أبوابه‭ ‬للزوار‭ ‬عام‭ ‬1986‭. ‬

يعّد‭ ‬الطبيب‭ ‬النفساني‭ ‬النمساوي‭ ‬سيغموند‭ ‬فرويد‭ ‬المؤسس‭ ‬لأسلوب‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬العلاج،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان،‭ ‬قبل،‭ ‬قد‭ ‬جرّب‭ ‬تقنية‭ ‬التنويم‭ ‬المغناطيسي،‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬مدرسة‭ ‬واسعة‭ ‬الانتشار‭ ‬في‭ ‬بقاع‭ ‬العالم‭ ‬الواسعة‭ ‬والمسماة‭ ‬بالتحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬بدأه‭ ‬فرويد‭ ‬عام‭ ‬1895،‭ ‬ويعتمد‭ ‬تقنية‭ ‬الحوار‭ ‬الحر‭ ‬للكشف‭ ‬عن‭ ‬مكنونات‭ ‬العقل‭ ‬الباطن‭. ‬

مع‭ ‬فرويد‭ ‬لم‭ ‬يعُد‭ ‬المريض‭ ‬طرفًا‭ ‬سلبيًا‭ ‬يتلقى‭ ‬التعليمات‭ ‬من‭ ‬المعالج‭ ‬النفساني،‭ ‬بل‭ ‬بات‭ ‬هو‭ ‬محور‭ ‬الحوار،‭ ‬أما‭ ‬الطبيب‭ ‬فعليه‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬المريض‭ ‬بعناية‭ ‬فائقة؛‭ ‬تبادل‭ ‬للأدوار،‭ ‬يمكن‭ ‬القول،‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬باعتماد‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭.‬

معروف‭ ‬أن‭ ‬فرويد‭ ‬عاش‭ ‬جلّ‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬فيينا،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬انتقل‭ ‬مجبرًا‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعرّضت‭ ‬ابنته‭ ‬آنّا‭ (‬1895‭/ ‬1982‭) ‬للاعتقال‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشرطة‭ ‬السرية‭ ‬النازية‭.‬

وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الاعتقال‭ ‬لم‭ ‬يستمر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬واحد،‭ ‬فإن‭ ‬فرويد‭ ‬شعر‭ ‬بأن‭ ‬الخطر‭ ‬بدأ‭ ‬يتهدده‭ ‬هو‭ ‬وأفراد‭ ‬أسرته،‭ ‬فأقدم‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مقتنياته‭ ‬وعدته‭ ‬الوظيفية،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬الأثاث‭ ‬والأغراض‭ ‬المنزلية‭ ‬الخاصة،‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬العيادة‭ ‬التي‭ ‬يستقبل‭ ‬بها‭ ‬مرضاه‭ ‬متكئين‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬أريكة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬الأشهر،‭ ‬ومفضين‭ ‬بدواخلهم‭ ‬وما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬خلجاتهم‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عشوائي،‭ ‬للرجوع‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬الطفولة‭ ‬الأولى‭ ‬فيما‭ ‬فرويد‭ ‬جالس‭ ‬على‭ ‬كرسيه‭ ‬يستمع‭ ‬باهتمام‭ ‬بالغ‭. ‬يذكر‭ ‬أن‭ ‬فرويد‭ ‬قد‭ ‬أكمل‭ ‬كتابه‭ ‬المثير‭ ‬للجدل‭ ‬‮«‬موسى‭ ‬والتوحيد‮»‬‭ ‬في‭ ‬عامه‭ ‬الأخير‭ ‬بهذا‭ ‬البيت‭.‬

 

لحظاتٌ‭ ‬بانتظارِ‭ ‬الجولةِ‭ ‬المتحفية‭ 

عند‭ ‬دخولنا‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬وجدنا‭ ‬في‭ ‬ردهته‭ ‬الصغيرة‭ ‬تمثالًا‭ ‬نصفيًا‭ ‬رخاميًا،‭ ‬وإلى‭ ‬اليمين‭ ‬باب‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬حجرة‭ ‬المكتب،‭ ‬على‭ ‬يمين‭ ‬الباب‭ ‬معروضات‭ ‬للمتعلقات‭ ‬الشخصية‭ ‬لفرويد،‭ ‬نظارته‭ ‬ومحبرته‭ ‬ومحفظته‭ ‬ودفتر‭ ‬ملاحظاته‭ ‬ومعطفه،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك،‭ ‬فيما‭ ‬قبالة‭ ‬المدخل‭ ‬مباشرة‭ ‬باب‭ ‬حجرة‭ ‬الطعام،‭ ‬أما‭ ‬إلى‭ ‬اليسار‭ ‬فدرج‭ ‬كلاسيكي‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭.‬

البيت‭ ‬صغير‭ ‬نسبيًا،‭ ‬لكنه‭ ‬يجعلك‭ ‬تشعر‭ ‬بأنه‭ ‬تزور‭ ‬صديقًا‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬لا‭ ‬أنك‭ ‬تدخل‭ ‬متحفًا‭. ‬قيل‭ ‬لنا‭ ‬إنه‭ ‬يتعيّن‭ ‬علينا‭ ‬شراء‭ ‬التذاكر‭ ‬أولًا،‭ ‬ثم‭ ‬الانتظار‭ ‬إلى‭ ‬بداية‭ ‬الجولة‭ ‬المجدولة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬إدارة‭ ‬المتحف‭.‬

سألنا‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬بيع‭ ‬التذاكر،‭ ‬فأخبرنا‭ ‬أحدهم‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬المتجر‭ ‬الذي‭ ‬يوجد‭ ‬بشرفة‭ ‬الحديقة‭ ‬يلي‭ ‬حجرة‭ ‬الطعام‭.‬

مضينا‭ ‬من‭ ‬فورنا‭ ‬إلى‭ ‬المتجر،‭ ‬وابتعنا‭ ‬التذاكر،‭ ‬كان‭ ‬المتجر‭ ‬يغصّ‭ ‬بالزوار‭ ‬ويعرض‭ ‬بضاعة‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬الخاصة‭ ‬بفرويد،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كُتبت‭ ‬عنه‭ ‬وعن‭ ‬مدرسة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬إلى‭ ‬التذكاريات‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬بتصميمها‭ ‬إمّا‭ ‬إلى‭ ‬فرويد‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬تصوراته‭ ‬التي‭ ‬تشكّل‭ ‬منظومته‭ ‬الفكرية‭. ‬

قالت‭ ‬لنا‭ ‬موظفة‭ ‬المتحف‭: ‬يمكنكم‭ ‬أن‭ ‬تبدأوا‭ ‬رحلتكم‭ ‬مع‭ ‬عالَم‭ ‬فرويد‭ ‬الآن،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تنتظروا‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬المنزل‭ ‬الخلفية‭ ‬بداية‭ ‬الجولة‭ ‬القابلة،‭ ‬فسوف‭ ‬تنطلق‭ ‬بعد‭ ‬دقائق‭ ‬معدودة‭. ‬فضّلنا‭ ‬انتظار‭ ‬الجولة،‭ ‬وجلسنا‭ ‬تحت‭ ‬ظلال‭ ‬شجرة‭ ‬وارفة،‭ ‬وأخذنا‭ ‬نتأمل‭ ‬جمال‭ ‬هذه‭ ‬الحديقة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وخطرت‭ ‬في‭ ‬البال‭ ‬أفكار‭ ‬حول‭ ‬أهمية‭ ‬الحدائق‭ ‬المنزلية‭ ‬في‭ ‬تصميم‭ ‬البيوت‭ ‬الحديثة‭.‬

 

نشاطٌ‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العام

يعمل‭ ‬المتحف‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬تركة‭ ‬فرويد‭ ‬الثقافية‭ ‬والفكرية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استقطاب‭ ‬المتعلمين‭ ‬والراغبين‭ ‬في‭ ‬التعرف‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭. ‬ويحاول‭ ‬المتحف‭ ‬الإضاءة‭ ‬على‭ ‬الأهمية‭ ‬الراهنة‭ ‬لعالم‭ ‬النفس،‭ ‬حيث‭ ‬يعتني‭ ‬بالبيت‭ ‬الذي‭ ‬سكنه،‭ ‬بل‭ ‬بمجموعة‭ ‬المقتنيات‭ ‬الخاصة‭ ‬به‭.‬

ومن‭ ‬ضمن‭ ‬أنشطة‭ ‬المتحف‭ ‬تقديمه‭ ‬منصة‭ ‬للمعارض‭ ‬الفنية‭ ‬وإقامته‭ ‬عديدًا‭ ‬من‭ ‬المؤتمرات‭ ‬حول‭ ‬علاقة‭ ‬مدرسة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬بل‭ ‬وعلاقة‭ ‬فرويد‭ ‬نفسه‭ ‬بالفن‭ ‬والثقافة‭ ‬وتاريخ‭ ‬الأفكار‭ ‬ومجمل‭ ‬الحياة‭ ‬المعاصرة‭. ‬

كان‭ ‬قد‭ ‬حضر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬وشارك‭ ‬بأنشطته‭ ‬فلاسفة‭ ‬وعلماء‭ ‬لهم‭ ‬وزنهم‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الثقافية‭ ‬الغربية،‭ ‬مثل‭ ‬جاك‭ ‬دريدا‭ (‬1930‭ /‬2004‭) ‬وإدوارد‭ ‬سعيد‭ (‬1935‭/ ‬2003‭)‬،‭ ‬وسلافوي‭ ‬جيجيك‭ (‬1949‭)‬،‭ ‬والمحللة‭ ‬النفسية‭ ‬البريطانية‭ ‬سوزي‭ ‬أورباش‭ (‬1946‭).‬

للمتحف‭ ‬مساهمات‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬مشاريع‭ ‬اجتماعية‭ ‬وشراكات‭ ‬مع‭ ‬منظمات‭ ‬اجتماعية‭ ‬مختصة‭ ‬بالصحة‭ ‬العقلية‭ ‬وبكبار‭ ‬السن‭ ‬وبعلاج‭ ‬الصدمات‭ ‬النفسية،‭ ‬وكذلك‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتعلّق‭ ‬بمسألة‭ ‬الإقصاء‭ ‬الاجتماعي‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يقدّم‭ ‬دروسًا‭ ‬تعليمية‭ ‬حول‭ ‬مدرسة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭. ‬

 

‮«‬الدوريةُ‭ ‬العالميةُ‭ ‬للتحليلِ‭ ‬النفسي‮»‬

تقام‭ ‬في‭ ‬المتحف‭ ‬معارض‭ ‬مؤقتة‭ ‬بشكل‭ ‬مستمر،‭ ‬وحينما‭ ‬كنا‭ ‬نزور‭ ‬المتحف‭ ‬كان‭ ‬يستقبل‭ ‬معرضًا‭ ‬خاصًا‭ ‬يحتفي‭ ‬بمرور‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬صدور‭ ‬‮«‬الدورية‭ ‬العالمية‭ ‬للتحليل‭ ‬النفسي‮»‬‭.‬

نجد‭ ‬في‭ ‬المعرض‭ ‬موادّ‭ ‬أرشيفية‭ ‬للمجلة‭ ‬تتناول‭ ‬تاريخ‭ ‬الدورية،‭ ‬وتركز‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬مدرسة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬بالفنون،‭ ‬وتتطرق‭ ‬إلى‭ ‬مواضيع‭ ‬متعددة‭ ‬كالترجمة‭ ‬والمجاز‭ ‬والأحلام‭ ‬واللاوعي،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬أفكار‭ ‬فرويد‭ ‬مصاغة‭ ‬في‭ ‬تعبير‭ ‬فنّي‭ ‬عبر‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬المصاحبة‭ ‬للمعرض‭.‬

كما‭ ‬يكشف‭ ‬الأرشيف‭ ‬المعروض‭ ‬الدور‭ ‬النسوي‭ ‬الفاعل‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬سنوات‭ ‬المجلة‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بجماعة‭ ‬بلومزبيري،‭ ‬ويبين‭ ‬أثر‭ ‬الثقافة‭ ‬والفن‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬فرويد‭.‬

أُسست‭ ‬المجلة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬إيرنست‭ ‬جونز‭ (‬1879‭/ ‬1958‭) ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬مباشر‭ ‬من‭ ‬سيغموند‭ ‬فرويد،‭ ‬بهدف‭ ‬نشر‭ ‬أفكاره‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الناطق‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وتكشف‭ ‬الدورية‭ ‬عن‭ ‬تطوّر‭ ‬مدرسة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬100‭ ‬عام‭ ‬منذ‭ ‬نشأتها‭ ‬عام‭ ‬1920‭. ‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬المعرض‭ ‬يقارب‭ ‬الدورية‭ ‬عبر‭ ‬فحص‭ ‬تاريخي‭ ‬للمادة‭ ‬الأرشيفية،‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬سياق‭ ‬النشأة‭ ‬والتأسيس‭ ‬والتحولات‭ ‬فإنه‭ ‬يقدّم،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬تفاعل‭ ‬الفنانين‭ ‬مع‭ ‬المواضيع‭ ‬والثيمات‭ ‬الأساسية‭ ‬للدورية،‭ ‬بل‭ ‬ولموضوعات‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬بعامة‭. ‬

المعرض‭ ‬المعنون‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬لغز‭ ‬الساعة‮»‬‭ ‬The Enigma of the Hour،‭ ‬الذي‭ ‬تواصل‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ ‬وحتى‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬2019،‭ ‬تتوزع‭ ‬معروضاته‭ ‬على‭ ‬حجرات‭ ‬البيت‭ ‬ومدخله‭ ‬ومساحاته‭.‬

 

أريكةُ‭ ‬التحليلِ‭ ‬النفسي

بدأت‭ ‬جولتنا‭ ‬باجتماع‭ ‬سريع‭ ‬في‭ ‬الحديقة‭ ‬مع‭ ‬قيمة‭ ‬المتحف،‭ ‬وهي‭ ‬عجوز‭ ‬مختصة‭ ‬بالتحليل‭ ‬النفسي‭ ‬الفرويدي‭. ‬راحت‭ ‬العجوز‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬اللحظات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬فرويد،‭ ‬وعن‭ ‬عامه‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬قضاه‭ ‬في‭ ‬لندن‭.‬

دخلنا‭ ‬حجرة‭ ‬المكتب‭ ‬الخاصة‭ ‬بفرويد،‭ ‬وهي‭ ‬أجمل‭ ‬حجرات‭ ‬البيت‭ ‬وأغناها‭ ‬بالمحتويات‭ ‬وبالقيمة‭ ‬التاريخية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬فرويد‭ ‬يناظر‭ ‬هنا‭ ‬الحالات‭ ‬ويسمح‭ ‬لها،‭ ‬وهي‭ ‬ممددة‭ ‬على‭ ‬أريكة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬الشهير،‭ ‬أن‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬كوامنها‭ ‬عبر‭ ‬تداعٍ‭ ‬حُرّ‭ ‬للأفكار‭.‬

لا‭ ‬تزال‭ ‬الحجرة‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬وضعها‭ ‬أيام‭ ‬عالم‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬بكامل‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬الأثاث‭ ‬والمقتنيات‭ ‬والآثار‭ ‬والسجاد‭ ‬وكرسي‭ ‬فرويد‭ ‬الأخضر‭ ‬المميز‭ ‬ومنضدته‭ ‬وكتبه،‭ ‬وأهمها‭ ‬الأريكة‭. ‬

في‭ ‬الحجرة‭ ‬قطع‭ ‬فنية‭ ‬كثيرة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬فرويد‭ ‬مهتمًا‭ ‬بجمع‭ ‬القطع‭ ‬الأثرية،‭ ‬المصرية‭ ‬خصوصًا،‭ ‬وله‭ ‬مجموعة‭ ‬ضخمة‭ ‬قوامها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬2000‭ ‬قطعة‭ ‬فنية‭ ‬تملأ‭ ‬الرفوف‭. ‬كانت‭ ‬الصور‭ ‬الفوتوغرافية‭ ‬تزيّن‭ ‬الحيطان،‭ ‬أما‭ ‬المكتبة‭ ‬فتحوي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬1600‭ ‬كتاب،‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬الفلسفة‭ ‬والبيولوجيا‭ ‬والتاريخ‭ ‬والأدب‭ ‬والطب‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭. ‬

وبجوار‭ ‬مكتب‭ ‬فرويد،‭ ‬نجد‭ ‬حجرة‭ ‬الطعام،‭ ‬وتحتوي‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬جمعها‭ ‬فرويد‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬بقاع‭ ‬العالم،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الصور‭ ‬الفوتوغرافية‭ ‬التي‭ ‬التقطها‭ ‬المصور‭ ‬إدموند‭ ‬إنغلمان‭ ‬لشقة‭ ‬فرويد‭ ‬في‭ ‬فيينا‭ ‬قبل‭ ‬أسابيع‭ ‬من‭ ‬فراره‭ ‬إلى‭ ‬إنجلترا،‭ ‬وهي‭ ‬صور‭ ‬تكشف‭ ‬الأجواء‭ ‬العامة‭ ‬للأيام‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الاحتلال‭ ‬النازي‭. ‬

ونجد‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الجدران‭ ‬لوحة‭ ‬بورتريه‭ ‬للمحلل‭ ‬النفسي‭ ‬البريطاني‭ ‬إرنست‭ ‬جونز،‭ ‬رسمها‭ ‬الفنان‭ ‬روديرجو‭ ‬مويهان‭. 

ولما‭ ‬صعدنا‭ ‬درجات‭ ‬السلّم‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬منبَسَطه‭ ‬مكتب‭ ‬جميل‭ ‬تنيره‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس‭ ‬عبر‭ ‬النافذة‭ ‬الواسعة‭ ‬التي‭ ‬وراءه،‭ ‬وعلى‭ ‬المكتب‭ ‬تمثال‭ ‬رخامي‭ ‬شبيه‭ ‬بالذي‭ ‬رأيناه‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬البيت‭. ‬وفي‭ ‬الردهة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬حجرات‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭ ‬الثلاث،‭ ‬توجد‭ ‬لوحتا‭ ‬بورتريه‭ ‬لفرويد؛‭ ‬أولاها‭ ‬رسمها‭ ‬الفنان‭ ‬النمساوي‭ ‬فيرناندو‭ ‬شموزر،‭ ‬والأخرى‭ ‬رسمها‭ ‬الفنان‭ ‬السيريالي‭ ‬الشهير‭ ‬سلفادور‭ ‬دالي،‭ ‬الذي‭ ‬زار‭ ‬فرويد‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬بلندن‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬جدران‭ ‬الردهة‭ ‬رسمًا‭ ‬لشجرة‭ ‬العائلة‭ ‬وأهم‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬فرويد‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬وكذلك‭ ‬أهم‭ ‬أعماله‭ ‬ضمن‭ ‬سياق‭ ‬تاريخي‭ ‬متسلسل‭. ‬

وفي‭ ‬المكان،‭ ‬لوحة‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬سيرغي‭ ‬بانكيجيف‭ (‬1886‭/ ‬1979‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬مريض‭ ‬روسي‭ ‬يعدّ‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬أشهر‭ ‬الحالات‭ ‬المرضية‭ ‬لدى‭ ‬فرويد‭. ‬

اللوحة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬شجرة‭ ‬يعتلي‭ ‬أغصانها،‭ ‬ليلًا،‭ ‬خمسة‭ ‬ذئاب،‭ ‬وهي‭ ‬تمثّل‭ ‬كابوسًا‭ ‬تعرّض‭ ‬له‭ ‬سيرغي‭ ‬خلال‭ ‬طفولته،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬حكى‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬لصاحب‭ ‬‮«‬تفسير‭ ‬الأحلام‮»‬‭ (‬1900‭).‬

ويعدّ‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬أحد‭ ‬أشهر‭ ‬الأحلام‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬وقد‭ ‬رسم‭ ‬سيرغي‭ ‬اللوحة‭ ‬لتكون‭ ‬صورة‭ ‬واضحة‭ ‬ومجسّدة‭ ‬لمنامه‭ ‬المزعج‭.‬

 

حلمُ‭ ‬سيرغي‭ ‬بانكيجيف

لعلّ‭ ‬تفسير‭ ‬هذا‭ ‬الحلم،‭ ‬حين‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬الطفولة‭ ‬المضطربة‭ ‬وغير‭ ‬العادية‭ ‬لسيرغي،‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬فرويد‭ ‬أكثر‭ ‬يقينًا‭ ‬بنظريته،‭ ‬حيث‭ ‬الجنس‭ ‬لاعب‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬الحياة‭ ‬العقلية‭.‬

ويرجع‭ ‬تفصيل‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نظرية‭ ‬فرويد‭ ‬تسند‭ ‬للجنس‭ ‬دور‭ ‬القائد‭ ‬الذي‭ ‬يوجّه،‭ ‬بلا‭ ‬وعي،‭ ‬مسلكيات‭ ‬البشر،‭ ‬وفيه‭ ‬تجتمع‭ ‬دوافع‭ ‬الجسد‭ ‬المختلفة‭. ‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬اللاعب‭ ‬الجنسي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة‭ ‬تحديدًا،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬التعرّض‭ ‬لاعتداء‭ ‬أو‭ ‬استغلال،‭ ‬له‭ ‬آثار‭ ‬وعواقب‭ ‬على‭ ‬مجمل‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬وعلى‭ ‬نموّه‭ ‬النفسي،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬على‭ ‬تشكيله‭ ‬الذاتي‭. ‬

كان‭ ‬سيرغي‭ ‬قد‭ ‬رأى‭ ‬في‭ ‬طفولته‭ ‬منامًا‭ ‬مرعبًا،‭ ‬خلق‭ ‬له‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬الدائم‭ ‬والشديد،‭ ‬لكن‭ ‬كيف‭ ‬نظر‭ ‬فرويد‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحلم؟‭ ‬الواقع‭ ‬أنه‭ ‬تعاطاه‭ ‬كما‭ ‬يتعاطى‭ ‬مع‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الأحلام‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬صفحات‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬تفسير‭ ‬الأحلام‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬منها،‭ ‬بل‭ ‬كثير‭ ‬منها،‭ ‬أحلام‭ ‬لفرويد‭ ‬نفسه،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الحلم‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يكشف‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬ترميزات‭ ‬تؤشّر‭ ‬إلى‭ ‬أحداث‭ ‬حُفرت‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الحالم‭.‬

‭ ‬هي‭ ‬إذن‭ ‬أداة‭ ‬حفر‭ ‬في‭ ‬لا‭ ‬وعي‭ ‬الذات‭. ‬لقد‭ ‬تحوّل‭ ‬سيرجي‭ ‬من‭ ‬طفل‭ ‬شقي‭ ‬إلى‭ ‬طفل‭ ‬منزوٍ‭ ‬دائم‭ ‬القلق‭. ‬

‭ ‬يقول‭ ‬سيرغي‭ ‬واصفًا‭ ‬حلمه‭: ‬‮«‬رأيت‭ ‬فيما‭ ‬يرى‭ ‬النائم‭ ‬أنني‭ ‬مستلقٍ‭ ‬بفراشي‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬ظلماء،‭ ‬وفجأة،‭ ‬فتحت‭ ‬النوافذ‭ ‬من‭ ‬تلقاء‭ ‬نفسها،‭ ‬كنت‭ ‬مرعوبًا‭ ‬وأنا‭ ‬أرى‭ ‬سبعة‭ ‬ثعالب‭ ‬بيض‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬أغصان‭ ‬شجرة‭ ‬جوز،‭ ‬كانت‭ ‬تحدّق‭ ‬بي‭ ‬من‭ ‬أمام‭ ‬النافذة،‭ ‬لونها‭ ‬شديد‭ ‬البياض‭ ‬وأذيالها‭ ‬كبيرة،‭ ‬ولها‭ ‬آذان‭ ‬منتصبة‭ ‬كآذان‭ ‬الكلاب‭ ‬حينما‭ ‬تحدّق‭ ‬بشيء‭ ‬ما‭. ‬كان‭ ‬مشهدًا‭ ‬مرعبًا‭ ‬لم‭ ‬أشكّ‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الذئاب‭ ‬ستلتهمني،‭ ‬ساعتها‭ ‬صرخت،‭ ‬فإذا‭ ‬بي‭ ‬أستيقظ‭ ‬من‭ ‬النوم‮»‬‭. 

 

في‭ ‬تأويلِ‭ ‬الحلمِ

حسبما‭ ‬يرى‭ ‬فرويد،‭ ‬الحلم‭ ‬إنما‭ ‬يرمز،‭ ‬وربما‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬رغبات‭ ‬مكبوتة‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة‭. ‬وعليه،‭ ‬فحلم‭ ‬‮«‬الرجل‭ ‬الذئب‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬بات‭ ‬يُعرف،‭ ‬ليس‭ ‬استثناءً‭.‬

صارح‭ ‬سيرغي‭ ‬فرويد‭ ‬بهذا‭ ‬الحلم،‭ ‬فوجّه‭ ‬فرويد‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬الاستيضاحية،‭ ‬وهي‭ ‬أسئلة‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬منهجية‭ ‬فرويد‭ ‬في‭ ‬تأويل‭ ‬الأحلام‭. ‬يسأل‭ ‬فرويد‭ ‬سيرغي‭: ‬لماذا،‭ ‬برأيك،‭ ‬كانت‭ ‬الذئاب‭ ‬بيضاء؟‭ ‬فيجب‭ ‬سيرغي‭ ‬بأنها‭ ‬ربما‭ ‬تذكّره‭ ‬بالخراف‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يراها‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬أبوه‭ ‬يأخذه‭ ‬في‭ ‬نزهة‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬منزله‭. ‬ويضيف‭ ‬معلومة‭ ‬هي‭ ‬بمنزلة‭ ‬مفتاح‭ ‬التفسير،‭ ‬يقول‭ ‬سيرغي‭ ‬إن‭ ‬والده‭ ‬كان‭ ‬دائم‭ ‬المزاح‭ ‬معه،‭ ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬مازحًا‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬سيأكله‮»‬،‭ ‬وعمّا‭ ‬قريب‭ ‬سيموت‭ ‬والده،‭ ‬مما‭ ‬يثير‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬سيرغي‭ ‬الأسى‭ ‬والحزن‭. ‬

ويعاود‭ ‬فرويد‭ ‬تساؤلاته؛‭ ‬ولماذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬شجرة‭ ‬في‭ ‬الحلم؟‭ ‬يردّ‭ ‬سيرغي‭ ‬بأنها‭ ‬تذكّره‭ ‬بشجرة‭ ‬عيد‭ ‬الميلاد،‭ ‬فحلمه‭ ‬جاء‭ ‬ليلة‭ ‬قبل‭ ‬عيد‭ ‬الميلاد‭ ‬الذي‭ ‬يصادف‭ ‬عيد‭ ‬ميلاده‭ ‬هو‭ ‬أيضًا،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬كنت‭ ‬أنتظر‭ ‬هدايا‭ ‬عيد‭ ‬الميلاد‭ ‬التي‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬ذئاب‮»‬‭. ‬‮«‬لماذا‭ ‬كانت‭ ‬آذان‭ ‬الذئاب‭ ‬منتصبة؟‮»‬‭ ‬يسأل‭ ‬فرويد‭. ‬‮«‬إنها‭ ‬تذكّرني‭ ‬بصورة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬قصصي‭ ‬كانت‭ ‬أختي،‭ ‬التي‭ ‬تكبرني‭ ‬سنًا،‭ ‬تتعمّد‭ ‬وضعه‭ ‬أمامي،‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬يثير‭ ‬الرّعب‭ ‬داخلي‭. ‬كانت‭ ‬أختي‭ ‬شقيّة‭ ‬ومحظيّة‭ ‬لدى‭ ‬والدي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬أولد‭ ‬أنثى‭ ‬وتولُد‭ ‬أختي‭ ‬ذكرًا،‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬أعوام،‭ ‬انتحرت‭ ‬أختي‭ ‬ولم‭ ‬أشعر‭ ‬بالحزن‭ ‬عليها‮»‬‭. ‬

وهكذا،‭ ‬يتابع‭ ‬فرويد‭ ‬استنطاق‭ ‬سيرغي‭ ‬بالأسئلة‭ ‬التفصيلية‭ ‬لمشهد‭ ‬الحلم‭ ‬كاملًا،‭ ‬‮«‬لماذا‭ ‬للذئاب‭ ‬أذيال‭ ‬كبيرة؟،‭ ‬ولماذا‭ ‬كانت‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬شجرة؟،‭ ‬ولماذا‭ ‬كانت‭ ‬ستة‭ ‬أو‭ ‬سبعة؟‮»‬‭.‬

وتتنوع‭ ‬إجابات‭ ‬سيرجي،‭ ‬لكنّه‭ ‬في‭ ‬السؤال‭ ‬الأخير‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬العدد‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بقصة‭ ‬الذئب‭ ‬والعنزات‭ ‬السبع‭.  

‭ ‬

ما‭ ‬الذي‭ ‬يحوّل‭ ‬أحلامنا‭ ‬كوابيس؟‭ ‬

يقسّم‭ ‬فرويد‭ ‬المواد‭ ‬المجموعة‭ ‬حول‭ ‬حالة‭ ‬سيرغي‭ ‬إلى‭ ‬قسمين؛‭ ‬أحدهما‭ ‬مختص‭ ‬بمادة‭ ‬الحلم،‭ ‬والآخر‭ ‬بأفكار‭ ‬الحلم‭. ‬وعبر‭ ‬تلك‭ ‬المعطيات،‭ ‬يعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬الحلم‭ ‬وبناءه‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ليكشف‭ ‬كوامنه‭ ‬ودوافعه‭ ‬الحقيقية‭. ‬بذلك‭ ‬يخلص‭ ‬فرويد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬وراءه‭ ‬إنّما‭ ‬هو‭ ‬بروز‭ ‬وعي‭ ‬مبكّر‭ ‬للاختلاف‭ ‬بين‭ ‬الجنسين‭. ‬ويستعين‭ ‬فرويد،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬بعُقدة‭ ‬أوديب‭. ‬

كتاب‭ ‬‮«‬تفسير‭ ‬الأحلام‮»‬،‭ ‬المنهجية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬فرويد،‭ ‬محاولة‭ ‬مبكرة‭ ‬لصوغ‭ ‬نظرية‭ ‬في‭ ‬فاعلية‭ ‬اللاوعي‭ ‬المتشكل‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة،‭ ‬لكن‭ ‬الباقي‭ ‬أثره‭ ‬والمستمرة‭ ‬هيمنته‭ ‬وفاعليته‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬بمختلف‭ ‬مراحل‭ ‬الإنسان‭. ‬

فالأحلام‭ ‬هي‭ ‬نشاط‭ ‬عقلي‭ ‬محوري‭ ‬لها‭ ‬منطقها‭ ‬الخاص‭ ‬غير‭ ‬المنفصل‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬اللاوعي،‭ ‬وبعبارة‭ ‬مباشرة‭ ‬تصير‭ ‬الأحلام‭ ‬متنفّس‭ ‬اللاوعي‭. ‬ولئن‭ ‬كان‭ ‬فرويد‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬الآليات‭ ‬والميكانيزمات‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬بها‭ ‬الأحلام،‭ ‬فليس‭ ‬ذلك‭ ‬إلّا‭ ‬للإضاءة‭ ‬على‭ ‬كيفية‭ ‬اشتغال‭ ‬اللاوعي،‭ ‬ودوره‭ ‬الجوهري‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭.‬

يقول‭ ‬فرويد‭: ‬‮«‬إن‭ ‬تفسير‭ ‬الأحلام‭ ‬هو‭ ‬الطريق‭ ‬الملكي‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬أنشطة‭ ‬العقل‭ ‬اللاواعية‮»‬،‭ ‬إنها،‭ ‬إذن،‭ ‬إحدى‭ ‬الأدوات‭ ‬الأثيرة‭ ‬عند‭ ‬فرويد،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تمثّل‭ ‬الطريقة‭ ‬المثلى‭ ‬لفهم‭ ‬نظريته‭ ‬بما‭ ‬أننا‭ ‬جميعنا‭ ‬نحلم‭ ‬في‭ ‬مناماتنا‭.‬

وعند‭ ‬فرويد،‭ ‬كل‭ ‬حلم‭ ‬له‭ ‬معنى‭ ‬مهما‭ ‬بدا‭ ‬عشوائيًا‭. ‬أن‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬مضمون‭ ‬الحلم‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬رموز‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬الجديد،‭ ‬فمعلوم‭ ‬أن‭ ‬تفسير‭ ‬الأحلام‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الثقافات‭ ‬يجعل‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭ ‬يراه‭ ‬المرء‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬ترميزًا‭ ‬لحدث‭ ‬أو‭ ‬مصير‭ ‬ينتظر‭ ‬الحالم،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬فرويد،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يقرّ‭ ‬برمزية‭ ‬موجودات‭ ‬الحلم،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬المرموز‭ ‬أو‭ ‬المدلول‭ ‬المشار‭ ‬إليه‭ ‬يختلف‭ ‬جذريًا‭ ‬عن‭ ‬التفسيرات‭ ‬الأخرى‭ ‬الماورائية‭ ‬والغرائبية‭.‬

ويرى‭ ‬فرويد‭ ‬أنه‭ ‬يقدّم‭ ‬تفسيرًا‭ ‬علميًا‭ ‬للأحلام،‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬ابتكار‭ ‬منهج‭ ‬علمي‭ ‬واضح‭ ‬القسمات‭ ‬لتفسيرها‭. ‬فالحلم‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬صفة‭ ‬غيبية‭ ‬ماورائية،‭ ‬وعلى‭ ‬العكس‭ ‬تمامًا‭ ‬تغوص‭ ‬مدلولاته‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬شخصية‭ ‬الحالم،‭ ‬وتكشف‭ ‬عن‭ ‬موجّهات‭ ‬اللاوعي‭. ‬لا‭ ‬يفرض‭ ‬فرويد‭ ‬على‭ ‬مرضاه‭ ‬تأويلًا‭ ‬أوّليًا‭ ‬لأحلامهم،‭ ‬وإنما‭ ‬يدعوهم‭ ‬إلى‭ ‬الاسترخاء‭ ‬التام،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الإفضاء‭ ‬بما‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬يمثّل‭ ‬أحلامهم‭ ‬عبر‭ ‬تداعٍ‭ ‬حُرّ‭ ‬للأفكار‭ ‬يخلص‭ ‬منه‭ ‬فرويد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وراء‭ ‬الحلم‭ ‬تتوارى‭ ‬رغبات‭ ‬مكبوتة‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬الطفولة‭. 

 

ما‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي؟

وإذا‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نجمل‭ ‬نظرية‭ ‬فرويد‭ ‬بكلمات‭ ‬قليلة،‭ ‬ربّما‭ ‬مخلة‭ ‬في‭ ‬استيفاء‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬لكنّها‭ ‬وافية‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬نظرة‭ ‬سريعة‭ ‬لا‭ ‬نطمح‭ ‬لأكثر‭ ‬منها،‭ ‬إذ‭ ‬ليس‭ ‬فرويد‭ ‬ممن‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬فرد‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬القول‭ ‬له،‭ ‬فنظريته‭ ‬معروفة‭ ‬ومعروضة‭ ‬منذ‭ ‬حين‭ ‬وضعها‭ ‬وإلى‭ ‬يوم‭ ‬الناس‭ ‬هذا،‭ ‬فنقول‭ ‬إن‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬نظرية‭ ‬في‭ ‬الذهن‭ ‬ومنهج‭ ‬يعين‭ ‬الناس،‭ ‬وفق‭ ‬مريديها،‭ ‬على‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬آلامهم‭ ‬ومتاعبهم‭ ‬النفسية،‭ ‬وربما‭ ‬يضيف‭ ‬المطّلع‭ ‬على‭ ‬نتاج‭ ‬فرويد‭ ‬ضمن‭ ‬سياقه‭ ‬التاريخي‭ ‬بأنّه‭ ‬مقاربة‭ ‬شاملة‭ ‬عابرة‭ ‬للتخصصات‭ ‬لقراءة‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬جملة‭.‬

ولما‭ ‬كانت‭ ‬كبريات‭ ‬المدارس‭ ‬الفكرية‭ ‬والفلسفات‭ ‬ذات‭ ‬البناء‭ ‬المتماسك‭ ‬يمكن‭ ‬ردّها‭ ‬إلى‭ ‬نواة‭ ‬نظرية‭ ‬تمثّل‭ ‬أساسًا‭ ‬لهيكل‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬تجسّده‭ ‬التفاصيل‭ ‬والمواد‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬تكون‭ ‬تاريخية‭ ‬أو‭ ‬سيكولوجية‭ ‬أو‭ ‬غيره،‭ ‬بوسعنا‭ ‬أن‭ ‬نجمل‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬عند‭ ‬صاحبه‭ ‬فرويد‭ ‬بفكرة‭ ‬بسيطة‭ ‬مفادها‭ ‬أنّ‭ ‬السلوك‭ ‬الإنساني‭ ‬يتحدد‭ ‬بدوافع،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬يظهر،‭ ‬لا‭ ‬واعية‭ ‬هي‭ ‬نتاج‭ ‬أحداث‭ ‬وملابسات‭ ‬جرت‭ ‬بمرحلة‭ ‬الطفولة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬أغلبها‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬دوافع‭ ‬أو‭ ‬مخاوف‭ ‬مكبوتة‭ ‬متعلقة‭ ‬بالجنس‭ ‬ومجانبة‭ ‬الشهوة‭ ‬والفقدان‭ ‬والحب‭ ‬والموت‭. ‬

إن‭ ‬سيرغي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عانى‭ ‬كثيرًا‭ ‬المتاعب‭ ‬النفسية،‭ ‬ولجأ‭ ‬إلى‭ ‬الكثيرين،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬فرويد،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬من‭ ‬يُعره‭ ‬سمعه‭ ‬أو‭ ‬يصغي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يظن‭ ‬هو‭ ‬أنّه‭ ‬سرّ‭ ‬معاناته‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬المريض‭ ‬النفسي،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العهد،‭ ‬لا‭ ‬يجري‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬إلّا‭ ‬بوصفه‭ ‬مريضًا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬علاج‭ ‬فيزيائي،‭ ‬ولم‭ ‬يفكر‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقوله،‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬تُرَّهات‭ ‬مجنون‭.‬

أما‭ ‬فرويد،‭ ‬فقد‭ ‬أصاخ‭ ‬السمع‭ ‬لمرضاه،‭ ‬وهو‭ ‬بذلك‭ ‬أول‭ ‬طبيب‭ ‬نفسي‭ ‬يرى‭ ‬أهمية‭ ‬بل‭ ‬وقيمة‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬المرضى‭ ‬من‭ ‬حكايا‭ ‬ماضيهم‭ ‬وحاضرهم‭. ‬

تقوم‭ ‬نظرية‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬على‭ ‬مفاهيم‭ ‬أساسية‭ ‬تشتبك‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬لتشكّل‭ ‬صورة‭ ‬المقاربة‭ ‬التحليلية‭. ‬ولعلّ‭ ‬أهم‭ ‬المفاهيم‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ذكرنا‭ ‬آنفًا؛‭ ‬اللاوعي‭ ‬المكبوت،‭ ‬فلتات‭ ‬اللسان‭ ‬والأخطاء‭ ‬غير‭ ‬المتعمدة‭ ‬والعبارات‭ ‬التي‭ ‬نستخدمها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفكير‭ ‬ورويّة،‭ ‬لكنّ‭ ‬الأهم‭ ‬الأحلام،‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬الأبواب‭ ‬التي‭ ‬يدخل‭ ‬عبرها‭ ‬فرويد‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬المعتمة،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يدخلها‭ ‬فرويد‭ ‬حتى‭ ‬يلفي‭ ‬أمامه‭ ‬المفاجأة؛‭ ‬الجنس‭.‬

 

عقدة‭ ‬أوديب

لا‭ ‬يرتبط‭ ‬الجنس‭ ‬باللذة‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬يتصل‭ ‬بالقلق‭ ‬والمعاناة‭ ‬النفسية،‭ ‬وعليه‭ ‬يعود‭ ‬فرويد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يعتبره‭ ‬بذرات‭ ‬جنسية‭ ‬منذ‭ ‬تجربة‭ ‬الرضاعة‭ ‬الأولى‭. ‬

ولتوضيح‭ ‬مغزاه،‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الميثولوجيا‭ ‬الإغريقية،‭ ‬ويستعين‭ ‬بعقدة‭ ‬أوديب‭ ‬الشهيرة‭ ‬القائلة‭ ‬بقتل‭ ‬ابن‭ ‬لوالده،‭ ‬نظرًا‭ ‬لرغبته‭ ‬في‭ ‬أمّه‭. ‬وهكذا‭ ‬يغوص‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الطفولة‭ ‬للكشف‭ ‬عن‭ ‬العُقد‭ ‬النفسية‭ ‬المتصلة‭ ‬بالوالدين،‭ ‬والتي‭ ‬رميت‭ ‬هكذا‭ ‬في‭ ‬اللاوعي‭ ‬أو‭ ‬اللاشعور‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬تلك‭ ‬الأحداث‭ ‬والمجريات‭ ‬ينشأ‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬بين‭ ‬الأنا‭ ‬والأنا‭ ‬الأعلى،‭ ‬والـ«هُو‮»‬‭ ‬أو‭ ‬اللاشعور‭. ‬فالـ‭ ‬‮«‬هو‮»‬‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬ميدان‭ ‬الرغبات‭ ‬والشهوات،‭ ‬والأنا‭ ‬الأعلى‭ ‬يمثّل‭ ‬الأخلاق‭ ‬والمعايير‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ما،‭ ‬والمفروضة‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬من‭ ‬الخارج‭.‬

أما‭ ‬الأنا‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬بين‭ ‬المحددين‭ ‬السابقين،‭ ‬وهي‭ ‬دائمة‭ ‬المحاولة‭ ‬لخلق‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬رغباتها‭ ‬وقيم‭ ‬المجتمع،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬تنفي‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬متطلّباتها‭ ‬ومطلوباتها‭ ‬في‭ ‬الحجرة‭ ‬المظلمة؛‭ ‬اللاوعي‭. ‬

يذكر‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬عقدة‭ ‬أوديب‭ ‬كانت‭ ‬مثار‭ ‬نقد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬دولوز‭ ‬وفليكس‭ ‬غاتاري‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬أنها‭ ‬تعزّز‭ ‬النظام‭ ‬الأبوي‭ ‬الذكوري‭ ‬الرأسمالي‭ ‬في‭ ‬الثلاثية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬عُقدة‭ ‬أوديب؛‭ ‬أعني‭ ‬الأب‭ ‬الذبيح‭ ‬والأم‭ ‬المشتهاة‭ ‬والابن‭ ‬القاتل،‭ ‬لكن‭ ‬جان‭ ‬لاكان‭ ‬ردّ‭ ‬على‭ ‬نقديهما‭ ‬بتبيان‭ ‬الطابع‭ ‬الميثولوجي‭ ‬الأسطوري‭ ‬لعقدة‭ ‬أوديب‭ ‬في‭ ‬التنظيرات‭ ‬الفرويدية‭.‬

 

عودةٌ‭ ‬لحلمِ‭ ‬سيرغي

وهكذا،‭ ‬فإنّ‭ ‬المنام‭ ‬الذي‭ ‬رآه‭ ‬سيرغي،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الرابعة،‭ ‬إنما‭ ‬كان‭ ‬انعكاسًا‭ ‬لحادثة‭ ‬جرت‭ ‬له‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬حين‭ ‬شاهد‭ ‬أبويه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬حميمية،‭ ‬شكّلت‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الصدمة‭ ‬وقبلها‭ ‬تحرّش‭ ‬أخته‭ ‬الشقيّة،‭ ‬التي‭ ‬تكبره‭ ‬بسنوات‭ ‬قليلة،‭ ‬به‭.‬

لقد‭ ‬ظل‭ ‬الرعب‭ ‬يساور‭ ‬سيرغي‭ ‬جراء‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬لستّة‭ ‬أشهر،‭ ‬حتى‭ ‬بدأت‭ ‬أمّه‭ ‬تقرأ‭ ‬له‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدّس،‭ ‬فأُخذ‭ ‬بقصة‭ ‬السيد‭ ‬المسيح،‭ ‬فكانت‭ ‬بمنزلة‭ ‬ترياق‭ ‬لآلامه،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬مارس‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬الطقوس‭ ‬والشعائر‭ ‬الدينية‭.‬

كان‭ ‬سيرغي‭ ‬قد‭ ‬عانى،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬وواجهته‭ ‬مصاعب‭ ‬حياتية‭ ‬ونفسية،‭ ‬فالثورة‭ ‬البلشفية‭ ‬التي‭ ‬أسقطت‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬جلبت‭ ‬له‭ ‬الخسار‭ ‬والبوار،‭ ‬فقد‭ ‬صادرت‭ ‬الثورة‭ ‬كل‭ ‬ممتلكات‭ ‬هذا‭ ‬الأرستقراطي،‭ ‬وأجبرته‭ ‬على‭ ‬مغادرة‭ ‬البلاد،‭ ‬فلجأ‭ ‬إلى‭ ‬فيينا،‭ ‬وقضى‭ ‬فيها‭ ‬بقية‭ ‬حياته‭ ‬معدمًا‭ ‬فقيرًا‭ ‬يعيش‭ ‬على‭ ‬مساعدات‭ ‬كان‭ ‬فرويد‭ ‬يدفعها‭ ‬إليه‭. ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬قصة‭ ‬أشهر‭ ‬حالات‭ ‬فرويد‭ ‬المرَضية،‭ ‬التي‭ ‬يعلم‭ ‬تفاصيلها‭ ‬كل‭ ‬مختص‭ ‬بالتحليل‭ ‬النفسي‭.‬

وهكذا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لوحة‭ ‬سيرجي،‭ ‬طوّفت‭ ‬بنا‭ ‬قيمة‭ ‬المتحف‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬فرويد‭ ‬وتصوّراته‭ ‬الجديدة‭. ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬اللوحة‭ ‬منطلقًا‭ ‬لتناول‭ ‬تفاصيل‭ ‬كثيرة‭.‬

 

حجرة‭ ‬آنّا‭ ‬فرويد

يواجه‭ ‬الصاعد‭ ‬من‭ ‬الدرج‭ ‬مباشرة‭ ‬باب‭ ‬حجرة‭ ‬ابنته،‭ ‬آنّا‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬فرويد‭ ‬لم‭ ‬يعِش‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عام،‭ ‬فإن‭ ‬ابنته‭ ‬آنّا‭ ‬سكنت‭ ‬البيت‭ ‬أربعًا‭ ‬وأربعين‭ ‬عامًا‭. ‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬يعجّ‭ ‬البيت‭ ‬بذكرياتها‭ ‬الخاصة‭ ‬وتجاربها‭ ‬ودراساتها‭ ‬العملية،‭ ‬فآنّا،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬عمدت‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬مذهب‭ ‬والدها‭ ‬النفسي،‭ ‬وفتحته‭ ‬على‭ ‬ساحة‭ ‬جديدة‭ ‬هي‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬للأطفال‭. ‬

تضمّ‭ ‬الحجرة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬والأعمال‭ ‬الخاصة‭ ‬بها،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬الأثاث‭ ‬الذي‭ ‬يتضمّن‭ ‬سرير‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬الخاص‭ ‬بها،‭ ‬ومكتبها‭ ‬وأشياءها‭ ‬الخاصة‭.‬

أما‭ ‬الحجرة‭ ‬التي‭ ‬تلي‭ ‬حجرة‭ ‬آنّا،‭ ‬فمخصصة‭ ‬لعرض‭ ‬فيلم‭ ‬وثائقي‭ ‬يحكي‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬لفرويد،‭ ‬ويستغرق‭ ‬20‭ ‬دقيقة‭. ‬الفيلم‭ ‬يعرض‭ ‬صورًا‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬فرويد‭ ‬في‭ ‬النمسا‭ ‬ولندن،‭ ‬يرافقه‭ ‬تعليقات‭ ‬بصوت‭ ‬ابنته‭ ‬آنّا،‭ ‬ومن‭ ‬مثير‭ ‬ما‭ ‬يعرضه‭ ‬تسجيل‭ ‬نادر‭ ‬للقاء‭ ‬جرى‭ ‬مع‭ ‬فرويد‭. ‬ولئن‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحجرة‭ ‬فستجد‭ ‬إلى‭ ‬يمينها‭ ‬مدخلًا‭ ‬لحجرة‭ ‬المعرض،‭ ‬وبها‭ ‬تقام‭ ‬المعارض‭ ‬المؤقتة‭.‬

جلسنا،‭ ‬بعد‭ ‬تجوّلنا‭ ‬في‭ ‬زوايا‭ ‬البيت،‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬المتحف،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أخذنا‭ ‬كوبًا‭ ‬من‭ ‬القهوة،‭ ‬وابتعنا‭ ‬بعض‭ ‬الكتب؛‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬لفرويد،‭ ‬رغم‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬ترجمتها‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مكتبتي‭ ‬الخاصة،‭ ‬ومنها‭ ‬مراجع‭ ‬تتحدّث‭ ‬عن‭ ‬مدرسة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬وعن‭ ‬علاقة‭ ‬فرويد‭ ‬بفلاسفة‭ ‬ومفكرين؛‭ ‬مثل‭ ‬إيريك‭ ‬فروم‭.‬

وأنا‭ ‬مستغرق‭ ‬في‭ ‬القراءة،‭ ‬فإذا‭ ‬بقيّمة‭ ‬المتحف‭ ‬تقطع‭ ‬عليّ‭ ‬خيوط‭ ‬فكرة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬تفسير‭ ‬الأحلام‮»‬‭. ‬

قالت‭ ‬كالمعتذرة‭: ‬لدينا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأنشطة،‭ ‬بل‭ ‬والفصول‭ ‬التعليمية‭ ‬يقدّمها‭ ‬مختصون‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬التراث‭ ‬الفرويدي‭ ‬تستطيع‭ ‬التسجيل‭ ‬بها‭ ‬إن‭ ‬أردت،‭ ‬كذلك‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬عضوًا‭ ‬صديقًا‭ ‬للمتحف،‭ ‬فتستفيد‭ ‬من‭ ‬ميزات‭ ‬العضوية‭ ‬الكثيرة،‭ ‬كالدخول‭ ‬غير‭ ‬المحدود‭ ‬للمتحف،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬الحسومات‭ ‬في‭ ‬متجر‭ ‬المتحف‭ ‬وعلى‭ ‬الدروس‭ ‬التعليمية‭. ‬أجبتها‭ ‬شاكرًا‭ ‬بأنني‭ ‬مجرد‭ ‬سائح‭ ‬وإقامتي‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬وإن‭ ‬تكررت،‭ ‬فإنّها‭ ‬لا‭ ‬تستغرق‭ ‬سوى‭ ‬أيام‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬الأسبوع‭.‬

‭ ‬ختام‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬كان‭ ‬بوجبة‭ ‬تجمع‭ ‬غداء‭ ‬بعشاء،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬سمك‭ ‬مع‭ ‬بطاطا‭ ‬مقليّة،‭ ‬تلك‭ ‬الشهيرة‭ ‬هنا‭ ‬بـ‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬فيش‭ ‬آند‭ ‬شيبس‮»‬‭ ‬■

في‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬النهر،‭ ‬يظهر‭ ‬برج‭ ‬ساعة‭ ‬‮«‬بيغ‭ ‬بن‮»‬‭ ‬تغطّيه‭ ‬سقالات‭ ‬الترميم

حافلات‭ ‬لندن‭ ‬الحمراء‭ ‬ذات‭ ‬الطابقين‭... ‬علامة‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬المدينة

المشاة‭ ‬يعبرون‭ ‬الجسر‭ ‬من‭ ‬متحف‭ ‬‮«‬تيت‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬الكاتدرائية

يتميّز‭ ‬‮«‬التايمز‮»‬‭ ‬بجسور‭ ‬تربط‭ ‬المدينة‭ ‬ببعضها

رياضة‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬سكيت‭ ‬بورد‮»‬‭ ‬أو‭ ‬التزلّج‭ ‬على‭ ‬الألواح‭ ‬لها‭ ‬حضورها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضع‭ ‬من‭ ‬ضفاف‭ ‬التايمز‭... ‬وتبرز‭ ‬فيه‭ ‬جداريات‭ ‬الغرافيتي

كاتدرائية‭ ‬القدّيس‭ ‬بولس،‭ ‬تعلوها‭ ‬قبّة‭ ‬جميلة‭ ‬التصميم‭ ‬بارتفاع‭ ‬لافت

باحة‭ ‬الكاتدرائية‭ ‬التي‭ ‬يعود‭ ‬تاريخها‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬1400‭ ‬عام

أريكة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭... ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬فرويد‭ ‬يناظر‭ ‬حالاته‭ ‬المرضية‭ ‬ويُنصت‭ ‬إليها‭ ‬باهتمام‭ ‬بالغ